حسن المودن - البلاغة الجديدة بين التخييل والتداول.. تأليف: د. محمد العمري

" وكيف يظن إنسان أن صناعة البلاغة يتأتّـى تحصيلها في الزمن القريب، وهي البحر الذي لم يصل أحد إلى نهايته مع استنفاذ الأعمار" ( حازم القرطاجني)

تـقـديم:

يسعدني اليوم أن أقدم الكتاب الجديد الذي أصدره الدكتور محمد العمري سنة 2005م بدار افريقيا الشرق تحت عنوان: البلاغة الجديدة بين التخييل والتداول.

والدكتور محمد العمري غني عن التعريف، فهو صاحب مشروع علمي يفتح أفقا جديدا للدراسات البلاغية والنقدية، وذلك بحكم تشبعه بالتراث وتحكمه من النظريات والمناهج الغربية، ودراساته تحاور التراثين، العربي والغربي، وتغنيهما بوعي علمي دقيق، وبالطريقة التي تسمح بإثراء الخطابين البلاغي والنقدي المعاصرين، وتطوير أسئلتهما وإشكالاتهما، وتدشين مباحث جديدة تزيد من عمق وعينا بإشكالية الخطاب، والأدبي خاصة.

يتألف هذا المشروع العلمي من دراسات وأبحاث وترجمات، بعضها يعتبر قراءة نسقية جديدة للتراث البلاغي العربي( كتابه الصادر سنة 1999 تحت عنوان:البلاغة العربية،أصولها وامتداداتها)، وبعضها ترجمات تعرّف بالنظريات الأدبية والبلاغية الجديدة( كتابه الصادر سنة 1996 تحت عنوان: نظرية الأدب في القرن العشرين)، وبعضها يخلق حوارا بين البلاغة العربية والبلاغات الأخرى، الإغريقية في العصور القديمة والغربية في العصر الراهن( على سبيل التمثيل، نشير إلى المقالات التي أصدرها الباحث في مجلة فكر ونقد حول البلاغة العامة والبلاغات المعممة، وبلاغة الحوار ...) .

ويمكن تصنيف هذه الدراسات إلى صنفين يشكلان بعدين أساسين في المشروع العلمي للأستاذ محمد العمري:

يتكون الصنف الأول من دراسات كرّسها الباحث للخطاب الشعري، منها كتابه الذي أصدره سنة 1990 تحت عنوان: تحليل الخطاب الشعري، البنية الصوتية في الشعر، وكتابه الذي أصدره سنة 2001 تحت عنوان: الموازنات الصوتية في الرؤية البلاغية والممارسة الشعرية .

ويتألف الصنف الثاني من دراسات اعتنى فيها الباحث بالخطابة والخطاب الاقناعي قديما وحديثا، منها كتابه الذي أصدره سنة 1986 وصدرت طبعته الثانية سنة 2002 تحت عنوان: في بلاغة الخطاب الاقناعي، وكتابه الذي صدر سنة 2002 تحت عنوان: دائرة الحوار ومزالق العنف.

قد يعطي هذا التصنيف الانطباع بأن الباحث يفصل فصلا مطلقا بين الشعري والخطابي، وأنه يدرس الشعري دراسة بنيوية داخلية، ويدرس الخطابي دراسة تداولية خارجية. والواقع أن الأمر ليس بهذه البساطة، ففي دراسته للخطابة العربية كان يأخذ بعين الاعتبار الدور الذي يلعبه المكون الشعري في الخطاب الاقناعي، وهو يستعين بنظريات القراءة والتلقي في دراساته للخطاب الشعري، ويكشف النقاب عن النظرة التداولية إلى الشعر في التراث البلاغي( نشير إلى مقالة نشرها بمجلة : فكر ونقد ،عدد 17،سنة1999، تحت عنوان: القاريء وانتاج المعنى في الشعر القديم، حدود التأويل البلاغي ).

واليوم، يأتي هذا الكتاب الجديد: البلاغة الجديدة بين التخييل والتداول للبحث في هذه المنطقة البينية التي يتقاطع فيها التخييلي والتداولي، وهو بذلك يعيد البحث البلاغي إلى الواجهة باعتباره بحثا علميا يهتم بالخطاب في كليته، أي في بعديه التخييلي الأدبي والحجاجي المنطقي.

بعد عمر من البحث في المجال البلاغي ببعديه الشعري والخطابي، يعود الباحث إلى نقطة البداية ليتساءل: ما هي البلاغة؟ أين توجد البلاغة؟ هل هناك بلاغة واحدة أم بلاغات متعددة؟ وإذا كانت هناك بلاغات متعددة، هل هناك مشروعية لقيام بلاغة عامة تنسق هذه البلاغات الخاصة وتتحدث باسمها في نادي العلوم المحيطة بها؟

هذه هي الأسئلة التي يعالجها هذا الكتاب نظريا وتاريخيا في الفصل الأول، وتطبيقيا ثانيا من خلال الاشتغال على نموذجي السخرية والسيرة الذاتية في الفصل الثاني، وبالحفر ثالثا " في أعماق اللغة والفكر لابراز فعالية المكون الجوهري في البلاغة، أي المجاز، في الفصل الثالث.

عرض الكتاب:

يتألف الكتاب من تقديم وثلاثة فصول وملحق يضمّ مقالا للبلاغي الفرنسي أوليفيي روبول تحت عنوان: هل يمكن أن يوجد حجاج غير بلاغي؟ قام الأستاذ محمد العمري بترجمته، وهو مقال لا تخفى أهميته بالنظر إلى موضوع الكتاب.

ويتكون الفصل الأول من مبحثين اثنين:

يفتتح الأستاذ العمري المبحث الأول بتوضيحات أساس، منها أن كلمة " بلاغة " لا تطرح في السياق العربي إشكالا في كونها علم الخطاب الاحتمالي بنوعيه التخييلي والتداولي، وذلك نتيجة الدمج الذي مارسه، في المرحلة الثانية من تاريخها، كل من عبد القاهر الجرجاني وابن سنان الخفاجي ثم السكاكي وحازم القرطاجني، وذلك بعد المحاولة التي قام بها العسكري تحت عنوان: الصناعتين. ويقول انه بالرغم مما أدت إليه عملية الدمج من إقصاء واختزال أحيانا، ومن تحويل المركز أحيانا أخرى( من التخييل إلى التداول خاصة)، فقد ظلّ شعار الوحدة البلاغية مرفوعا.

وفي مقابل ذلك، يوضح أن كلمة " ريطوريك rhetorique, rhetoric" في الثقافة الغربية تتراوح بين ثلاثة مفاهيم كبرى:

1 ـ المفهوم الأرسطي الذي يخصّصها لمجال الإقناع والياته، حيث تشتغل على النص الخطابي في المقامات الثلاثة المعروفة( المشاورة، المشاجرة، المفاضلة)، وتقابل بذلك الخطاب المحاكي المخيل أي الشعر حصرا. وهذا هو المفهوم الذي أعاد بيرلمان واخرون صياغته في اتجاه بناء نموذج منطقي للإقناع.

2 ـ المفهوم الأدبي الذي يجعلها بحثا في صور الأسلوب، وهذا المفهوم هو الذي استقرّ لها عبر تاريخ من الانكماش رسم رولان بارت خطوطه العامة في محاضراته المشهورة عن تاريخ البلاغة القديمة. وقد أعيدت صياغة هذا الاتجاه حديثا باعتباره بلاغة عامة أحيانا، كما هو الحال في الدراسة المشهورة لجماعة مي تحت عنوان: البلاغة العامة.

3 ـ المفهوم النسقي الذي يسعى إلى جعل البلاغة علما أعلى يشمل التخييل والحجاج ، ويستوعب المفهومين معا من خلال المنطقة التي يتقاطعان فيها، ويوسّع منطقة التقاطع إلى أقصى حدّ ممكن. فقد حدث خلال التاريخ أن تقلّص البعد الفلسفي التداولي للبلاغة، وتوسّع البعد الأسلوبي حتى صار الموضوع الوحيد لها، فكانت نهضة البلاغة حديثا منصبّة على استرجاع البعد المفقود في تجاذب بين المجال الأدبي( حيث يهيمن التخييل) والمجال الفلسفي المنطقي من جهة، واللساني التداولي من جهة ثانية.

ويسجل الباحث أن هذا المفهوم العام النسقي للبلاغة هو الذي يهمّه، موضحا أن هذا المفهوم قد يفقد طابعه الإشكالي النسقي سعيا للدمج الكلّي بين التخييلي والتداولي فيشرف على حدود التلفيق، كما هو الحال في الكثير من النماذج المنتمية إلى السيميائيات وعلم النص.

بعد هذه التوضيحات ينتقل الباحث إلى الحديث عن الأساس الذي يقوم عليه النسق البلاغي، مشيرا إلى أن الحديث عن علم للتخييل والتداول باعتبارهما خطابين يتّجهان نحو قطبين متباعدين يقتضي بيان العنصر الجوهري الذي يجمعهما، ومدى الإنتاجية الإضافية المترتّبة عن الجمع، فضلا عن الحاجة إلى ضبط الحدود مع الجوار المعرفي( المنطق والفلسفة واللسانيات).

ويسجّل أن لا اختلاف بين المدافعين عن النسق البلاغي العام وبين المرتابين في إمكانية قيامه في أن التخييل والتداول( أو الحجاج بشكل أدقّ) يلتقيان في أنهما خطابان قائمان على الاحتمال، الاحتمال توهيما أو ترجيحا، التوهيم في التخييل والترجيح في التداول الحجاجي: فخطاب الشاعر " كذب " محتمل الصدق، وكلام الخطيب صدق محتمل الكذب. ومع ذلك، فمن الدارسين من رجّح الخصوصيات النوعية لكل جنس ففصل، ومنهم من رأى أن منطقة الاتصال واسعة بشكل يجعلها كافية لقيام علم عامّ للشعرية والخطابية هو علم البلاغة:

- الفصل بين الشعرية والخطابية: في سياق الفصل بين الخطابية والشعرية، يعرض محمد العمري ويناقش مقالا ل- بول ريكور تحت عنوان: " الخطابية، الشعرية، التأويلية ". وهو في نظره مقال مركّز يفحص بعمق عناصر الالتقاء وعناصر الافتراق بين الشعرية والخطابية، وعرضه ومناقشته يتيحان تبيّن عناصر التداخل، وتدعيمها بمعطيات أخرى من المجال العربي، ومناقشة المستندات المعتمدة في الاحتجاج لعدم إمكان قيام بلاغة عامة.

يعود بول ريكور بالبلاغة إلى مهدها الغربي عند اليونان باحثا عن نواة الشعرية والخطابية، فيلاحظ أن نواة الخطابية هي فضّ نزاع يتمّ حسمه عن طريق معاقلة توجد في منتصف بين الخطاب البرهاني والعنف المستتر وراء الخطاب الإغوائي الخالص، فبينهما يوجد معقول مناسب للمقامات الخطابية عند أرسطو. وأساس هذا الخطاب هو الحوار.

والأمر الجوهري في الخطابية الأرسطية وبلاغة الحجاج عامة هو الاحتكام إلى المستمعات Auditoires، إذ يظل هدف الحجاج هو الإقناع، أي الحصول على موافقة المستمع ودفعه للفعل، فالخطابية هي فن الخطاب الفاعل. ويضاف إلى هذا أن اعتبار حال المستمع في بناء الخطاب يطرح مدى صلابة المنطلقات الحجاجية.

وتلتقي الشعرية مع الخطابية في كونهما يعالجان إنتاجا لنصوص نواتها الاحتمال، فالشعرية تعني عند أرسطو إنتاج الخطاب، والخطابية ليس شيئا آخر غير تركيب الخطاب، أي أنها هي الأخـرى بـويـزيـس Poesis. ومـع ذلـك، وان كان الـشـعـري والخطابي يتقاطعان في منطقة المحتمل، فان تقاطعهما، بالنسبة لـريكور، يعني مجيئهما من مكانين مختلفين وتوجّههما نحو هدفين مختلفين. فالفعل الشعري هو خلق حكايات ـ حبكة، والفعل الخطابي هو تقديم حجج.

إن نواة الشعرية تتبلور في العلاقة بين كلمات مفاتيح هي: الإنـت- اج Poesis والـحـكـي Muthos والـمـحـاكـاة Memesis والـحـبـكـة Intrigue ، وهي بهذا تعارض نواة الخطابية التي هي الحجاج. وعليه، فليس من الممكن، في نظر بول ريكور، قيام علم يستوعب الشعرية والخطابية( بل والتأويلية أيضا). والملائم إذن هو أن تتحدث كل واحدة باسمها الخاصّ، فتختصّ الخطابية بفنّ الحجاج الهادف لاقناع المستمع، وتختصّ الشعرية بفنّ بناء الحبك مستهدفة توسيع الخيال الفردي والجماعي.

وفي سياق مناقشة الفصل بين الشعرية والخطابية، كما يقول به بول ريكور، يسجّل محمد العمري أن الباحث قد اعتبر تقسيم أرسطو مهدا واحدا للنشأة المزدوجة للبلاغة، والواقع أن هناك مهدا آخر هو مهد البلاغة العربية التي عرفت نشأة شبيهة دون أن تكون نواة الشعر فيها مماثلة لما عند أرسطو، وهذا الأخير ليس المهد الأول للبلاغة اليونانية، بل هو الذي شطّرها بعد أن كان فنّ القول واحدا مشاعا بين الفلاسفة والخطباء والشعراء. ويضاف إلى هذا أن ما وصلنا من شعرية أرسطو لا يمثّل تصوره في مشروعه، فأحرى أن يمثّل الشعر في عصره كاملا، فكتابه مبتور كما هو معلوم، وأهمّ غائب فيه الشعر الغنائي الذي لو حضر لكان الحديث عن الحبكة والحكاية محلّ نقاش، فنواة الشعر قابلة للمراجعة من خلال قراءة تاريخية موسّعة. وقد انتبه البلاغيون الفلاسفة العرب إلى غياب المتن العربي أو ما يماثله عن تصور أرسطو، ولو حضر لديه لأضاف فصولا إلى كتابه(ويحيل محمد العمري هنا إلى قول حازم القرطاجني في : منهاج البلغاء وسراج الأدباء، ص 68 : " ولو وجد الحكيم أرسطو في شـعـر اليونانيين ما يوجد في شـع- ر الـعـرب من كـث- رة الـح- ك- - م والأمثال والاستدلالات واختلاف ضروب الإبداع في فنون الكلام ... لزاد على ما وضع من القوانين الشعرية").

- الوصل بين الشعرية والخطابية: البلاغة العامة: يسجّل محمد العمري أن بلاغيين محدثين كبارا قد بذلوا جهدا فلسفيا ومـخـبريا في بيان مدى صـلابـة الأسـاس العلمي لقيام بلاغة عامة بالمفهوم الذي تحدث عنه حازم القرطاجني، أي البلاغة باعتبارها علما كليا يستوعب ثمار علوم اللسان.

ومن أبرز هؤلاء البلاغيين ميشال مايير الذي يقول إن بناء بلاغة كلية يتطلّب الخروج من المقابلة القضوية بين الوجود واللاوجود التي بني عليها تفريق أرسطو بين الشعرية والخطابية، حيث الشعر " لاوجود يحتمل الوجود" والخطابة " وجود يحتمل اللاوجود"، وبعبارة أقرب: الشعر كذب يحتمل الصدق، والخطابة صدق يحتمل الكذب. فبدل هذا التقابل القضوي الوجودي يمكن تحقيق وحدة بلاغية باعتماد التفاعل القائم على الإشكال والمساءلة.

ومن أبرزهم أيضا أوليفيي روبول الذي يبحث في كتابه:

" البلاغة" عن حلّ ثالث، ويقول إن جوهر البلاغة لا يوجد لا في الأسلوب ولا في الحجاج، بل يوجد بالتحديد في المنطقة التي يتقاطعان فيها. وبالنسبة إليه، ينتمي إلى البلاغة كل خطاب يجمع بين الحجاج والأسلوب، أي كلّ خطاب يقنع بالمتعة والإثارة مدعّمتين بالحجاج.

ويحاول أوليفيي روبول في مقالته: " الصورة والحجة " أن يكشف طموح البلاغة الجديدة إلى استرجاع أطرافها المفقودة والتقريب بين مكونيها: الصورة والحجة. ويبدأ مقالته بالسؤال عن إمكان أن تكون الصورة حجّة أو على الأقل عنصرا حجاجيا، فيبيّن أن الصور في مختلف أنواعها( صور الكلمات، صور المعنى، صور التركيب...) تؤدي وظائف حجاجية. ثمّ ينتقل إلى السؤال المعاكس عن إمكان اعتبار الحجة نفسها صورة، فيوضح أن الجواب يقتضي بيان ما يميّز الحجاج عن البرهنة المنطقية من خلال ملامح أربعة أساس: 1ـ ارتباط الحجاج بمستمع محدد يأخذه بعين الاعتبار، وهذا ما يطرح مدى صلابة المنطلقات الحجاجية، 2 ـ استعمال اللغة الطبيعية في الحجاج، وهي لغة ألفاظها ملتبسة أو متعددة الدلالات، وهذا ما يطبعها بالاحـتـمال، 3 ـ مسار الحجاج لا يأخذ طريق الصرامة البرهانية، 4 ـ الحجاج سجال، وهو ما يطرح مسألة الذاتية والموضوعية. وينتهي روبول إلى أن الحجّة نفسها صورة يسري عليها ما يسري على الصور من انعدام الدقة ومن التذاوت( تفاعل الذوات) والسجال.

ويدعم الباحث الاتجاه الثاني الذي يقول بالوصل بين الشعرية والخطابية، وذلك بالحديث عن التخييل والتداول في مسار البلاغة العربية. فينطلق من أن الملاحظات الأسلوبية هي المصدر الأول للبلاغة العربية، وستجمع لاحـقـا تحت اسـم البديع ومحاسن الكلام( ابن المعتز)، وأن الطموح إلى صياغة نظرية عامة للفهم والإفهام أو للبيان والتبيين(الجاحظ) هو المصدر الثاني الكبير للبلاغة العربية. ويخلص إلى أن للبلاغة العربية مهدين كبيرين أنتجا مسارين كبيرين: مسار البديع يغذيه الشعر، ومسار البيان تغذيه الخطابة. ونظرا للتداخل الكبير بين الشعر والخطابة في التراث العربي، فقد ظل الـمـسـاران مـتـداخـلـين وملتبسين رغم الجهود الكبيرة النيرة التي ساهم بها الفلاسفة وهم يقرؤون بلاغة أرسطو وشعريته (ص ص 28 ـ 29.). وقد بذل الفلاسفة في إطار قراءتهم لعمل أرسطو في الشعر والخطاب جهدا محمودا لبيان الخصوصية الشعرية( التخييل ) والخصوصية الخطابية( التصديق)، وما بينهما من التداخل والتخارج. ولعلّ المحاولة التنظيرية الوحيدة الجادة في هذا المجال هي التي بذلها حازم القرطاجني(ص 30).

وفي المبحث الثاني، تتبع الباحث تاريخ الحوار بين التخييل والتداول في البلاغتين العربية والغربية، وما أفرزه من توجهات نحو التعميم والتخصيص. وهو تاريخ يشهد بوجود بلاغات خاصة، بقدر ما يؤكد النزوع الدائم إلى بلورة بلاغة عامة لكل الخطاب الاحتمالي التخييلي والتداولي.

وهكذا، ففي التراث العربي، يلاحظ الباحث أن أول كلمة تربعت فوق مجموعة من المصطلحات المرصودة لوصف الخطاب من زاوية الخصوصية التعبيرية هي كلمة بـديـع مع ابن المعتز في القرن الثالث الهجري. وقد ظل هذا المصطلح، أكثر من أربعة قرون، يوسع دائرة نفوذه لتضم كل صور التعبير ووجوهه اللسانية، غير عابيء بمقامات القول ومقاصده، أي بأبعاد الخطاب التداولية، إلى أن ظهر كتاب مفتاح العلوم للسكاكي الذي أزاح البديع عن موقع السيادة والهيمنة، ونقله إلى الهامش.

ويلاحظ الباحث أن الكلمة الأخرى التي تربعت على مجال خطابي متميز، وأنتجت لائحة مصطلحية دالة على علم جديد هي كلمة بيان مع الجاحظ في القرن الثالث الهجري. وبخلاف البديع الذي اهتم بالعبارة الشعرية، اهتم البيان بالفهم والإفهام، وتدرج من كلمة بيان إلى كلمة بلاغة، ومن كلمة بلاغة إلى كلمة خطابة، وينتقل من الواحدة إلى الأخرى، وكأنما يتحدث عن الشيء نفسه. وهنا يسجل الباحث أن كلمة بلاغة ظهرت عند العرب والإغريق في الحقل نفسه، أي الخطابة، ويوضح أن تفرع البلاغة عن البيان يعني تقديم الإفهام على الفهم، والخروج من نظرية المعرفة إلى نظرية الإقناع. وقد استفادت القراءات البلاغية اللاحقة من الجاحظ، ابتداء من العسكري وانتهاء ب- ابن سنان، فقد أخذا منه أهم مكونين للخطاب الاقناعي، وهما: المناسبة والاعتدال.

ويسجل الباحث أنه إلى حدود القرن الخامس الهجري لم تكن كلمة " بلاغة "، باعتبارها الحاكم العام لأرض الخطاب، قد بسطت نفوذها بعد على كل الأراضي التي فتحها أعوانها في مختلف أقاليم الخطاب: شعر، خطابة، كتابة. وعبد القاهر الجرجاني نفسه كان في أسرارالبلاغة محكوما بتوجهه إلى الشعر، أي أنه كان يبحث عن أسرار بلاغة الشعر، وهي بلاغة اختزلها في الجانب الدلالي، وفي صور منه، وهي: التشبيه والتمثيل والاستعارة. وقد حاول في دلائل الإعجاز تدارك جانب من الموضوع، جانب المناسبة التداولية، إلا أنه تمادى في إقصاء الإيقاع أو تقليص دوره إلى أقصى حد.

وإجمالا، فقد كان مشروع عبد القاهر عميقا في حفره في مجال المعاني والمقاصد على حساب الإيقاع والمقامات والقيم الثقافية، وكان مشروع ابن سنان أكثر شمولية واستيعابا لمكونات الخطاب الكلاسي الشعري والخطابي: المكونات اللسانية وغير اللسانية(ص44). أما السكاكي، فانه لم يجعل البديع في مستوى واحد مع المعاني والبيان، واعتبره مجرد ذيل للمعاني والبيان، يضم صورا تعبيرية ذات طبيعة تحسينية. " فالبلاغةهي المعاني والبيان"(ص 47). ومع ذلك، فان أهمية عمل السكاكي تكمن ، في نظر الباحث، في اكتشاف منطقة تقاطع النحو والمنطق والشعر، " أي في وصوله شخصيا إلى عاصمة البلاغة" (ص 46).

وينتقل الباحث إلى الفلاسفة، فيبين أن ابن رشد في القرن السادس أول من تحدث عن " عمود البلاغة "، واعتبره ذا طبيعة منطقية، أي أن الحجاج هو عمود البلاغة. ويسجل الأستاذ العمري أن هذا المنحى في تخليق صناعة الخطابة ومنطقتها ( من المنطق) هو ما نجده عند البلاغة الجديدة ونظرية الحجاج في العصر الحديث، وخاصة عند بيرلمان. فقد لاحظ ابن رشد حال البلاغة العربية، حيث عوملت الخطابة في أكثر الأحوال معاملة الشعر، وكان الاهتمام بالجانب التزييني ، وتمّ إهمال الجانب الحج- ي. ولذلك نصّ الفيلسوف على " التزيين والتنميق"، وهو يتحدث عن العناصر غير الجوهرية في الخطابة. ومع ذلك، فتحويل الوسائل الأسلوبية والتنظيمية والسيكولوجية إلى موقع العناصر الخارجية المساعدة لايعني، عند ابن رشد، التقليل من شأنها، ولكنه يعني أنها تابعة للجاني الحجي الذي يراقبه " علم الحق"، أي المنطق، فلا بد أولا من أن يكون للخطاب شبه بالحق وانتماء إليه.

ومع حازم القرطاجني ستتحول البلاغة إلى ما يسميه هو نفسه " العلم الكلي". وهذا العلم البلاغي يسمو فوق صناعات اللسان الجزئية، فالبلاغة هنا هي " البلاغة المعضودة " بالمنطق والفلسفة.

ويوضح الباحث أن بلاغة حازم وان توجهت إلى الشعر، فإنها بلاغة منفتحة على الخطاب التداولي من خلال المقارنة بين التخييل والتصديق، وبيان مدى تداخلهما وتخارجهمنا في الخطابين الشعري والتداولي(ص 56).

ويسجل الباحث في نهاية حديثه عن التراث البلاغي العربي، أن البلاغة العربية قد عرفت جمودا وتحنيطا منذ سادت التلخيصات والشروحات، ويشير إلى الدور السلبي الذي لعبه كتاب مصطفى المراغي: علوم البلاغة في المدارس والجامعات العربية الحديثة، فغاب ذلك الإشكال الذي عاشته البلاغة العربية بين الخطابين الشعري والتداولي طوال تاريخها، وكان من نتائج هذا الواقع ضياع استراتيجية تدريس البلاغة في الجامعة العربية، وصارت مادة جامدة مكملة، وظهرت في المقررات الدراسية مواد أخرى، كالأسلوبية والتداوليات والشعرية والسيميائيات والمنطق ... ولا أحد يسأل عن هوية هذا أو ذاك، أو عمّـا يربط هذه بتلك.

أما في التراث الغربي، فان للبلاغة معنيين كبيرين: المعنى الأول حجاجي إقناعي يصب في التداولية الحديثة، وهو معنى متصل بنشأة البلاغة في الغرب. والمعنى الثاني تعبيري شعري يصب في الأسلوبية، وهو مرتبط بعملية الاختزال التي تعرضت لها البلاغة عبر تاريخ طويل.

ويسجل الباحث أنه بعد الحرب العالمية الثانية، ظهرت أعمال بلاغية تستثمر الأفق العام الذي تفتحه الريطورية القديمة في الواجهتين: في اتجاه الحجاج والجدل، وفي اتجاه الأسلوب والشعر، وذلك قبل أن تظهر صياغات عامة ذات طابع سيميائي في اتجاه الخطاب عامة.

ويلاحظ حاليا كثرة مفرطة من الأعمال المرصودة للبلاغة تنظيرا وتأريخا، في أوربا والولايات المتحدة، ويعود ذلك في نظره إلى الأهمية المتزايدة للسانيات التداولية ونظريات التواصل والسيميائيات والنقد الإيديولوجي والشعرية اللسانية.

ويكشف هذا الاهتمام الذي تناله البلاغة في العصر الراهن أنها قد صارت علما لا ينحصر في البعد الجمالي بشكل صارم، بل هناك نزوع إلى أن تصبح البلاغة علما واسعا للمجتمع.

ومن كل هذا التنوع في الاهتمام بالبلاغة، واعادة صياغة نظرية حديثة في حوار مع التراث البلاغي الضخم، تتكشف للباحث توجهات ثلاث:

1 - التوجه الحجاجي / المنطقي (أو الفلسفي).

2 - التوجه الأسلوبي / الأدبي (أو الشعري).

3 - التوجه الخطابي/ السيميائي(أو النصي).

ويبين الباحث كيف تتدخل النهضات العلمية في الجوار اللساني والمنطقي خاصة من أجل هيمنة بلاغات جزئية تدعي التعميم، مما دعاه جيرار جنيت البلاغات المعممة: بلاغة الشعر وبلاغة الحجاج. وهي في نظر الباحث بلاغات فرعية تفتقر إلى ما تقدمه لها البلاغة العامة.

ويوضح الأستاذ العمري أنه بداخل هذه البلاغات الفرعية تقوم بلاغات جزئية ملتبسة بين التخييل والإقناع. وقد ضرب مثالا للبلاغات الجزئية هذه ببلاغة السخرية وبلاغة السيرة الذاتية. وهذا هو موضوع الفصل الثاني.

يتألف الفصل الثاني من مبحثين:

يتناول المبحث الأول بلاغة السخرية الأدبية التي تقع بشكل ملتبس بين التخييل والإقناع. ويقف الباحث في البداية عند إشكالية تعريف السخرية، موضحا عدم استقرار المفهوم وغموضه واضطرابه.

ويبين الأستاذ العمري أن البلاغيين المحدثين قد تجاوزوا هذا الاضطراب بفتح الموضوع أقصى ما تسمح به بنيته ليستوعب أوسع مجال انطلاقا من أنساق بلاغية ذات قدرة تفسيرية. وقد جرى ذلك في حوار مع معطيين: المتن النصي والآلية الحوارية. والمتن النصي الساخر شاسع في اللغة وخارج اللغة، فالسخرية قد تكون باللغة أو بالرسم أو بالحركات الجسدية في المسرح والسينما أو بالموسيقى والغناء. أما البعد الحواري للسخرية، فهو يعني هذا الجانب التقويمي المشفوع بحالة وجدانية متميزة: ضحك الاستخفاف أو غصته. وقد استفاد هذا البعد من رصيد فلسفي ضارب في القدم يحال فيه على السخرية السقراطية.

وبالنظر إلى الدراسات الحديثة، يتكون الخطاب الساخر من مكونين أساسين: مكون انفعالي أو تأثيري أو مقصدي، ويتجلى في الاستخفاف المشتمل على الضحك أو الاستهجان أو الإحساس بالمفارقة، ومكون بنائي أو لساني أو بلاغي، وهو يتجسد من خلال المفارقة الدلالية وما يترتب عنها من غموض والتباس.

ويرى الباحث أنه من المستحيل الحديث عن كل مكون على حدة، لأن القيمة التأثيرية للسخرية، كما تقول كيربرا أوركشيوني، واحدة من خصوصياتها الشكلية، فالتقابل الدلالي إنما يتم داخل الضرورات القيمية التي يفرضها العنصر التأثيري. ويركز الباحث من خلال خطاطة توضيحية على إبراز المركز الذي يتقاطع فيه المكونان الأساسان للسخرية: المكون الدلالي والمكون التأثيري. وتحديد هذا المركز جدير، في نظر الباحث، برفع اللبس الذي يغلف مجموعة من المفاهيم التي تعيش في اتصال وانفصال مع السخرية الأدبية الرفيعة، ومنها: الفكاهة والتهريج والخلاعة ...الخ.

إن موضوع السخرية يتنازعه اللساني التداولي والفيلسوف، ويمكن للبلاغي أن يستفيد من هذا التنازع، وأن يحدد وصفته الخاصة انطلاقا من العناصر المتفاعلة في إنتاج الخطاب الساخر. فالعلاقة بين الساخر والهدف وكفاءة المتلقي الواقعي أو المفترض تلعب دورا أساسا في تحديد القدر الذي تأخذه السخرية من هذا المكون أو ذاك. ويمكن النظر إلى هذا التفاعل من عدة زوايا: بالنظر إلى حال المخاطب، أي قدرته على تفكيك الرموز والنفاذ إلى الغرض، وبالنظر إلى حال الساخر، أي مستواه الثقافي وقدرته على بناء السخرية، وبالنظر إلى الظروف المحيطة بالخطاب ، والعلاقة بين الساخر والهدف.

ويبين الباحث أن الدارسين المحدثين في مجال البلاغة واللسانيات التداولية قد تمسكوا بالطبيعة الأدبية والجدالية للسخرية محاولين استبعاد المفهوم الفلسفي والميتافيزيقي.

وانطلاقا من اختلاف البلاغيين في التركيز على هذا المكون أو ذاك من مكونات الخطاب الساخر، قدم الدارسون المحدثون اقتراحات مختلفة لتفسير اشتغال السخرية الأدبية. ويميز الباحث بين ثلاثة اتجاهات كبرى:

1 - اتجاه يقول إن السخرية مفارقة، وهو اتجاه ينعت بالتقليدية، لأنه يعتمد التعريف القديم للسخرية بأنها قول ضد المراد لغرض الهزء، جاعلا التضاد أصلا والهزء فصلا. فالسخرية هنا مفارقة ذات صبغة وجدانية. ويميز الباحث داخل هذا الاتجاه بين منحيين: الأول لساني خالص، والثاني نفسي ظاهراتي.

2 - اتجاه يقول إن السخرية استرجاع، وهو اتجاه نجح في تفسير عدد كبير من الأمثلة التي استعصت على نظرية المجاز(القائمة على المفارقة الدلالية)، وكشف الجانب الحواري في السخرية وجعله في المقدمة فأظهر حيويتها.

3 - اتجاه يقول إن السخرية مفارقة استرجاعية/احالية، وهو اتجاه تداولي لساني يدمج المفارقة والاسترجاع في صياغة عامة ترصد القيم الحجاجية في الخطاب الساخر وتجعلها ميزة للمفارقة الساخرة.

وبعد أن تحدث الباحث عن السخرية في البلاغة العربية وفي نقد الشعر العربي، ينتقل إلى التطبيق والاشتغال العملي على السخرية الجاحظية بقصد استكشاف آلياتها ورؤيتها. فيوضح أنها سخرية تقوم على ثلاث آليات متداخلة متفاعلة:

1 - الالتباس آلية تقوم عليها السخرية الأدبية في كتاب البخلاء، فبخلاء الجاحظ ليسوا فقراء ولا هم قليلو المعرفة، بل هم في مستوى عال من المعرفة والقدرة الحجاجية،فكيف يكون هذا الإنسان بخيلا وهو ذو معرفة واسعة ومصادره في الاحتجاج متنوعة؟

2 - الذهول وهو أحد المباديء الكبرى في تفسير السخرية، وأحد أهم تقنيات جلب الضحك، وقد عبر عنه أحيانا بالغفلة. ويعني الذهول أن المسخور منه شخص يقع في ذهول عن المقام فيخفق في توجيه الحجة لا في استجلابها.

3 - التوريط ويعني أن الخطاب الساحر غير الخطاب الإخباري الذي يحرص على مطابقة الخطاب للواقعة حتى لا يتهم بالكذب والمبالغة، وغير الخطاب الوعظي الذي يتصدى للعيوب ويسعى إلى تقويم الاعوجاج. فالخطاب الساخر يسعف الاعوجاج ويصفق له ويمدّه بالوسائل التي تجعله أكثر اعوجاجا، حتى يكشف نفسه بنفسه.

هذا عن آليات السخرية الجاحظية، أما عن رؤيتها، فان الباحث يوضح أن الجاحظ كان يسخر من مجموع أسئلة زائفة في عصره، تحركها الشعوبية أو البداوة أو السياسة. ويسجل الباحث أنه قد نجح في السمو بموضوعات وأسئلة النزاع في اتجاه التعميم والموضوعية العلمية، وفي اتجاه تحويل قضايا الصراع الاجتماعي والفكري والسياسي في عصره إلى قضايا أدبية تثير الخيال العام وتحقق المتعة الفنية، وهذا ما ضمن لسخرية الجاحظ الخلود والكونية(ص 134).

لقد حاول الجاحظ، في إطار رؤية فلسفية وسطية، التنبيه إلى تشعب الحقيقة وامكانية النظر من زوايا مختلفة ردا على اتجاهات كانت متصادمة يدعي كل طرف منها احتكار الحقيقة. فالمسألة سياسية في الأساس، ثم أخذت أبعادا فكرية، ومارسها الجاحظ كرياضة فكرية وفنية هادفة من خلال مصادمة القيم والأفكار في صور عدة(ص138).

وفي المبحث الثاني، يتناول الباحث بلاغة السيرة الذاتية. وهو يلاحظ في البداية أن مسألة تعريف السيرة الذاتية تبقى مسألة حساسة، وخاصة إذا أخذنا وضعها الراهن بعين الاعتبار. ولذلك يستأنس الباحث بالنتيجة التي انتهت إليها الرحلة الطويلة التي قطعها جورج ماي في كتابه: السيرة الذاتية. وهي رحلة قد انتهت إلى أن أوان التعريف لم يحن بعد، وأن الأجدى هو الوقوف عند السمات العامة والمسارات الكبرى.

انطلاقا من القضايا التي أثارها جورج ماي،وبالنظر إلى المتن السيرذاتي المغربي، استطاع الباحث أن يرسم خطوطا تسمح بتحديد مجال افتراضي لإمكانيات تحقق السيرة الذاتية. فهي، في نظره، تحدس على محور يمتد من التاريخي إلى الروائي، ويقترح تسمية هذا المحور محور الحدث أو الخبر، وهو محور يتقاطع مع محور آخر يدعوه محور الوجدان أو محور الأثر، ويمتد بين الشعري والمدهش. ومعنى هذا أن السيرة الذاتية " تجمع بين الواقع والمفترض ملونة المفترض بدهشة السؤال: هكذا وقع، فكيف أمكن أن يقع على هذا الشكل؟"(ص145).

والسيرة الذاتية قد تقترب أحيانا من التاريخ في خطية تحول التدخل التخييلي إلى الهامش، كما وقع في : حفريات في الذاكرة لمحمد عابد الجابري، ومن هنا يتحدث عن تراجع القيمة الأدبية للنص. وتمتد السيرة الذاتية أحيانا نحو قطب التخييل الروائي، فتكون نسبتها إلى السيرة الذاتية من قبيل الافتراض، خاصة حين يعتبر المؤلف ما كتبه رواية، ويستعير اسما غير اسمه وضميرا غير ضميره، كما هو حال المجرى الثابت لادمون عمران المالح، ولعبة النسيان لمحمد برادة.

اعتمادا على ما سبق، سيكون على دارس السيرة الذاتية أن يأخذ العناصر المذكورة بعين الاعتبار، وان يكن ذلك بنسب متفاوتة حسب المنجز. وقد أدى تفاوت النصوص السيرذاتية في القرب والبعد من العرض التاريخي أو التخييل السردي إلى إثارة قضية المدخل المنتج في تحليل السيرة الذاتية: التاريخ أم التخييل. وترتبت أمور من الالتباس بين المدخلين، منها الانتقال من البحث عن الحقيقة إلى البحث عن الصدق، والاعتراف بأن التحويل السردي للوقائع التاريخية يحولها إلى نتاج سردي، ومنها أن الالتباس بين المدخلين التاريخي والتخييلي يقود إلى اكتشاف دلالة أخرى للسيرة الذاتية يسميها جورج فوسدورف الدلالة الانتروبولوجية أو " الدلالة الشخصية الحميمية". ويدرج الأستاذ العمري عمله في سبيل إبراز عامل الدهشة في بعديه العام والخاص في إطار هذا البحث عن " الدلالة الشخصية الحميمية"، لأنه يرقب انبجاس الماضي في الحاضر، ويعطيه القدر الضروري من التوتر اللازم لدمج الواقعي في المتخيل.

ويشير الباحث إلى التلقي الجماهيري الذي لقيته الخبز الحافي لمحمد شكري مقارنة مع السيرة الثالثة: وجوه، مع أن هذه الأخيرة أنضج فكرا وفنا. وكذا الاهتمام الواسع الذي لقيته مذكرات محمد الرايس، وهو الاهتمام الذي لم تنله الصياغة الروائية ولو كانت من طرف روائي كبير مثل الطاهر بنجلون.

وينتقل الباحث إلى الحديث عن نموذج للخروج من الرواية إلى السيرة الذاتية، مقارنا بين زمن الأخطاء والسوق الداخلي لمحمد شكري.

ويشير الباحث في نهاية هذا المبحث، وفي إطار حديثه عن امتداد المدهش، إلى أن الأوضاع التي عرفها المغرب اجتماعيا وسياسيا من الاستقلال إلى الآن قد أدت إلى رجات عنيفة في حياة الأفراد والمجموعات، آخرها الانفراج في مجال حقوق الإنسان وحرية التعبير. ومن المعلوم، يقول الأستاذ العمري، أن فترات الانتقال هي التربة الخصبة للسيرة الذاتية والسيرة المحتجة خاصة.

والمتن السيرذاتي السجني من مذكرات محمد الرايس إلى زنزانة أحمد المرزوقي هي عبارة عن مرافعات مفعمة بالشكوى والألم موجهة لإدانة ذلك الزمن الأسود، وهي تنطوي على السؤال التالي: كيف أمكن أن يقع لي أو لنا ما وقع؟

ومع سير الاحتجاج ظهرت سير الشهادة على العصر، وأشهرها مذكرات الفقيه البصري ومذكرات عبد الهادي بوطالب، وهي تنطوي على هذا السؤال: كيف تواجهنا، وكيف أمكن أن نتواجه بذلك الشكل؟

ولمزيد من الحفر في منطقة التقاطع بين التخييل والتداول، تناول الباحث في الفصل الثالث الآلية البلاغية المركزية: المجاز في تأرجحه بين البعد المعرفي الاقناعي والبعد التخييلي الإبداعي.

ويتألف الفصل الثالث من ثلاثة مباحث:

يتناول الباحث في المبحث الأول الخلفية اللغوية والدينية للمجاز من خلال تتبع القضية ـ قضية المجاز ـ عبر مسار الفكر اللغوي والديني العربي في مرحلة تشكلهما. وقد تناول ذلك من خلال نقطتين: 1) الشاذ والنسبي في نظر اللغة والدين، 2) توجيه المجاز نحو التخييل الأدبي تحت عنوان ترويض المجاز.

ويعتبر الباحث المبحث الثاني جزءا من عملية اختبارية في استكشاف المجال الاستعاري، منطلقا من مفهوم " البناء على الصور"، وخاصة عند عبد القاهر الجرجاني، ومنطلقا من نصين ـ حكايتين: الأولى حكاية ظهور الخمر، والثانية حكاية الشاعر الذي أعطي مـدّ شعير جائزة على ما أنشد من الشعر.

وفي هاتين الحكايتين، يلاحظ الباحث أن الاستعارة تتراكب في طبقات، وتتحول حكائيا من أسطورة صغيرة إلى أسطورة في أسطورة، فيتم الانتقال من مستوى الجملة إلى مستوى النص، ويتم التداخل بين الواقعي التاريخي والخيالي العجائبي، وبين الحجاجي والفني.

ويتناول الباحث في المبحث الثالث مفهوم الصورة في المباحث البلاغية، موضحا ما يطرحه من اشكالات في الدراسات الأدبية الحديثة على مستويات متعددة.

خ- ات- م- ة تتحدد قيمة هذا الكتاب في عناصر أساس من أهمها:

- أنه دراسة علمية تغني مبحثا جديدا يساهم فيه الباحثون الغربيون بدراساتهم منذ أواسط القرن الماضي إلى اليوم: بلاغة الخطاب بين التخييل والتداول. وما يجعل من مسامهة الأستاذ العمري إغناء لهذه الدراسات أنها تستفيد من الدرس البلاغي العربي الذي كان يهتم بالخطاب الاحتمالي بنوعيه التخييلي والتداولي، كما تستفيد من التراث الخطابي والشعري العربي الذي له من الخصائص ما قد لا يوجد في التراث الشعري للغير، وهو ما انتبه إليه حازم القرطاجني قديما.

- أنه دراسة حوارية مفتوحة ومنفتحة على مختلف وجهات النظر، وتقبل الحوار والتقويم والإضافة، فهي وان بدت حريصة على تقديم معرفة، فهي على حد تعبير الباحث " أحرص على إثارة أسئلة من وجهات نظر متعددة بحثا عن محاورين يقومون ويضيفون، في سبيل بناء نموذج بلاغي حي يتفاعل فيه القديم والجديد." (ص 7).

- أنه دراسة تجمع بين التنظير والتطبيق، ففي الفصل الثاني دراسة تطبيقية للسخرية الجاحظية، ولنماذج من السيرة الذاتية، وفي الفصل الثالث اشتغل الباحث على نصين ـ حكايتين تكشفان الإشكالات التي يثيرها مفهوم المجاز عامة والاستعارة خاصة.

والواقع أن الجمع بين التنظير والتطبيق قد كان دوما من الخصائص المهمة التي تميز أبحاث ودراسات محمد العمري، ولا تخفى أهمية التطبيق وضرورته في مجال النقد والبلاغة الذي يعرف تضخما على المستوى النظري. فقد قدم الباحث دراسات تطبيقية للخطاب الشعري وللخطابة القديمة والمعاصرة حظيت بقبول خاص لدى القراء والباحثين والمهتمين، وقد ذكرنا أهمها في بداية كلامنا.

- أنه دراسة تعمل من أجل صياغة مصطلحات جديدة " لا مندوحة عنها للخروج من الخلط والاضطراب في بناء النسق البلاغي" (ص8). ومن مثل هذه المصطلحات: لفظ الخطابية ترجمة لريطورية أرسطو، وفي مقابل الشعرية وقياسا عليها. ولفظ المستمع ـ بفتح الميم ـ على وزن مجتمع، ترجمة للكلمة الجوهرية في التداول الحجاجي: Auditoire ...الخ.

و في سياق تدقيق الترجمة، يوضح الباحث أن المفاهيم المذكورة لكلمة " ريطوريك " كثيرا ما خرجت عن سياقها الغربي بفعل الترجمة إلى العربية بكلمة " بلاغة " دون تقييد، فأدّى ذلك إلى الخلط والتشويش على القرّاء. ويقال الشيء نفسه عن ترجمة الريطورية الأرسطية بكلمة " خطابة "، على الإطلاق، في بعض الأعمال التي حاولت تـلافـي الخـلـط. و يـقـتـرح ترجمة الـريـطـوريـة الأرسـطـيـة بكلمة " خطابية " قياسا على كلمة " شعرية " التي بسطت سلطتها في مجال التخييل، وموضوع الأولى الخطابة بمعناها العام، وموضوع الثانية الشعر بمعناه العام. ويقترح تبعا لذلك كلمة " صورة " مقابلا لكلمة Figure، وكلمة " حجّة " مقابلا لكلمة Argument، باعتبارهما الآليتين الأساستين في التخييل( الشعري) من جهة، والحجاج( الخطابي) من جهة ثانية. ويقترح كلمة " إنشاء " لتدلّ على كلّ خطاب يحمل جهدا تخييليا أو حجاجيا، أي الخطاب الذي فيه " صنعة " قصدية للتأثير والإقناع، ويوجد بين البرهنة والاعتباط كما يقول بول ريكور.

والدرس الذي نتعلمه من هذه الدقة في ترجمة المصطلح وصياغته أن الأمر لا يتعلق بمجرد ألفاظ، بل هذه مصطلحات مركزية ترجمتها لا تكون كيفما اتفق، " فالمسألة، على حد تعبير الباحث، تتعلق بمحنة نسق لا بجولة ألفاظ" (ص 8).



* ملاحظة: ألقيت هذه الورقة في إطار تقديم الكتاب الجديد للدكتور محمد العمري برواق اتحاد كتاب المغرب بالمعرض الدولي للكتاب، وذلك يوم 13نونبر 2006.


حسن المودن

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى