*أميرة* فتاة فائقة الجمال .. تغرب الشَّمس إذا أشرق جَمالُ وجْهها الصَّقيل, عُمرها لَم يتجاوز التاسعة عشرة ربيعاً, كانت حياتُها عادية جدّاً .. لكنَّ القدر لم يُمهلها فرصة للفرح مع والدتِها التِي لطالَما حلُمتْ برؤيتها ترتدي الفستان الأبيض، مُحلِّقةً عالياً فِي فضاء السعادة، والحبور .. كما تُحلِّق فراشةٌ فِي فضاء البستان لتُعلِن عن قدوم فصْل الربيع.
خان الزمن أميرة وكان قاسيا عليها، إذ سلب منها روح والدتها إثر خطأ طبِّيٍّ تعرَّضت له بعد إجرائها لعملية جراحية دقيقة فِي رأسها بمصلحة طب الأعصاب. وقد كانت آخرُ هدية تلقَّتها من والدتها الراحلة حذاءً باريسيّاً أبيضاً، ومُرصعاً ببعض الأحجار الكريمة، وموَشىً بقطع الدانتيل المُتناثرة على جانبيه .. فقد كانت أميرةُ ولوعةً بالأحذية منذ نعومة أظافرها.
حتى وهي بالمنام كانت تحلم بانتقاء أجمل الأحذية .. تحلم باقتنائها، وارتدائها .. وما استطاعت يوماً أن تُسيطر على هذه الرغبة المجنونة الجامحة.
سُرعان ما انقلبت حياة أميرة رأسا على عقب بعد زواج أبيها ثانيةً، ليُصبح “الزواجُ”خلاصَها الوحيد بالنجاة من سوء مُعاملة زوج أبيها وجفاء والدها الجارح. توقفت أميرة عن الدراسة و بدأت تشتغل كبائعةٍ فِي بعض المحلات, بعدها التحقت بالعمل في مقهى أنترنيت حيث فتحت حسابا بالفايسبوك، وأنشأتْ قناة السكايب للتواصل فربطتها بالعالم الإفتراضي عدة صداقات من خارج الوطن .. إلى أن وقعت فِي شباك الحُب عروساً هاربة من البحر .. رافضةً قوانينه، وأعرافه التي كانت ترى فيها قيداً على حُريتها ومشاعرها، وإحساسِها بالأمان، والدفئ العائلي .. وبالحُب والحنان المسلوبِ منها بعد رحيل والدتها.
كانت مُعظم الصُور التي تنشرها *أميرة* بالفايسبووك, صُوَرَ أحذية, فمرة تنشر صورةً لِوجهها، وتنشر صورةً لطرازٍ جديد من الأحذية مرَّةً أخرى، فضلا عن مواقع تنشر موديلات الأحذية بمختلف الأشكال، والألوان، والماركات ..
كان حبيبها ” أمين ” الذي يقطن بباريس يُشاركها هوَس الأحذية، بَيْد أنَّه يعشق “الحذاء الرياضي”، فأصبحا يتنافسان على نشر معظم الصُور التي تأتيهما من مواقع شتَّى تروِّج لبيع الأحذية و بمختلف الماركات العالمية، إلى أن تطورتِ العلاقةُ بينهما بفضْل محادثاتِهما على السكايب، فأصبح الحُب قدرهما المتبادلَ بدَلَ قدر الهوَس بالأحذية !
لَم تزر السعادة قلب أحدهما قط إلى أن بدأت شمسها تلوح بالأفق بعدما وقعا في الحُب؛ ” أميرة وأمين ” جسدان بروح واحدة، بحُكم التشابه بينهما فِي المعاناة، والحسرة، والألم .. وفُقدان حنان الأب الذي تشغله الدنيا، وجمع الأموال، والصفقات، وإدارة الأعمال عن احتضان أبنائه، وتقبيلِ جباههم …
*الحبيبان* شابان ذكيان طموحان مُفعمان بالحيوية، غير أنَّ قلْبيهما مسكونان بِحزن دفين .. إنَّهما يشكوان من عقدة الحنان الأبويّ منذ الطفولة، ويشتركان، أيضاً، فِي عشق الأحذية .. لَم يُحقق أي منهُما نجاحا يُذكر لكن بداخل كليهما حُلم يرجوان تحقيقه، فأميرةُ تحلم بالزواج عروسةً تلْبس الحذاء الذي أهدته لها والدتها الراحلة، وأمين يحلم بالفوز بإحدى المُباريات ليتوج فريقه بالكأس عسى أن يغدوَ لاعباً مشهوراً، فيحصل على الحذاء الذهبي كأحسن لاعب كرة قدم دولي في العالم.
لقد كان أمين ابن الثانية والعشرين عاماً, يتمتع بلياقة بدنية ملفتة، وكان يوجِّه كل طاقاته، وجهده إلى بلوغ هدفه، فما لبث يُضاعف من حصص التدريب إلى أن اقترب موعد مباراة إنجلترا حيث كانت حظوظه كبيرة لضمِّ اسمه ضمن القائمة الأساسيَّة لللاعبين.
ذات مساءٍ، اتصل أمين بأميرة وقلبه يدُق من شدة الفرح نغمات ” أول مرة تحب ياقلبِي ” .. خلف شاشة الحاسوب كانت الأشواق ترسم قلبا.
– أمين : ألو حبيبتي كيف حالك؟ اشتقت إليك، وكم أتمنى أن تكوني بقربي، كل يوم يمر أحس هو سنوات ببعدك.
– أميرة : نعم حبيبي ..كيف الحال ؟ هل الأمور تسير على ما يُرام، قرأت حوارك الأخير بالجريدة، كان رائعاً، وبدلتك الزرقاء كانت تُحفة.
– أمين: الله يسلمك حبيبتي، كان اقتراحك أن ألبسها. ماذا بشأن الوثائق ؟ هل باشرتِ إجراءات طلب التأشيرة ؟ الوقت يمُر بسرعة، يجب أن تتخذي قرارك، وتحسمي الأمر بشأن السفر، فقد مرت سنة على تعارفنا ولم نتوصل، بعْدُ، إلى حلّ نهائيّ، مع أنَّ الأمور مع أبيك تزداد سُوءا يوما بعد يوم.
– أميرة (تبكي ثم تمسح دموعها): آسفة يا عمري، وما الحل الآن ؟
– أمين: حبيبتي أنا أحبك بجنون، ولن أتنازل عن حبِّك .. ما أغلى دموعكِ على قلبي .. الحل الوحيد أن تغادري المنزل .. وأمَّا أنا فسأبعث لك دعوة باسم خالتي لطلب الفيزا، وبعض المال لكي يتسنَّى لكِ فتْح حساب بنكي كما هو مطلوبٌ في ملفِّ الطلب. الوثائق الأخرى، تصرفي أنت، وإن احتجت مساعدتي سأكون في الخدمة.
حاولت أميرة أن تحقق رغبة حبيبها وبذلت قصارى جَهْدها، إذ جمعت كل الوثائق اللازمة للحصول على التأشيرة، لكنها واجهت مشاكلَ عدَّة .. إلى أن التقت بوليد الذي وعدها بالمساعدة، فناولته المطلوب على أمل أن تحصل على التأشيرة في أجل أقصاه خمسةٌ وعشرون يوماً.
و بالضفة الأخرى كان أمين ينتظر قُدوم حبيبته، وتحقيق هدفه المنشود، لكن حدث ما لم يكن في الحسبان عندما نشرت إحدى الجرائد الرياضية بفرنسا قائمة اللاعبين التي لم تكُن تحمل اسمه ..لم يتمالك أعصابه إذ نزل عليه الخبر كالصاعقة. واصلت المجلات الرياضية والجرائد نشرها للخبر مع صورة أمين على الصفحات الأولى مِمَّا أذهل الجمهور، وأدخله فِي دوامةٍ من التساؤلات: أكان ذلك بسبب أصوله الجزائرية أم بسبب شجاره مع المُدرب ذات مرَّة فِي إحدى الحصص التدريبيَّة ؟ …
تدهورت الحالة الصحية لأمين. فلم يتوانَ عن إجراء ما يجب من التحاليل الطبية، ليتفاجئ بإصابته بمرض السُكري. لم يهضم الأمر، لذلك لم يعره اهتماما، ولم يتقيد بنصائح الطبيب، ولا حتى بتناول الدواء إلى أن أتى اليوم المشئوم حيث تعرض لجرح على مستوى رجله اليمنى، فبعد مرور فترة وجيزة تعفن الجرح، ولم يجد الأطبَّاء حيلة لشفائه غير إجراء عمليَّة جراحيَّةٍ لبتر ثلاثة أصابع من رجله تفادياً لمضاعفات أخرى.
كتَم أمين ألمه، وراح يُراسل أميرة بالرسائل المكتوبة على الماسنجر فقط حتَّى يتحاشى محادثتها، فللحزن أثرٌ ظاهرٌ على ملامح صاحبه.
بمدينة وهران كانت أميرة تُحضر حقيبة سفرها التي خبأتها بإحكام عند إحدى صديقاتها. وقبل موعد السفر بخمسة أيام، كلمها ” وليد ” الذي أعطته ثمن التذاكر ليحجز لها على الهاتف طالباً منها أن تُرافقه بالسيارة، ففعلت ثم دعاها إلى الغذاء فوافقت.
وبينما كانت تغسل يديها في الحمام، استغل هو الفرصة ليضع لها مُنوّماً في كوب العصير بنيَّة اصطحابِها بعد تنويمها إلى شقة مُجاورة بنفس مبنى المطعم. وفعلاً، قام باغتصابها كوحشٍ مفترس .. وعندما استفاقت كانت الفاجعة. لاذت بالفرار و معها حقيبة سفرٍ ووجع، بعد أن حصلتْ على تأشيرة السفر، وفقدت تأشيرة الزواج : ” العذرية “، إنَّها تأشيرة الشرف، والعفة، والأنوثة … بمجتمعاتنا العربية.
بأي حق ستتكلم الآن، ومن سيصدقُ قصتها ؟ ومن المُحامي الذي سيربح قضيَّتها، إذا كان والدها هو القاضي الأول الذي سيحكم عليها بالإعدام ؟
حملت معها خيبتها إلى ما وراء البحار .. تذكَّرتْ وهي على متن الطائرة تربط الأحزمة والدتها، والحذاء وفُستان الفرح، وأمين، ووعدها له بأنه سيكون الرجلَ الأوَّل الذي سيطمث طُهرَها .. حبست دموعها وكان قلبها ينزف بدل الدموع دما من شدة الحسرة وألم الفراق يتراقص على أمل لقاء الحبيب الذي كان أملها الوحيد في الحياة، بعدما فقدت كل شيء فِي مجتمعٍ سيحتقرها بنظرة دونية، ويجعل منها متَّهمةً بدل الضحيَّة ..
في تلك اللحظات كادتْ أميرة تُقتلع من جذورها إلى أن سمعت صوت المُضيفة يرحِّب بالمسافرين بمطار شارل ديغول الدولي بباريس. تثاقلت خطواتها إلى أن لمحته من بعيد خلف الحواجز و هو يناديها أميرة .. أميرة .. فأسرعت إليه، وعانقته باكيةً بحرقة بين أحضانه .. فلربَّما ستسترجع قواها، إذ هو الآخر يملك جعبةً محشوَّةً بالآلام، وبالخبر التعيس…
لم تكن باريس حاضنة العُشاق فحسب بنظر أميرة، بل أصبحت المدينة التي ولدت فيها من جديد. سمعت العاشقة المُحطمة الهاربة من آلامها و ماضيها القصَّة الكاملة لِحبيبها، وتقبلتها كما هي بكلِّ تفاصيلها، وأوجاعها .. داعيةً الله أن يكون إلى جانبها في محنتها الكبيرة.
وصل أمين، وأميرة إلى بيت والدته السيدة:مريم.. استقبلتهما بحرارة، وقد أُعجِبتْ من الوهلة الأولى بأميرة، فعانقتها بقوة. كأنها كانت تعلم أن ثَمَّة شيئا مشتركا بينهما غير حب أمين.
حاولت مريم التقرب من أميرة إلى أن أقنعتها بأن تقُص لها قصتها كاملة عسى أن تساعدها على تجاوز محنتها العميقة، فوالدة أمين أخصائية نفسانية وناشطة بعدة جمعيات خيرية بفرنسا.
أخذتْ أميرة وقتا طويلاً قبل أن تبوح بخبر اغتصابِها، خوفاً من مقصلة الرفض التِي قد تطالُها من قِبَل حبيبها وعائلته. غير أنَّ الغريب فِي الأمر أنَّ والدة أمين هي الأخرى تعرضت للاغتصاب فِي شبابها قبل أن ترتبط بوالد أمين الذي انفصلت عنه بعد مرور سنوات من الزواج. تنفست أميرة الصعداء لمَّا علمت بقصَّة والدة أمين، وانفجرت بالبكاء وكادت الهستيريا تلتهم آخر قطرة دمع من جوف عينيها لولا أنَّ السيدة مريم حافظت على ابتسامتها قائلة: لا تقلقي صغيرتي، أول ما سنقوم به هو تسجيلك أنت وأمين حتَّى تتمكَّنا من مواصلة دراستكما، وبعدها بشهر سنعلم والدك بالأمر لتعقدي قرانك .. تأكَّدي، صغيرتي، سيكون كل شيء على أحسن ما يُرام.
مر الشهر بسُرعة البرق، وغدتْ أميرة أجمل عروسة تُزف لحبيب عمرها. بكى والدها، وحضنها بقوة: أنت أميرتي .. سامحيني ابنتي. مسحت أميرة دموعه بدموعها، ثُمَّ صاحتْ: سامحتك بابا، البركة في عمرك .. إدعيلي ربنا يوفقني في حياتي الجديدة مع زوجي، وفي دراستي، ولا تذكِّرني بالماضي لأنني تركته ورائي بالجزائر.
شكرا لمجيئك بابا .. أحبك جدّاً .. كانت أول مرة تتلفَّظ بهذه الكلمة القدسيَّة في وجه أبيها ..
حقّاً، الغربة مؤلمة لكنها تجعلك تنسى، وتسامح، وتفتح صفحة جديدة. اجتهدت أميرة في دراستها وتحصلت على عمل هي وأمين. وبعد مرور سنتين، توَّج الله حبَّهما بتوأم بنت وولد، وسمَّاهما باسْمَيْ جديهما.
خان الزمن أميرة وكان قاسيا عليها، إذ سلب منها روح والدتها إثر خطأ طبِّيٍّ تعرَّضت له بعد إجرائها لعملية جراحية دقيقة فِي رأسها بمصلحة طب الأعصاب. وقد كانت آخرُ هدية تلقَّتها من والدتها الراحلة حذاءً باريسيّاً أبيضاً، ومُرصعاً ببعض الأحجار الكريمة، وموَشىً بقطع الدانتيل المُتناثرة على جانبيه .. فقد كانت أميرةُ ولوعةً بالأحذية منذ نعومة أظافرها.
حتى وهي بالمنام كانت تحلم بانتقاء أجمل الأحذية .. تحلم باقتنائها، وارتدائها .. وما استطاعت يوماً أن تُسيطر على هذه الرغبة المجنونة الجامحة.
سُرعان ما انقلبت حياة أميرة رأسا على عقب بعد زواج أبيها ثانيةً، ليُصبح “الزواجُ”خلاصَها الوحيد بالنجاة من سوء مُعاملة زوج أبيها وجفاء والدها الجارح. توقفت أميرة عن الدراسة و بدأت تشتغل كبائعةٍ فِي بعض المحلات, بعدها التحقت بالعمل في مقهى أنترنيت حيث فتحت حسابا بالفايسبوك، وأنشأتْ قناة السكايب للتواصل فربطتها بالعالم الإفتراضي عدة صداقات من خارج الوطن .. إلى أن وقعت فِي شباك الحُب عروساً هاربة من البحر .. رافضةً قوانينه، وأعرافه التي كانت ترى فيها قيداً على حُريتها ومشاعرها، وإحساسِها بالأمان، والدفئ العائلي .. وبالحُب والحنان المسلوبِ منها بعد رحيل والدتها.
كانت مُعظم الصُور التي تنشرها *أميرة* بالفايسبووك, صُوَرَ أحذية, فمرة تنشر صورةً لِوجهها، وتنشر صورةً لطرازٍ جديد من الأحذية مرَّةً أخرى، فضلا عن مواقع تنشر موديلات الأحذية بمختلف الأشكال، والألوان، والماركات ..
كان حبيبها ” أمين ” الذي يقطن بباريس يُشاركها هوَس الأحذية، بَيْد أنَّه يعشق “الحذاء الرياضي”، فأصبحا يتنافسان على نشر معظم الصُور التي تأتيهما من مواقع شتَّى تروِّج لبيع الأحذية و بمختلف الماركات العالمية، إلى أن تطورتِ العلاقةُ بينهما بفضْل محادثاتِهما على السكايب، فأصبح الحُب قدرهما المتبادلَ بدَلَ قدر الهوَس بالأحذية !
لَم تزر السعادة قلب أحدهما قط إلى أن بدأت شمسها تلوح بالأفق بعدما وقعا في الحُب؛ ” أميرة وأمين ” جسدان بروح واحدة، بحُكم التشابه بينهما فِي المعاناة، والحسرة، والألم .. وفُقدان حنان الأب الذي تشغله الدنيا، وجمع الأموال، والصفقات، وإدارة الأعمال عن احتضان أبنائه، وتقبيلِ جباههم …
*الحبيبان* شابان ذكيان طموحان مُفعمان بالحيوية، غير أنَّ قلْبيهما مسكونان بِحزن دفين .. إنَّهما يشكوان من عقدة الحنان الأبويّ منذ الطفولة، ويشتركان، أيضاً، فِي عشق الأحذية .. لَم يُحقق أي منهُما نجاحا يُذكر لكن بداخل كليهما حُلم يرجوان تحقيقه، فأميرةُ تحلم بالزواج عروسةً تلْبس الحذاء الذي أهدته لها والدتها الراحلة، وأمين يحلم بالفوز بإحدى المُباريات ليتوج فريقه بالكأس عسى أن يغدوَ لاعباً مشهوراً، فيحصل على الحذاء الذهبي كأحسن لاعب كرة قدم دولي في العالم.
لقد كان أمين ابن الثانية والعشرين عاماً, يتمتع بلياقة بدنية ملفتة، وكان يوجِّه كل طاقاته، وجهده إلى بلوغ هدفه، فما لبث يُضاعف من حصص التدريب إلى أن اقترب موعد مباراة إنجلترا حيث كانت حظوظه كبيرة لضمِّ اسمه ضمن القائمة الأساسيَّة لللاعبين.
ذات مساءٍ، اتصل أمين بأميرة وقلبه يدُق من شدة الفرح نغمات ” أول مرة تحب ياقلبِي ” .. خلف شاشة الحاسوب كانت الأشواق ترسم قلبا.
– أمين : ألو حبيبتي كيف حالك؟ اشتقت إليك، وكم أتمنى أن تكوني بقربي، كل يوم يمر أحس هو سنوات ببعدك.
– أميرة : نعم حبيبي ..كيف الحال ؟ هل الأمور تسير على ما يُرام، قرأت حوارك الأخير بالجريدة، كان رائعاً، وبدلتك الزرقاء كانت تُحفة.
– أمين: الله يسلمك حبيبتي، كان اقتراحك أن ألبسها. ماذا بشأن الوثائق ؟ هل باشرتِ إجراءات طلب التأشيرة ؟ الوقت يمُر بسرعة، يجب أن تتخذي قرارك، وتحسمي الأمر بشأن السفر، فقد مرت سنة على تعارفنا ولم نتوصل، بعْدُ، إلى حلّ نهائيّ، مع أنَّ الأمور مع أبيك تزداد سُوءا يوما بعد يوم.
– أميرة (تبكي ثم تمسح دموعها): آسفة يا عمري، وما الحل الآن ؟
– أمين: حبيبتي أنا أحبك بجنون، ولن أتنازل عن حبِّك .. ما أغلى دموعكِ على قلبي .. الحل الوحيد أن تغادري المنزل .. وأمَّا أنا فسأبعث لك دعوة باسم خالتي لطلب الفيزا، وبعض المال لكي يتسنَّى لكِ فتْح حساب بنكي كما هو مطلوبٌ في ملفِّ الطلب. الوثائق الأخرى، تصرفي أنت، وإن احتجت مساعدتي سأكون في الخدمة.
حاولت أميرة أن تحقق رغبة حبيبها وبذلت قصارى جَهْدها، إذ جمعت كل الوثائق اللازمة للحصول على التأشيرة، لكنها واجهت مشاكلَ عدَّة .. إلى أن التقت بوليد الذي وعدها بالمساعدة، فناولته المطلوب على أمل أن تحصل على التأشيرة في أجل أقصاه خمسةٌ وعشرون يوماً.
و بالضفة الأخرى كان أمين ينتظر قُدوم حبيبته، وتحقيق هدفه المنشود، لكن حدث ما لم يكن في الحسبان عندما نشرت إحدى الجرائد الرياضية بفرنسا قائمة اللاعبين التي لم تكُن تحمل اسمه ..لم يتمالك أعصابه إذ نزل عليه الخبر كالصاعقة. واصلت المجلات الرياضية والجرائد نشرها للخبر مع صورة أمين على الصفحات الأولى مِمَّا أذهل الجمهور، وأدخله فِي دوامةٍ من التساؤلات: أكان ذلك بسبب أصوله الجزائرية أم بسبب شجاره مع المُدرب ذات مرَّة فِي إحدى الحصص التدريبيَّة ؟ …
تدهورت الحالة الصحية لأمين. فلم يتوانَ عن إجراء ما يجب من التحاليل الطبية، ليتفاجئ بإصابته بمرض السُكري. لم يهضم الأمر، لذلك لم يعره اهتماما، ولم يتقيد بنصائح الطبيب، ولا حتى بتناول الدواء إلى أن أتى اليوم المشئوم حيث تعرض لجرح على مستوى رجله اليمنى، فبعد مرور فترة وجيزة تعفن الجرح، ولم يجد الأطبَّاء حيلة لشفائه غير إجراء عمليَّة جراحيَّةٍ لبتر ثلاثة أصابع من رجله تفادياً لمضاعفات أخرى.
كتَم أمين ألمه، وراح يُراسل أميرة بالرسائل المكتوبة على الماسنجر فقط حتَّى يتحاشى محادثتها، فللحزن أثرٌ ظاهرٌ على ملامح صاحبه.
بمدينة وهران كانت أميرة تُحضر حقيبة سفرها التي خبأتها بإحكام عند إحدى صديقاتها. وقبل موعد السفر بخمسة أيام، كلمها ” وليد ” الذي أعطته ثمن التذاكر ليحجز لها على الهاتف طالباً منها أن تُرافقه بالسيارة، ففعلت ثم دعاها إلى الغذاء فوافقت.
وبينما كانت تغسل يديها في الحمام، استغل هو الفرصة ليضع لها مُنوّماً في كوب العصير بنيَّة اصطحابِها بعد تنويمها إلى شقة مُجاورة بنفس مبنى المطعم. وفعلاً، قام باغتصابها كوحشٍ مفترس .. وعندما استفاقت كانت الفاجعة. لاذت بالفرار و معها حقيبة سفرٍ ووجع، بعد أن حصلتْ على تأشيرة السفر، وفقدت تأشيرة الزواج : ” العذرية “، إنَّها تأشيرة الشرف، والعفة، والأنوثة … بمجتمعاتنا العربية.
بأي حق ستتكلم الآن، ومن سيصدقُ قصتها ؟ ومن المُحامي الذي سيربح قضيَّتها، إذا كان والدها هو القاضي الأول الذي سيحكم عليها بالإعدام ؟
حملت معها خيبتها إلى ما وراء البحار .. تذكَّرتْ وهي على متن الطائرة تربط الأحزمة والدتها، والحذاء وفُستان الفرح، وأمين، ووعدها له بأنه سيكون الرجلَ الأوَّل الذي سيطمث طُهرَها .. حبست دموعها وكان قلبها ينزف بدل الدموع دما من شدة الحسرة وألم الفراق يتراقص على أمل لقاء الحبيب الذي كان أملها الوحيد في الحياة، بعدما فقدت كل شيء فِي مجتمعٍ سيحتقرها بنظرة دونية، ويجعل منها متَّهمةً بدل الضحيَّة ..
في تلك اللحظات كادتْ أميرة تُقتلع من جذورها إلى أن سمعت صوت المُضيفة يرحِّب بالمسافرين بمطار شارل ديغول الدولي بباريس. تثاقلت خطواتها إلى أن لمحته من بعيد خلف الحواجز و هو يناديها أميرة .. أميرة .. فأسرعت إليه، وعانقته باكيةً بحرقة بين أحضانه .. فلربَّما ستسترجع قواها، إذ هو الآخر يملك جعبةً محشوَّةً بالآلام، وبالخبر التعيس…
لم تكن باريس حاضنة العُشاق فحسب بنظر أميرة، بل أصبحت المدينة التي ولدت فيها من جديد. سمعت العاشقة المُحطمة الهاربة من آلامها و ماضيها القصَّة الكاملة لِحبيبها، وتقبلتها كما هي بكلِّ تفاصيلها، وأوجاعها .. داعيةً الله أن يكون إلى جانبها في محنتها الكبيرة.
وصل أمين، وأميرة إلى بيت والدته السيدة:مريم.. استقبلتهما بحرارة، وقد أُعجِبتْ من الوهلة الأولى بأميرة، فعانقتها بقوة. كأنها كانت تعلم أن ثَمَّة شيئا مشتركا بينهما غير حب أمين.
حاولت مريم التقرب من أميرة إلى أن أقنعتها بأن تقُص لها قصتها كاملة عسى أن تساعدها على تجاوز محنتها العميقة، فوالدة أمين أخصائية نفسانية وناشطة بعدة جمعيات خيرية بفرنسا.
أخذتْ أميرة وقتا طويلاً قبل أن تبوح بخبر اغتصابِها، خوفاً من مقصلة الرفض التِي قد تطالُها من قِبَل حبيبها وعائلته. غير أنَّ الغريب فِي الأمر أنَّ والدة أمين هي الأخرى تعرضت للاغتصاب فِي شبابها قبل أن ترتبط بوالد أمين الذي انفصلت عنه بعد مرور سنوات من الزواج. تنفست أميرة الصعداء لمَّا علمت بقصَّة والدة أمين، وانفجرت بالبكاء وكادت الهستيريا تلتهم آخر قطرة دمع من جوف عينيها لولا أنَّ السيدة مريم حافظت على ابتسامتها قائلة: لا تقلقي صغيرتي، أول ما سنقوم به هو تسجيلك أنت وأمين حتَّى تتمكَّنا من مواصلة دراستكما، وبعدها بشهر سنعلم والدك بالأمر لتعقدي قرانك .. تأكَّدي، صغيرتي، سيكون كل شيء على أحسن ما يُرام.
مر الشهر بسُرعة البرق، وغدتْ أميرة أجمل عروسة تُزف لحبيب عمرها. بكى والدها، وحضنها بقوة: أنت أميرتي .. سامحيني ابنتي. مسحت أميرة دموعه بدموعها، ثُمَّ صاحتْ: سامحتك بابا، البركة في عمرك .. إدعيلي ربنا يوفقني في حياتي الجديدة مع زوجي، وفي دراستي، ولا تذكِّرني بالماضي لأنني تركته ورائي بالجزائر.
شكرا لمجيئك بابا .. أحبك جدّاً .. كانت أول مرة تتلفَّظ بهذه الكلمة القدسيَّة في وجه أبيها ..
حقّاً، الغربة مؤلمة لكنها تجعلك تنسى، وتسامح، وتفتح صفحة جديدة. اجتهدت أميرة في دراستها وتحصلت على عمل هي وأمين. وبعد مرور سنتين، توَّج الله حبَّهما بتوأم بنت وولد، وسمَّاهما باسْمَيْ جديهما.