كنت حاضرا في الصف بجسدي فقط، لكن خيالي كان يحلّق بي من عالمٍ مليء بالصور الجميلة الى عالم آخر، يسرقني من دنياي المظلمة الى دنيا من السعادة، لم أكن أشعر بالدرس وصياح المعلم ولا أشعر بأنني في الصف، حانت مني نظرة الى "شيمو" الذي يجلس أمامي بثلاثة صفوف، تذكرت ما قام به قبل بضعة أيام عندما أخذ يسير خلف المعلم ويصفق بيده دون صوت. تلك الذكرى السخيفة جعلتني أقاوم بالكاد رغبة عارمة بالضحك، لكن ابتسامة صغيرة ارتسمت على شفاهي رغماً عني، فإذا بالمعلم يراني فيرفع خيزرانته من فوق الرحلة الأمامية ويسرع نحوي والشرر يتطاير من عينيه ليصرخ بوجهي في غضب:
- "لماذا تضحك؟"
تغير لوني، وانعقد لساني وجف ريقي "كيف سأخبره بسبب ابتسامي، لسوف يضربنا أنا وشيمو حتى الموت، كيف أقول له إنني ابتسمت بسبب شيمو ورقصه من خلفك عندما وليّتنا ظهرك وتوجهت نحو السبورة"
- "قم وافتح كفيك"
فتحت كفّي الاثنتين، أمسك كفي اليمنى وقلبها وجها لظهر ورفع عصاه ثم هوى بها بكل قوته. صحت متوجعاً وحاولت أن أسحب كفي الصغيرة الباردة من كفه الكبيرة الدافئة، لكنه صار يضغط عليها بقوة أكبر ويواصل التعذيب، وغرق التلاميذ في صمتٍ قاتل، وحومت الرهبة والخوف فوق رؤوسهم مثل مخلوقٍ خرافي. لم يكن بيدي حيلة غير أن أتضرع إليه:
- "ناشدتك الله يا سيدي، سامحني هذه المرة يا سيدي"
- "يجب أن تخبرني لماذا تضحك"
وتدافعت في عيني الدموع، وغص حلقي بالنشيج، ومضيت في توسلاتي دون فائدة "ماذا أقول له؟ كل ذنبي أن خاطراً طفوليا مر برأسي فابتسمتُ دون إرادة مني" في هذه الأثناء وبينما هذا الجر والعرّ في ذروته، طُرِق الباب ثم فُتح على الفور، وظهر المدير الذي كان يمر قريبا من الباب وسمع آهاتي فدخل الصف. ورغم أن دخوله أنقذني من المعلم لكنني سرعان ما وجدت نفسي في غرفته متهماً خائفاً. نزل المدير عليّ بكل ما يعرف من شتائم وسباب وأنا منكس الرأس أحاول أن أبحث دون جدوى عن مبرر لتصرفي البريء، لكنه لم يتح لي فرصة فلم أنبس ببنت شفة. امتلأ قلبي بالحقد، تمنيت في تلكم اللحظة أن أنقلب الى واحد من أبطال الأساطير التي كان جدي يرويها لنا، أن أتحول الى سوبرمان وأجرجره من رقبته، لكن رنين الهاتف أنقذني من شتائمه فقال لي:
- "إذهب الى البيت ولا تعد الى المدرسة إلا بعد حضور أبيك"
سررت كثيراً لتخلصي من هذا الموقف الكريه فتراجعت وفتحت الباب وخرجت، لكنني عندما هممت بإغلاقه أبصرت المفتاح. أوصدتُ الباب وخطرت في ذهني فكرة شيطانية "فلأنتقم لنفسي!". مددت يدي الى المفتاح وأدرته في هدوء مرة ومرتين ثم أخرجته وأخفيته في راحتي، لم يكن الفراش، لحسن الحظ، قريبا من الباب. كنت أعرف أن السيد المدير منشغل بهاتفه، فأطلقت ساقيّ للريح متجها نحو باب المدرسة الخارجي، كنت أشعر بأنني سجينٌ صدر أمر إطلاق سراحه. حين بلغت رأس الشارع أحسست، برغم تيار الهواء البارد، بحرية لذيذة، يداي متحررتان، لا كتاب ولا حقيبة، زدت سرعتي، وصلت الى رأس الجسر، أشرفت على النهر وقذفت المفتاح من يدي التي كانت مطبقة عليه. أخذت نفسا عميقا ثم أطلقته بعمق، وقعت عيني على الخطوط الحمر على ظاهر كفي. مضيت في مسير أشبه بالرقص. في الطرف الثاني من الجسر، على جانب الشارع ثمة حديقة دون عشب أو أزهار، تراكمت فيها الأزبال، يلعب فيها عدد من الأطفال المقاربين لي في العمر. دلفت اليها ودنوت منهم وأخذت ألعب معهم. لم أفكر ببيت ولا مدرسة، أردتُ أن أنسى كل شيء، أن أعيش حرا ولو لبرهة وجيزة. قال لي أكبر الأطفال:
- "يبدو عليك من ثيابك أنك تلميذ"
- "ها.. نعم.. كنتُ تلميذا، لكنني تركت!"
صاح الجميع معاً:
- "هي ي ي مبارك عليك!"
بقيت معهم حتى وقت متأخر، ثم تذكرتُ أمي فسرت الى البيت، حين وصلت كانت الشمس توشك على المغيب، ورأيت أمي جالسة عند الباب وهي تبكي.
- "لماذا تبكين يا أمي؟"
رفعت رأسها وقامت وهوت على وجهي بصفعة من يدها اليمنى.
- "أين كنت يا ولد؟ لقد مت من الخوف. ظننت أن مكروهاً قد أصابك"
انخرطت بالبكاء، لكنها ضمتني الى صدرها وأدخلتني الى البيت، لكن بكائي ازداد وأنا على صدرها، ثم زال عن الخوف والحزن:
- "أين كتبك؟"
- "في المدرسة"
- "وماذا تفعل هناك؟"
- "المدير طردني"
- "لماذا طردك"
- "لأنني ابتسمت أثناء الدرس. أنظري: ضربني المعلم بالعصا"
وأريتها الخطوط الحمر على ظاهر كفي ثم قلت:
- "دخل المدير الى الصف وأخذني الى غرفته وأمرني بإحضار أبي وإلا لن يسمح لي بالدوام. لم أقل له أنني دون أب"
ورأيت حزناً عميقاً يرتسم على وجه أمي.
في اليوم التالي، وعندما أيقظتني أمي، كنت أحلم بأنني تائه، رأيت رجلاً وجهه يمطر بالحنان، كانوا ينادونه "يا أبتاه" فأخذت أنا أيضا أناديه "يا أبتاه"، ضمني الى صدره وأخذ يقبلني ويقدم لي هدايا جميلة. فتحتُ عيني، كانت أمي تقبل وجهي، رفعتني واحتضنتني:
- "انهض يا ولدي وتناول إفطارك، ستذهب الى المدرسة"
فركت عيني وأجبتها:
- "قال لي المدير لا تأتِ إلا إذا حضر أبوك"
- "انهض، أنا سآتي معك"
لم أجرؤ على إخبارها بقصة المفتاح. مضيت معها.. وكنت طوال الطريق أشعر بأنني أتوجه نحو السجن من جديد!
إكستر-بريطانيا-2012
- "لماذا تضحك؟"
تغير لوني، وانعقد لساني وجف ريقي "كيف سأخبره بسبب ابتسامي، لسوف يضربنا أنا وشيمو حتى الموت، كيف أقول له إنني ابتسمت بسبب شيمو ورقصه من خلفك عندما وليّتنا ظهرك وتوجهت نحو السبورة"
- "قم وافتح كفيك"
فتحت كفّي الاثنتين، أمسك كفي اليمنى وقلبها وجها لظهر ورفع عصاه ثم هوى بها بكل قوته. صحت متوجعاً وحاولت أن أسحب كفي الصغيرة الباردة من كفه الكبيرة الدافئة، لكنه صار يضغط عليها بقوة أكبر ويواصل التعذيب، وغرق التلاميذ في صمتٍ قاتل، وحومت الرهبة والخوف فوق رؤوسهم مثل مخلوقٍ خرافي. لم يكن بيدي حيلة غير أن أتضرع إليه:
- "ناشدتك الله يا سيدي، سامحني هذه المرة يا سيدي"
- "يجب أن تخبرني لماذا تضحك"
وتدافعت في عيني الدموع، وغص حلقي بالنشيج، ومضيت في توسلاتي دون فائدة "ماذا أقول له؟ كل ذنبي أن خاطراً طفوليا مر برأسي فابتسمتُ دون إرادة مني" في هذه الأثناء وبينما هذا الجر والعرّ في ذروته، طُرِق الباب ثم فُتح على الفور، وظهر المدير الذي كان يمر قريبا من الباب وسمع آهاتي فدخل الصف. ورغم أن دخوله أنقذني من المعلم لكنني سرعان ما وجدت نفسي في غرفته متهماً خائفاً. نزل المدير عليّ بكل ما يعرف من شتائم وسباب وأنا منكس الرأس أحاول أن أبحث دون جدوى عن مبرر لتصرفي البريء، لكنه لم يتح لي فرصة فلم أنبس ببنت شفة. امتلأ قلبي بالحقد، تمنيت في تلكم اللحظة أن أنقلب الى واحد من أبطال الأساطير التي كان جدي يرويها لنا، أن أتحول الى سوبرمان وأجرجره من رقبته، لكن رنين الهاتف أنقذني من شتائمه فقال لي:
- "إذهب الى البيت ولا تعد الى المدرسة إلا بعد حضور أبيك"
سررت كثيراً لتخلصي من هذا الموقف الكريه فتراجعت وفتحت الباب وخرجت، لكنني عندما هممت بإغلاقه أبصرت المفتاح. أوصدتُ الباب وخطرت في ذهني فكرة شيطانية "فلأنتقم لنفسي!". مددت يدي الى المفتاح وأدرته في هدوء مرة ومرتين ثم أخرجته وأخفيته في راحتي، لم يكن الفراش، لحسن الحظ، قريبا من الباب. كنت أعرف أن السيد المدير منشغل بهاتفه، فأطلقت ساقيّ للريح متجها نحو باب المدرسة الخارجي، كنت أشعر بأنني سجينٌ صدر أمر إطلاق سراحه. حين بلغت رأس الشارع أحسست، برغم تيار الهواء البارد، بحرية لذيذة، يداي متحررتان، لا كتاب ولا حقيبة، زدت سرعتي، وصلت الى رأس الجسر، أشرفت على النهر وقذفت المفتاح من يدي التي كانت مطبقة عليه. أخذت نفسا عميقا ثم أطلقته بعمق، وقعت عيني على الخطوط الحمر على ظاهر كفي. مضيت في مسير أشبه بالرقص. في الطرف الثاني من الجسر، على جانب الشارع ثمة حديقة دون عشب أو أزهار، تراكمت فيها الأزبال، يلعب فيها عدد من الأطفال المقاربين لي في العمر. دلفت اليها ودنوت منهم وأخذت ألعب معهم. لم أفكر ببيت ولا مدرسة، أردتُ أن أنسى كل شيء، أن أعيش حرا ولو لبرهة وجيزة. قال لي أكبر الأطفال:
- "يبدو عليك من ثيابك أنك تلميذ"
- "ها.. نعم.. كنتُ تلميذا، لكنني تركت!"
صاح الجميع معاً:
- "هي ي ي مبارك عليك!"
بقيت معهم حتى وقت متأخر، ثم تذكرتُ أمي فسرت الى البيت، حين وصلت كانت الشمس توشك على المغيب، ورأيت أمي جالسة عند الباب وهي تبكي.
- "لماذا تبكين يا أمي؟"
رفعت رأسها وقامت وهوت على وجهي بصفعة من يدها اليمنى.
- "أين كنت يا ولد؟ لقد مت من الخوف. ظننت أن مكروهاً قد أصابك"
انخرطت بالبكاء، لكنها ضمتني الى صدرها وأدخلتني الى البيت، لكن بكائي ازداد وأنا على صدرها، ثم زال عن الخوف والحزن:
- "أين كتبك؟"
- "في المدرسة"
- "وماذا تفعل هناك؟"
- "المدير طردني"
- "لماذا طردك"
- "لأنني ابتسمت أثناء الدرس. أنظري: ضربني المعلم بالعصا"
وأريتها الخطوط الحمر على ظاهر كفي ثم قلت:
- "دخل المدير الى الصف وأخذني الى غرفته وأمرني بإحضار أبي وإلا لن يسمح لي بالدوام. لم أقل له أنني دون أب"
ورأيت حزناً عميقاً يرتسم على وجه أمي.
في اليوم التالي، وعندما أيقظتني أمي، كنت أحلم بأنني تائه، رأيت رجلاً وجهه يمطر بالحنان، كانوا ينادونه "يا أبتاه" فأخذت أنا أيضا أناديه "يا أبتاه"، ضمني الى صدره وأخذ يقبلني ويقدم لي هدايا جميلة. فتحتُ عيني، كانت أمي تقبل وجهي، رفعتني واحتضنتني:
- "انهض يا ولدي وتناول إفطارك، ستذهب الى المدرسة"
فركت عيني وأجبتها:
- "قال لي المدير لا تأتِ إلا إذا حضر أبوك"
- "انهض، أنا سآتي معك"
لم أجرؤ على إخبارها بقصة المفتاح. مضيت معها.. وكنت طوال الطريق أشعر بأنني أتوجه نحو السجن من جديد!
إكستر-بريطانيا-2012