رباب مُهجَّرة من ديارها في الريف الشمال من سورية كانت من زبائن مكتبتي في زقاق المسيحين قرب كنيسة الروم الأرثوذكس في مدينة إدلب، زارتني عدة مرات لشراء الكتب وبعض المستلزمات المدرسية، المهم، هي الآن تُقيم في النروج. سألتني بعد أن قرأت مقالي "قلَّة أدب" المنشور في عدد من المواقع الإلكترونية وفي مجلة "الكاتب اليساري" التي يُصدرها الملحن والمُغني اللبناني وليم نصار في كندا. قالت: هل أنت مع المثلية الجنسية؟ فاجأني السؤال، فتلعثمتُ، ولم أجد تعبيراً مناسباً أقوله، فقلت: كلا يا سيدتي لستُ من أنصار المثلية الجنسية. فقالت: كيف ذلك، أنت تقدمي وشيوعي وتُعارض المثلية الجنسية، مع العلم أن أغلب أهل اليسار يؤيد "المثلية الجنسية" وقد سُئل زياد الرحباني في برنامج متلفز: هل أنت مع "المثلية الجنسية"؟ فقال: نعم. قلتُ: لا بأس عليك يا سيدتي، ولكن أعطني فرصة في الرد وبعدها خذي موقفاً مني من هذه "الموضة" التي يصطف أهل اليسار إلى جانبها ويقفون في الوقت نفسه في صفِّ الحكَّام ضدَّ شعوبهم في هذا الربيع العربي، ولم أدرك، إلى اليوم، حجتهم في ذلك، إلا أن يكون أغلب حُكامنا من المثلين جنسياً.
قلتُ في مقدمة مقالي المنشور "قلِّة أدب": لفت انتباهي ما قاله المؤلف الموسيقي الضرير مصطفى سعيد في سياق تقرير بُثَّ عبر قناة بي بي سي بنسختها العربية في جواب عن سؤال حول مصطلح الأغاني الإباحيَّة في العالم العربي:
"مصطلح الأغاني الإباحيَّة لم يظهر إلا في العقد الثالث من القرن العشرين قبل هذا كان هذا الغناء من جزئيات الرصيد الغنائي وكان يستعمل تثقيفاً مرة وكان يستعمل تعبيراً في مرات أخرى. حَجْر التعبير عن المشاعر هو الذي أدى فيما بعد إلى الحَجْر على التعبير عن الرأي في طرح من السلطة إلى أملاء أن هذه الدولة يجب ان يكون عندها أدب، بمعنى الاستتار، بمعني هذا الكلام الفاحش، لا يجوز، هذا المنع هو قرين النظم الاستبدادية التي ظهرت بُعيد الحرب العالمية الأولى. أنت ممنوع تعبر عن مشاعرك، ممنوع تعبر عن رأيك في الحكومة، ممنوع تقول رأيك السياسي في أغنية، ممنوع تقول مشاعرك الجسمانية، وتزيد هذه الممنوعات في المجتمعات التي تحكمها طبائع الاستبداد"
ظهر مصطلح "مثلية جنسية" حديثاً، وقد نُحت من "مثل" أي شبيه، وهذا المصطلح يخفى المعنى أكثر مما يظهره. ما المقصود من تعبير المثلية الجنسية حقيقة؟ دلالة المصطلح تذهب بنا إلى "حالة"، يُراد لها أن تكون عامة، تضم أنصاراً من الجنسين ترفع علم "قوس قُزح" الذي صار عام 1978 رمزاً دولياً للمثلين، يخرج هؤلاء في مظاهرات في بعض المدن التي تسمح بذلك، مطالبين السماح لهم بممارسة حريتهم الجنسية، ويطلبون من المجتمعات الاعتراف بهم، وسنّ تشريعات تحميهم، ويطلبون أيضاً من الأديان ورجال الدين السماح لهم بالزواج المثلي- شاب مع شاب وفتاة مع فتاة- إن أمكن ذلك. ويطبلون من أهلهم وذويهم التلطف بالتعامل معهم وعدم إظهار التنمر تجاه ممارساتهم.
لابد أولاً من تفكيك مصطلح "المثلية الجنسية" في اللغة العربية. العرب وعموم أهل الشرق يأنفون من الممارسات الجنسية الشاذة مع أنها موجودة في مختلف المجتمعات الشرقية قديماً وحديثاً. ولكنها في العموم حالات شاذة، تبقى في حدود ضيقة، وذلك لاختلاف العادات والتقاليد والبنية الاجتماعية في الشرق عن "مثليتها" في الغرب. وجاءت العولمة الغربية لتعمم مصطلح "المثلية الجنسية" وتنشره في أنحاء العالم. كلمة "شاذ" التي نُطلقها على فكرة "المثلية الجنسية" هُنا لا تجد قبولاً في الأوساط التي ترفع علم "قوس قُزح" يحسبونها "شتيمة" بحقهم. ويقولون بأن ممارسة هذا النوع من العلاقات الجنسية التي تميل إلى الشبيه أو المثل لا تؤذي أحداً، فهي علاقة خاصة، من شاء يؤمن بها ومن شاء يرفضها. يريدون مجتمعاً يشبه قوس قُزح في تنوع ألوانه "مثل" علمهم.
عند العرب نجد كلمة قديمة هي "مخنث" وتعني: متشبه بالمرأة في سلوكه لبسًا وحركةً وكلاماً، أو ذو أعضاء تناسلية مزدوجة-مختلطة- ذكرية وأُنثوية. في العربية خنث الشاب: استرخى ولان وتثنَّى وتكسَّر كالنِّساء فهو على صورة الرجال وأحوال النساء. بعض الشباب يتخنَّثون بدافع نفسي لا شعوري. ويقترح أصحاب "المثلية الجنسية" أن سبب مثليتهم الرئيسي بيولوجي. وهذا خطأ فاحش، لأن الدراسات الطبية العلمية تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن المثلية الجنسية نتاج بيئة وتكيف مع بعض مظاهر العيش في وسط اجتماعي معين-يشيع هذا النمط من السلوك في وسط أهل الفن والثقافة أكثر من غيره - فأنت لن تكون مثلياً جنسياً بدافع بيولوجي، هذا أولاً، وثانياً "المثلية الجنسية" حالة مرضية بكل تأكيد -شأنا ذلك أم أبينا- لها أسبابها ومهادها الطويل العريض في مجتمعات "الرفاه الديمقراطي" التي وصلت إليه العديد من الدول في عالمنا المعاصر. ولكن كانت من أهم معضلاتها- أقصد هذه الدول- تفكك مفهوم الأسرة فيها-وخاصة بعد ثورة الشباب عام 1968 في العالم الغربي- وبالتالي قلَّ عدد سكانها وذهب المجتمع برمته إلى شيخوخة مبكرة، مما أجبرها على تشجيع الهجرة وفتح أبوابها أمام الراغبين بذلك، وهذا الشباب المهاجر من الدول الفقيرة هو من أوقف هذه الدول على حيلها من جديد.
أتذكَّر وجود أحد المخنثين في حارتنا "حي المنطرة" في مدينة إدلب في الشمال الغربي من سورية. وفي لهجة مدينة إدلب "شَكْر" لا انثى ولا ذكر، كان يملك بستاناً واسعاً من أشجار الفستق الحلبي في حارتنا، ولم يكن متزوجاً، ويعيش حياة طبيعية مثل كل الناس. وأعتقد اليوم، بعد أن استحضرتُ صورته في مخيلتي بأنه كان مبهم الجنس، أي يعيش بأعضاء تناسلية مشوهة. قابلت مثلياً جنسياً حقيقياً عندما كنتُ أعمل في أبو ظبي حتى عام 2000 وكان غُلاماً فيلبيني الجنسية، متشبهاً بالمرأة في سلوكه غنجاً ودلالاً وحركةً وكلاماً. حاول جاهداً استمالتنا إلى صفه وكان يزورنا في مسكننا في "كمب العمال" ولكننا "كشَّرنا" في وجه "الغُلام" فانصرف عنا بالتي هي أحسن. يقول الجاحظ في رسالة الجواري والغلمان: تواصف قوم الجماع، وأفاضوا في ذكر النساء، وإلى جانبهم "مخنَّث" فقال: بالله عليكم دعوا ذكر "الحِرِ" لعنه الله! فقال له بعضهم: متى عهدك به؟ فقال: مُذْ خرجت منه.
في العربية نجد أيضاً كلمة سِحاق-بكسر السين- شذوذ جنسي بين امرأتين "مثلية جنسية" أو هو "لواط الإناث" في المصطلح الفقهي. يقابله لواط عند الرِّجال. لِواط: عَمَلُ قوم لُوط، وهو ضَرْبٌ من الشذوذ الجنسي. وفي التفسير الفقهي لاط لواطاً فهو لائط، وهو إدخال الشخص قضيبه في دبر ذكر آخر وهو أحد أشكال المثلية الجنسية في عصرنا الحديث.
يقول الجاحظ في رسالة مفاخرة الجواري والغلمان: كانت في المدينة المنورة امرأة ماجنة يقال لها سَلَّامة الخضراء، فأخذت مع مخنث وهي تلوطه بكيرنج -قضيب اصطناعي- فرفعت قضيتها إلى الوالي، فأوجعها ضرباً وطاف بها المدينة على جمل، فنظر إيها رجل يعرفها فقال: ما هذا يا سَلَّامة؟ فقالت: بالله اسكت، ما في الدنيا أظلم من الرجال، أنتم تنكحوننا الدهر كله فلما نكحناكم مرة قتلتمونا.
في هذه الحادثة يظهر لنا أن هذا "المحنث" وكأنه يستمتع بهذه الممارسة، أي أنه من الناحية التشريحية ذكر، ولكنه يهوى أن يُلاط به، وشاءت المصادفة أن يُمسك مع امرأة تفعل به ما تفعل مستعملة قضيباً اصطناعياً. وهذه واقعة تدعو للدهشة والاستغراب في ذلك العصر المبكر من نهوض الدولة الإسلامية في زمن أوائل القرن الثاني الهجري حيث كان يعيش عمرو بن بحر، أبو عثمان، المشهور بالجّاحظ، حيث ترك أكثر من مئة وسبعين كتابا. وساعده على كثرة التأليف امتداد عمره، وانصراف الحكام وأهل الدولة عن استخدامه في قصورهم ودواوينهم للدمامة وجهه ومرضه الطويل الذي اضطره إلى ملازمة بيته وقطع فراغه بالكتابة والتأليف. ومازال في علته إلى أن وقعت عليه مجلدات العلم فقضت عليه في البصرة نهاية سنة 255 هجرية.
وعن الميداني في مَجمع الأمثال: دلال من مخنثي المدينة، واسمه نافذ، وكنيته أبو يزيد، وهو ممن خصاهم خطأ ابن حزم الأنصاري أمير المدينة في عهد سليمان بن عبد الملك، وذلك أنه جاء أمر الخليفة إلى ابن حزم عامله أن أَحْصِ لي مخنثي المدينة، فتشظَّى قلمُ الكاتب فوقعت نقطة على ذروة الحاء فصيرتها خاء، فلما ورد الكتاب المدينة ناوله ابن حزم كاتبه فقرأ عليه: اخْصِ المخنثين. فقال له الأمير:
- لعله أحص بالحاء.
فقال الكاتب:
- إن على الحاء نقطة مثل تمرة.
فتقدم الأمير في إحضارهم، ثم خصاهم، وهم: طويس، دلال، نسيم السحر، نومة الضحا، برد الفؤاد، ظل الشجر. أنظر إلى جمال هذه الألقاب ورقتها. ونحن هنا لا نؤكد صحة الرواية لأنها تقترب من صيغ الحكايات ولكنني أعتقد أن لها سنداً في الواقع. هل نصنف هؤلاء في خانة مصطلح "المثلية الجنسية" وما مشكلة هؤلاء النفسية أو الجسدية حتى يصل خبرهم الخليفة فيأمر بإحصائهم وليس إخصائهم؟ وجود هؤلاء القوم في بواكير المجتمع الإسلامي الناهض يدفعنا لتأكيد فكرة جوهرية وهي عندما ترافق الإسلام مع بنية حضارية قائمة اتسعت دائرة الحرية لتشمل العلاقات الإنسانية التي تحترم الآخر مهما كان هذا الآخر.
سؤال صديقتي رباب هل أنت مع المثلية الجنسية؟ سبب لي "وجع راس" فأخذت حبة "بندول" ليعتدل صداعي وأعرف كيف أُنهي هذه المقالة على خير. أنا شيوعي، أعترف بذلك، ولكن وجداني لا يسمح لي بأن أكون مع فكرة "المثلية الجنسية". نعم، قد أُشارك في مظاهراتهم وأتعرض للاعتقال بسببهم، ولو كنتُ محامياً لدافعت عنهم في المحاكم، وأُدافع عنهم كمجموعة بشرية لها رؤيتها في مسألة العلاقات الجنسية بين البشر. في دول "المنظومة الاشتراكية" وخاصة زمن ستالين وماو تسي تونغ لم تكن "المثلية الجنسية" أمراً مسموحاً به. هل حوربت بشدة؟ ما عندي معلومات لأن "الإنسان الاشتراكي الجديد" تلك الأيام لن يكون مثلياً جنسياً على كل حال. سألتُ نفسي: هل تقبل "الأحزاب الشيوعية العربية" المثلين في صفوفها؟ من خلال عملي في الحزب الشيوعي السوري لم أُقابل "مثلياً جنسياً"، تسرَّعتُ في الجواب، أليس كذلك؟ هل قابلتُ أحدهم؟ قد يكون ذلك، لأن "المثلي جنسياً" لن يكتب لوحة تعريف على صدره تقول: أحذر، أنا من المثلين جنسياً، هل أنت مثلي جنسياً؟
المثلية الجنسية:
قلتُ في مقدمة مقالي المنشور "قلِّة أدب": لفت انتباهي ما قاله المؤلف الموسيقي الضرير مصطفى سعيد في سياق تقرير بُثَّ عبر قناة بي بي سي بنسختها العربية في جواب عن سؤال حول مصطلح الأغاني الإباحيَّة في العالم العربي:
"مصطلح الأغاني الإباحيَّة لم يظهر إلا في العقد الثالث من القرن العشرين قبل هذا كان هذا الغناء من جزئيات الرصيد الغنائي وكان يستعمل تثقيفاً مرة وكان يستعمل تعبيراً في مرات أخرى. حَجْر التعبير عن المشاعر هو الذي أدى فيما بعد إلى الحَجْر على التعبير عن الرأي في طرح من السلطة إلى أملاء أن هذه الدولة يجب ان يكون عندها أدب، بمعنى الاستتار، بمعني هذا الكلام الفاحش، لا يجوز، هذا المنع هو قرين النظم الاستبدادية التي ظهرت بُعيد الحرب العالمية الأولى. أنت ممنوع تعبر عن مشاعرك، ممنوع تعبر عن رأيك في الحكومة، ممنوع تقول رأيك السياسي في أغنية، ممنوع تقول مشاعرك الجسمانية، وتزيد هذه الممنوعات في المجتمعات التي تحكمها طبائع الاستبداد"
ظهر مصطلح "مثلية جنسية" حديثاً، وقد نُحت من "مثل" أي شبيه، وهذا المصطلح يخفى المعنى أكثر مما يظهره. ما المقصود من تعبير المثلية الجنسية حقيقة؟ دلالة المصطلح تذهب بنا إلى "حالة"، يُراد لها أن تكون عامة، تضم أنصاراً من الجنسين ترفع علم "قوس قُزح" الذي صار عام 1978 رمزاً دولياً للمثلين، يخرج هؤلاء في مظاهرات في بعض المدن التي تسمح بذلك، مطالبين السماح لهم بممارسة حريتهم الجنسية، ويطلبون من المجتمعات الاعتراف بهم، وسنّ تشريعات تحميهم، ويطلبون أيضاً من الأديان ورجال الدين السماح لهم بالزواج المثلي- شاب مع شاب وفتاة مع فتاة- إن أمكن ذلك. ويطبلون من أهلهم وذويهم التلطف بالتعامل معهم وعدم إظهار التنمر تجاه ممارساتهم.
لابد أولاً من تفكيك مصطلح "المثلية الجنسية" في اللغة العربية. العرب وعموم أهل الشرق يأنفون من الممارسات الجنسية الشاذة مع أنها موجودة في مختلف المجتمعات الشرقية قديماً وحديثاً. ولكنها في العموم حالات شاذة، تبقى في حدود ضيقة، وذلك لاختلاف العادات والتقاليد والبنية الاجتماعية في الشرق عن "مثليتها" في الغرب. وجاءت العولمة الغربية لتعمم مصطلح "المثلية الجنسية" وتنشره في أنحاء العالم. كلمة "شاذ" التي نُطلقها على فكرة "المثلية الجنسية" هُنا لا تجد قبولاً في الأوساط التي ترفع علم "قوس قُزح" يحسبونها "شتيمة" بحقهم. ويقولون بأن ممارسة هذا النوع من العلاقات الجنسية التي تميل إلى الشبيه أو المثل لا تؤذي أحداً، فهي علاقة خاصة، من شاء يؤمن بها ومن شاء يرفضها. يريدون مجتمعاً يشبه قوس قُزح في تنوع ألوانه "مثل" علمهم.
عند العرب نجد كلمة قديمة هي "مخنث" وتعني: متشبه بالمرأة في سلوكه لبسًا وحركةً وكلاماً، أو ذو أعضاء تناسلية مزدوجة-مختلطة- ذكرية وأُنثوية. في العربية خنث الشاب: استرخى ولان وتثنَّى وتكسَّر كالنِّساء فهو على صورة الرجال وأحوال النساء. بعض الشباب يتخنَّثون بدافع نفسي لا شعوري. ويقترح أصحاب "المثلية الجنسية" أن سبب مثليتهم الرئيسي بيولوجي. وهذا خطأ فاحش، لأن الدراسات الطبية العلمية تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن المثلية الجنسية نتاج بيئة وتكيف مع بعض مظاهر العيش في وسط اجتماعي معين-يشيع هذا النمط من السلوك في وسط أهل الفن والثقافة أكثر من غيره - فأنت لن تكون مثلياً جنسياً بدافع بيولوجي، هذا أولاً، وثانياً "المثلية الجنسية" حالة مرضية بكل تأكيد -شأنا ذلك أم أبينا- لها أسبابها ومهادها الطويل العريض في مجتمعات "الرفاه الديمقراطي" التي وصلت إليه العديد من الدول في عالمنا المعاصر. ولكن كانت من أهم معضلاتها- أقصد هذه الدول- تفكك مفهوم الأسرة فيها-وخاصة بعد ثورة الشباب عام 1968 في العالم الغربي- وبالتالي قلَّ عدد سكانها وذهب المجتمع برمته إلى شيخوخة مبكرة، مما أجبرها على تشجيع الهجرة وفتح أبوابها أمام الراغبين بذلك، وهذا الشباب المهاجر من الدول الفقيرة هو من أوقف هذه الدول على حيلها من جديد.
أتذكَّر وجود أحد المخنثين في حارتنا "حي المنطرة" في مدينة إدلب في الشمال الغربي من سورية. وفي لهجة مدينة إدلب "شَكْر" لا انثى ولا ذكر، كان يملك بستاناً واسعاً من أشجار الفستق الحلبي في حارتنا، ولم يكن متزوجاً، ويعيش حياة طبيعية مثل كل الناس. وأعتقد اليوم، بعد أن استحضرتُ صورته في مخيلتي بأنه كان مبهم الجنس، أي يعيش بأعضاء تناسلية مشوهة. قابلت مثلياً جنسياً حقيقياً عندما كنتُ أعمل في أبو ظبي حتى عام 2000 وكان غُلاماً فيلبيني الجنسية، متشبهاً بالمرأة في سلوكه غنجاً ودلالاً وحركةً وكلاماً. حاول جاهداً استمالتنا إلى صفه وكان يزورنا في مسكننا في "كمب العمال" ولكننا "كشَّرنا" في وجه "الغُلام" فانصرف عنا بالتي هي أحسن. يقول الجاحظ في رسالة الجواري والغلمان: تواصف قوم الجماع، وأفاضوا في ذكر النساء، وإلى جانبهم "مخنَّث" فقال: بالله عليكم دعوا ذكر "الحِرِ" لعنه الله! فقال له بعضهم: متى عهدك به؟ فقال: مُذْ خرجت منه.
في العربية نجد أيضاً كلمة سِحاق-بكسر السين- شذوذ جنسي بين امرأتين "مثلية جنسية" أو هو "لواط الإناث" في المصطلح الفقهي. يقابله لواط عند الرِّجال. لِواط: عَمَلُ قوم لُوط، وهو ضَرْبٌ من الشذوذ الجنسي. وفي التفسير الفقهي لاط لواطاً فهو لائط، وهو إدخال الشخص قضيبه في دبر ذكر آخر وهو أحد أشكال المثلية الجنسية في عصرنا الحديث.
يقول الجاحظ في رسالة مفاخرة الجواري والغلمان: كانت في المدينة المنورة امرأة ماجنة يقال لها سَلَّامة الخضراء، فأخذت مع مخنث وهي تلوطه بكيرنج -قضيب اصطناعي- فرفعت قضيتها إلى الوالي، فأوجعها ضرباً وطاف بها المدينة على جمل، فنظر إيها رجل يعرفها فقال: ما هذا يا سَلَّامة؟ فقالت: بالله اسكت، ما في الدنيا أظلم من الرجال، أنتم تنكحوننا الدهر كله فلما نكحناكم مرة قتلتمونا.
في هذه الحادثة يظهر لنا أن هذا "المحنث" وكأنه يستمتع بهذه الممارسة، أي أنه من الناحية التشريحية ذكر، ولكنه يهوى أن يُلاط به، وشاءت المصادفة أن يُمسك مع امرأة تفعل به ما تفعل مستعملة قضيباً اصطناعياً. وهذه واقعة تدعو للدهشة والاستغراب في ذلك العصر المبكر من نهوض الدولة الإسلامية في زمن أوائل القرن الثاني الهجري حيث كان يعيش عمرو بن بحر، أبو عثمان، المشهور بالجّاحظ، حيث ترك أكثر من مئة وسبعين كتابا. وساعده على كثرة التأليف امتداد عمره، وانصراف الحكام وأهل الدولة عن استخدامه في قصورهم ودواوينهم للدمامة وجهه ومرضه الطويل الذي اضطره إلى ملازمة بيته وقطع فراغه بالكتابة والتأليف. ومازال في علته إلى أن وقعت عليه مجلدات العلم فقضت عليه في البصرة نهاية سنة 255 هجرية.
وعن الميداني في مَجمع الأمثال: دلال من مخنثي المدينة، واسمه نافذ، وكنيته أبو يزيد، وهو ممن خصاهم خطأ ابن حزم الأنصاري أمير المدينة في عهد سليمان بن عبد الملك، وذلك أنه جاء أمر الخليفة إلى ابن حزم عامله أن أَحْصِ لي مخنثي المدينة، فتشظَّى قلمُ الكاتب فوقعت نقطة على ذروة الحاء فصيرتها خاء، فلما ورد الكتاب المدينة ناوله ابن حزم كاتبه فقرأ عليه: اخْصِ المخنثين. فقال له الأمير:
- لعله أحص بالحاء.
فقال الكاتب:
- إن على الحاء نقطة مثل تمرة.
فتقدم الأمير في إحضارهم، ثم خصاهم، وهم: طويس، دلال، نسيم السحر، نومة الضحا، برد الفؤاد، ظل الشجر. أنظر إلى جمال هذه الألقاب ورقتها. ونحن هنا لا نؤكد صحة الرواية لأنها تقترب من صيغ الحكايات ولكنني أعتقد أن لها سنداً في الواقع. هل نصنف هؤلاء في خانة مصطلح "المثلية الجنسية" وما مشكلة هؤلاء النفسية أو الجسدية حتى يصل خبرهم الخليفة فيأمر بإحصائهم وليس إخصائهم؟ وجود هؤلاء القوم في بواكير المجتمع الإسلامي الناهض يدفعنا لتأكيد فكرة جوهرية وهي عندما ترافق الإسلام مع بنية حضارية قائمة اتسعت دائرة الحرية لتشمل العلاقات الإنسانية التي تحترم الآخر مهما كان هذا الآخر.
سؤال صديقتي رباب هل أنت مع المثلية الجنسية؟ سبب لي "وجع راس" فأخذت حبة "بندول" ليعتدل صداعي وأعرف كيف أُنهي هذه المقالة على خير. أنا شيوعي، أعترف بذلك، ولكن وجداني لا يسمح لي بأن أكون مع فكرة "المثلية الجنسية". نعم، قد أُشارك في مظاهراتهم وأتعرض للاعتقال بسببهم، ولو كنتُ محامياً لدافعت عنهم في المحاكم، وأُدافع عنهم كمجموعة بشرية لها رؤيتها في مسألة العلاقات الجنسية بين البشر. في دول "المنظومة الاشتراكية" وخاصة زمن ستالين وماو تسي تونغ لم تكن "المثلية الجنسية" أمراً مسموحاً به. هل حوربت بشدة؟ ما عندي معلومات لأن "الإنسان الاشتراكي الجديد" تلك الأيام لن يكون مثلياً جنسياً على كل حال. سألتُ نفسي: هل تقبل "الأحزاب الشيوعية العربية" المثلين في صفوفها؟ من خلال عملي في الحزب الشيوعي السوري لم أُقابل "مثلياً جنسياً"، تسرَّعتُ في الجواب، أليس كذلك؟ هل قابلتُ أحدهم؟ قد يكون ذلك، لأن "المثلي جنسياً" لن يكتب لوحة تعريف على صدره تقول: أحذر، أنا من المثلين جنسياً، هل أنت مثلي جنسياً؟
المثلية الجنسية: