د. رنه يحيى - قراءة في نص: "تبتسمين؛ كأن ملاكاً" للشاعر السوري رأفت حكمت

"الحداثة لا تقتضي حرية الفكر فقط؛ وإنما حرية الجسد أيضاً. إنها بصورة ما انفجار المكبوت وتحرره."
الشاعر أدونيس


القراءة:
قصيدة النثر صندوق الدنيا، إذا كسرته وجدته خاويا، وإذا فتحته انفتح لك على كل طريق وعجيب.
وهذا ما تجلى عندما فتحت هذا النص، فرأيت صورة وراء صورة وراء صورة، ورأيت التشبيه والإستعارة والكناية في صورة واحدة.فمن السطر الأول يجعلنا الشاعر نهذي معه إبداعيا ،بشكل واع،عندما نقرأ معه تفاصيل خياله في كل إحساسه.إنه هذيان مبدع تختلط فيه الحواس وتتداخل فيه نوستالجيا الأشياء بالمشاعر.ف"كل شي،منذ قبل الشمس ،يحاولك".
مشهدية حياتية يقوم فيها الشاعر بعرض عاطفي جسدي وجودي في تعامله مع حركة الكون وسكونية الأشياء(صباح متأخر-ليل طويل-ستائر تتمايل-وريح تتواطأ).فيدهشنا بلغة الأشياء ، ويمنح حواسنا فيضا من الإمتلاء.
فنلمح في نص الشاعر ضمير المؤنث يتنزه كمجاز لمتعة الرجل.فيختفي الرجل هنا وتحل محله متعته من خلال كلمات ترتدي وشاحا دلاليا، وتمتد على طول النص لتكون الرحم الأول لولادة المعنى. فنراه يعثر على المعنى الذي يريد من خلال أسلوب متفرد. أوليست القصيدة "أسلوب" في الحياة، وطريقة في النظر إلى المرأة والعلاقة مع المرأة كما يقول الأديب "عبد الكريم حسن"؟
فالمرأة في نص رأفت حكمت كائن جميل يقترب من محبوبه على حياء في مخيلة خجولة وابتسامة ملائكية،ليبلغ جرأته في جسد يتمطى تحت شرشف متشبث بنعاسها. ليقابلها الشاعر ويمسح عري الجسد هناك بقبلات تترك آثارها على كتف المحبوبة فيثقله حد الغرق، وبأنفاس طويلة تستحيل صباحا برائحة أنثى. فللجسد هنا حضور وحظوة،كما في شعر القدماء الكبار ،فقد نقبوا في عالم الجسد الجميل وأخرجوا من مناجمه شعرا ماسيا.
والشاعر في ليله هذا يصغي إلى موسيقى كونية هي موسيقى الجسد ، فبعد التقاء الجسدين وغرقهما،يتحول العشق إلى رغبة بصورة رائحة،ليمنح حواسنا من شم وبصر ولمس واحساس تأكيدا مكثفا في نصه ،مما يخلقها من جديد.فيدخل هو والقارئ المتفاعل في فردوس العشق الروحي والجسدي.
قصيدة عذراء ، وعذريتها ليست في بلاغة وجوهها البلاغية ، ولكنها في بلاغة أخرى هي السجل المفرداتي.ففي هذا النص مفردات من الواقع الجامد(سجائر-طاولة-شرشف-ستائر- نافذة-سرير)تتحول في شعور الشاعر إلى كائنات حية تسير بهذا الشغف حتى الارتماء.فالستائر مجاز والنافذة مجاز وقمر يتلصص على امرأة.فيتلون الوصف هنا بأحاسيس الكاتب ليعبر عنه، وهذا ما يعرف بالوظيفة التعبيرية للوصف عند "جون ميشال أدام".
نص"كأنك ملاكا تبتسمين" ينطبق على ما قاله "مارمونتال": ينبغي لكل إنشاء أن يشكل كلا تكون أجزاؤه مترابطة ، يتجاوب وسطه مع بدايته، ونهايته مع وسطه، وهذا ما دعا إليه أيضا "أرسطو" و"هوراس".فالنص يبدأ بصباح متأخر بعد ليل طويل من اللهفة في مخيلة خجولة ،لينتهي إلى النهوض على شكل نفس ورائحة.
إن قراءة شعر رأفت حكمت يحرضنا على التفكير بالشعور بطريقة مختلفة، لأنه شعور ترتبط الصورة فيه بحركة الإيقاع الداخلي،شعر لا يلتزم بأي نظام وقوانين، ويصل إلى أقصى حدود الحرية الشعرية، وهذا ما طالب به "مالارميه".
نتلذذ بنص شعري ينبض بالمشاعر لنسمع في خاتمته صوتين:صوت المرأة وصوت الشاعر(كانت-كان).نص امرأة ترغب ورجل يلبي الرغبة وشعر يتنفس برغبتهما.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* النص:

كلُّ شيءٍ ، منذُ قبلِ الشّمسِ، يُحاوِلُك
صباحٌ متأخّرٌ
وفنجانُ صَحوِكِ المؤجَّلُ
وأنتِ تقلّبينَ ليلةَ أمس في مخيّلتكِ الخجولة
وتبتسمينَ
كأنّ " ملاكاً " يدغدِغُكِ
ضوءٌ باردٌ ..
يزحفُ نحو ما تكشَّفَ عن كتفيكِ من آثارِ شفاهي
وريحٌ تتواطأُ ..
ستائرَ كانتْ" طوال اللّيلِ "في غفلةٍ منكِ
تتباعدُ عن بعضها أمام النّافذة ، كي تُلبّي رغبَةَ قمرٍ في التّلصّصِ ..
طاوِلةُ الفوضى
وصحنُ سجائرَ فوقها ..
غصَّ بما أنفقناه من رئتينا ونحنُ في طريقنا إلى أخذِ نفسٍ طويلٍ قبلَ الغرق ..
كتابٌ مفتوحٌ ..
كانَ أبطالُ الرّوايةِ فيه يتهامسونَ ويضحكونَ
أثناءَ انشغالي عن مآثِرهم
بتقبيلِ أصابِعِكْ .
كلُّ شيءٍ يترقَّبُ ،
وأنا أيضاً..
كيفَ تبدّلينَ موضعَ نومكِ ، بجسدٍ يتمطّى
تحتَ شرشفٍ متشبّثٍ بنعاسكِ
وكيفَ ستنهضينَ أخيراً ..
تاركةً
على
سريركِ
رائحةً ..

" أنْ هنا كانَتِ امرأةٌ ترغبُ ، وكانَ رجلٌ يعبثُ في خيالها"


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
** قراءة ضمن فقرة قراءات نقدية الأسبوعية في نادي وتريات قصيدة النثر


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى