لا أميل بطبعي إلى الأشكال ذات الحواف الحادة، وإن اضطررت لشرائها، فلابد أن تملك ما يميزها لتجذب انتباهي.
عادة، عندما أزور صديقي عمران، أجلس في نفس الكرسي البعيد تماما عما يضطرك لغض البصر كي لا تجرح حرمة المنزل، فهو يقع في زاوية من البهو تسمح لك برؤية النباتات التي تخيرها بعناية لتشاركه الحياة، ووزعها بتنسيق فنان بين الظل والضوء؛ فيسرقك منظرها في تأمل عميق، لكنه دائما ما يتصيدني وأنا أنظر إليها مليا، مربعة الأضلاع، متناسقة ألوانها مع الركن الذي علقت عليه، فيهز رأسه مبتسما.
ذات مرة باغتني: إن كانت تعجبك لهذا الحد، خذها معك، ولو أنها لا تقدر عندي بثمن.
انتبهت متلعثما: عفوا، عم تتكلم؟ قال: تلك التي تسترق إليها النظر كل لحظة، وأشار إليها، قلت عفوا يا صديقى، ما قصدت ذلك، لكنها بالفعل جميلة، ألوانها، تنسيقها الداخلي، والأغرب من ذلك، حركتها الرشيقة التي لا يصدر عنها أي هسيس يزعجك، قال: إن لها قصة، أتحب أن تسمعها؟
اعتدلت في جلستي متحفزا: ما أجملها مع فنجان الشاي بالنعناع الأخضر.
كنت بالعشرينات من عمري، في بداية حياتي العملية، وكما تعلم عشقي للتصوير؛ فقد آثرت أن أعمل مصورا على أن أتعين في وظيفة نمطية بشهادتي الجامعية، وما أعظم ما منحتني إياه تلك المهنة من خبرات، فقد مر علي فيها من التجارب، وعشت مع الناس في يومياتهم ما تزخر به ذاكرتي، كان يوسف واحدا منهم، عرفني إليه أبو إبراهيم صاحب محل التصوير الذي كنت أعمل به، من الوهلة الأولى يهيأ لك أن لديه نسبة من التوحد، ولعله كذلك، لا تخطئ طيبته ولا تفانيه في خدمة غيره أبدا، ولد وتعلم في هذه البلاد لأبوين من غزة، استقرت بهم الحال على تلك البقعة من الأرض من ثلاثة عقود، فلم يكن له من أصدقاء ولا صحبة إلا هنا، وما أقلهم في حياته.
في العام قبل الماضي قرر والداه أن يسافرا إلى غزة عن طريق مصر، فأنت تعرف تلك المعاناة، لكن حدث ما لم يكن بالحسبان، ولظروف الغزو، لم يستطيعا العودة، فتركاه وحيدا، بدون عمل في بيت لا يستطيع دفع أجرته، فعاش مسكينا، يتكفف الناس.
كنت أدعوه دائما للبقاء معي، يؤنسني، ويوزع وحدته بين الأحداث اليومية، كان يضحك كثيرا كلما رأي غيظي من تلك الساعة التي لابد أن أقبل ابتلاءها، وهي مسلطة علي، مصلوبة على الحائط تعن بعقاربها، وتطن كل ثانية في أذني حتى صارت وسيلة للتعذيب، كلما أنتفضت منها جزعا، يقول لي: تذكرني بأبي، كان مثلك، يحب الساعة بدون طقة.
ذات يوم دخل على في يده كيس أنيق، مده إلي قائلا: تلك ذكرى من أبي، اشتراها من عشرين عاما، أردت أن أهديها لك لعلك تذكرنا بها…
اضطر يوسف إلى بيع كل أغراض البيت التي تحمل ذكرياته، وغادر إلى بلاده، تاركا في قلبي ابتسامته النقية تطل علي من خلف زجاج ساعته.
وها هي ذي، معلقة أمامك منذ خمسة عشر عاما، تقوم بعملها دون إزعاج، كلما نظرت لها تذكرته، وتذكرت والده الذي يحب الساعات بدون طقة.
عادة، عندما أزور صديقي عمران، أجلس في نفس الكرسي البعيد تماما عما يضطرك لغض البصر كي لا تجرح حرمة المنزل، فهو يقع في زاوية من البهو تسمح لك برؤية النباتات التي تخيرها بعناية لتشاركه الحياة، ووزعها بتنسيق فنان بين الظل والضوء؛ فيسرقك منظرها في تأمل عميق، لكنه دائما ما يتصيدني وأنا أنظر إليها مليا، مربعة الأضلاع، متناسقة ألوانها مع الركن الذي علقت عليه، فيهز رأسه مبتسما.
ذات مرة باغتني: إن كانت تعجبك لهذا الحد، خذها معك، ولو أنها لا تقدر عندي بثمن.
انتبهت متلعثما: عفوا، عم تتكلم؟ قال: تلك التي تسترق إليها النظر كل لحظة، وأشار إليها، قلت عفوا يا صديقى، ما قصدت ذلك، لكنها بالفعل جميلة، ألوانها، تنسيقها الداخلي، والأغرب من ذلك، حركتها الرشيقة التي لا يصدر عنها أي هسيس يزعجك، قال: إن لها قصة، أتحب أن تسمعها؟
اعتدلت في جلستي متحفزا: ما أجملها مع فنجان الشاي بالنعناع الأخضر.
كنت بالعشرينات من عمري، في بداية حياتي العملية، وكما تعلم عشقي للتصوير؛ فقد آثرت أن أعمل مصورا على أن أتعين في وظيفة نمطية بشهادتي الجامعية، وما أعظم ما منحتني إياه تلك المهنة من خبرات، فقد مر علي فيها من التجارب، وعشت مع الناس في يومياتهم ما تزخر به ذاكرتي، كان يوسف واحدا منهم، عرفني إليه أبو إبراهيم صاحب محل التصوير الذي كنت أعمل به، من الوهلة الأولى يهيأ لك أن لديه نسبة من التوحد، ولعله كذلك، لا تخطئ طيبته ولا تفانيه في خدمة غيره أبدا، ولد وتعلم في هذه البلاد لأبوين من غزة، استقرت بهم الحال على تلك البقعة من الأرض من ثلاثة عقود، فلم يكن له من أصدقاء ولا صحبة إلا هنا، وما أقلهم في حياته.
في العام قبل الماضي قرر والداه أن يسافرا إلى غزة عن طريق مصر، فأنت تعرف تلك المعاناة، لكن حدث ما لم يكن بالحسبان، ولظروف الغزو، لم يستطيعا العودة، فتركاه وحيدا، بدون عمل في بيت لا يستطيع دفع أجرته، فعاش مسكينا، يتكفف الناس.
كنت أدعوه دائما للبقاء معي، يؤنسني، ويوزع وحدته بين الأحداث اليومية، كان يضحك كثيرا كلما رأي غيظي من تلك الساعة التي لابد أن أقبل ابتلاءها، وهي مسلطة علي، مصلوبة على الحائط تعن بعقاربها، وتطن كل ثانية في أذني حتى صارت وسيلة للتعذيب، كلما أنتفضت منها جزعا، يقول لي: تذكرني بأبي، كان مثلك، يحب الساعة بدون طقة.
ذات يوم دخل على في يده كيس أنيق، مده إلي قائلا: تلك ذكرى من أبي، اشتراها من عشرين عاما، أردت أن أهديها لك لعلك تذكرنا بها…
اضطر يوسف إلى بيع كل أغراض البيت التي تحمل ذكرياته، وغادر إلى بلاده، تاركا في قلبي ابتسامته النقية تطل علي من خلف زجاج ساعته.
وها هي ذي، معلقة أمامك منذ خمسة عشر عاما، تقوم بعملها دون إزعاج، كلما نظرت لها تذكرته، وتذكرت والده الذي يحب الساعات بدون طقة.