كاهنة عباس - عن أسرار الموت وما نصمت عنه

أن نتحدث عن الموت، معناه أن نقر بأن وجودنا ليس سوى حدثا مؤقتا وأن الزوال ينتظرنا ،وأن جميع أهدافنا لا جدوى منها .

أن نتحدث عن الموت، معناه قبول الاستمرار وما يقتضيه من بداية ونهاية، وما يطرحه من تساؤل، وما يبثه من رهبة وقدسية .

بل إن الحديث عن الموت، يجعل من الحب حاجة أكيدة وملحة لدينا، بل وكذلك ملاذا يقينا من حتمية المصير، يثير في ذواتنا كل الرغبات ،كي ترتوي حينا، اليوم قبل الغد ،أي قبل الرحيل .

وحتى وإن صمتنا عن الحديث حول الموت ،علينا أن لا ننسى أننا وهبنا لايام الاسبوع أسماء وللاشهر أسماء، وانطلقنا نعد السنين وهي تتزايد، دون أن نهمس حتى لأنفسنا : أن العد تصاعدي لأعمارنا هو في الحقيقة انخفاض في عدد السنين التي عشناها، بما أننا نقترب يوما بعد يوم من النهاية ......

ما يرهبنا في ذاك الحديث عن الموت ،هوما ندركه وما لا ندركه عن أسرار النوم، عندما نغيب ،وعن خفايا الالم عندما نتذكر من رحلوا عنا ...

فالعبادة استحضار للموت على أنه الرحيل الى جنة الخلد ، والصلاة هو ما نردده لنخفف عن أنفسنا من رهبة الوحدة وقسوة الموقف ، جميع الاسرار قابلة للاكتشاف، ما عدا الموت ،لانه الفناء ،اللاشيء، العدم .....

لان الموت لا يمكن أن يكون موضوع حديث، دون أن يكون مركزا للحيرة وللخوف، فقد سعينا الى أن نلبسه ثوبا آخر هو ثوب الانفلات والمبالغة والمغامرة، فجعلناه تشبيها لبعض حالاتنا حين نصفها : على أنها الحب حتى الموت ، والوفاء حتى الموت ، والعطاء حتى الموت ، لانها تدفعنا الى الاقصى الى المجهول الى النقيض ،تلك هي الامكانية الوحيدة الممنوحة لنا إنسانيا ، لكي نقول الموت بوصفه فعلا ممكنا ،لانه يجرنا الى تجربة قصوى ،نعم الموت بهذا المعنى ،أي من أجل هدف آخر ،هو الفعل الباعث على التغيير إذا ما تقمص دور الاستعارة، إنه الموت النبيل، لنبل سببه أو غايته في صورة تحققه ،وهو الموت الجميل أو الشوق، إذا ما بقي في موضع التشبيه .

الجزاء والعقاب والحلال والحرام ، والجنة والجحيم والروح وخلودها بعوالمها الغيبية، جميعها مسائل متصلة بالفناء والموت، لانها تطمح الى إسداء المعنى المفقود لكل ما نفعل ونقول .إنها الضفة الاخرى التي تحاول أن ترسم له وجها معروفا وزمنا ماورائيا وعالما جديدا، طبق نواميس لا تعرف الفساد والظلم والزوال وهو ما يفسر ما يحيط توديع الميت من طقوس تصل الى حد الاحتفال أحيانا.

وكذاك الذاكرة والتاريخ لما يحفظ ولما ينسى ، إنهما السلاح الذي نجابه به الموت تأليفا وكتابة وقولا واحتفالا من خلال الحكي الذي نسرده لنتذكر ما كان، حتى نبعث باستمرار ما يبدده الموت من المعانى والاهداف والغايات من كل أفعالنا .

كيف نتجاهل إذا ،ما تفرزه أجسادنا يوميا من الغوط والفضلات النابعة من نفس الاعضاء التي بها نتناسل وننتشي ،أو لم ندرك بعد أن موطن الحياة والموت واحد وموطن الفساد والنشوة واحد، وهل من دليل أكبر على هشاشة ما نعيشه وما نحس به ونتصوره ؟ هل من دليل يستحق البحث والتفكيرسوى أننا نخفي ذلك لا من باب الحياء فحسب، بل من باب التنكر والكبرياء ،نعم نحن نخفي مظاهر الحياة كيف تنبع وكيف تزول ونصمت حتى عن التعرض لها أو وصفها ،فلا نذكر الغوط ولا الجنس .

أما عن معاني الجمال أليست مؤسسة على كونه فان ؟ وعن مسار المعرفة ،أليس لبلوغ حقيقة ما يبقى وما يزول ؟ألم يعرف أحدهم الفلسفة على أنها : أن نتعلم كيف نموت ؟

ترى من نكون إذا؟ وعي بمعنى الكائن الذي يحفظ ويفهم ما يحيط به ،أم إنسان بمعنى المرواحة بين الانس (بمعنى الاستئناس ) والنسيان بمعنى الكائن الذي نسي ما عهد إليه ؟

ومهما يكن التعريف ، فالزوال فينا حاضر حتى وإن تجنبنا الحديث عنه أو وصفه عاريا من كل قدسية أو تشبيه .


كاهنة عباس



كاهنة عباس

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى