سيمون كريتشلي - الكينونة والزمان [2]: الأنا.. ت: - إبراهيم قيس جركس

كما يوضّح هيدغر خلال الصفحة الافتتاحية غير المُعَنوَنَة التي يستهلّ بها كتابه “الكينونة والزمان”، أهمّ مسألة جوهرية في هذا الكتاب هي مسألة “الكينونة”. إنّه السؤال الذي أثاره أرسطو ضمن مخطوطة غير مُعَنوَنَة أصلاً يعود تاريخها إلى ما قبل 2500 عام، لكنّها أصبحت تعرف لاحقاً بكتاب ماوراء الطبيعة أو “الميتافيزيقا”. بالنسبة لأرسطو، هناك علم يُعنى بدراسة مايطلق عليه تسمية “الوجود بذاته”، بدون أي اعتبار لأي عوالم معيّنة للوجود، كوجود الأشياء الحية (علم الأحياء/البيولوجيا)، أو وجود العالم الطبيعي (المادي/الفيزيائي).

الميتافيزيقا هو مجال البحث الذي يطلق عليه أرسطو نفسه اسم “الفلسفة الأولى” ويحتلّ مرتبة الصدارة من ناحية الأولوية قبل أي شيء آخر. إنّه المجال الفلسفي الأكثر تجريداً وعموميةً، كما يتعذّر تحديده أو تعريف ماهيته. لكنّه أيضاً المجال الأهم والأكثر حيويةً.

بكثير من الكبرياء الذي يُشكَر عليه، يشرع هيدغر في البحث حول هذه المسألة وإيجاد الأجوبة عليها في كتابه “الكينونة والزمان”. فهو يبدأ من سلسلة من التساؤلات العشوائية والاعتباطية على غرار: هل نمتلك جواباً على السؤال عن مهنى الوجود؟ فيجيب: على الإطلاق. وهل نشعر بالحيرة والقلق بشأن هذا السؤال؟ يعيد هيدغر مكرّراً جوابه: أبداً. لذا فإنّ أوّل وأهم تحدٍ أمام كتاب هيدغر هو لكشف عن حيرتنا وقلقنا تجاه هذا السؤال مصدر جميع الأسئلة، سؤال هاملِت لنفسه: “أكون أو لا أكون؟”.

بالنسبة لهيدغر، ما يميّز الكائن البشري أو الإنسان، هو هذه القدرة على التحيّر والقلق والتساؤل حيال أعمق الأسئلة وأكثرها غموضاً: لماذا هناك شيء بدلاً من لاشيء؟. لذلك، نجد أنّ وظيفة كتاب “الكينونة والزمان” هي إيقاظ حسّ الحيرة والقلق والتساؤل فينا. فالتساؤل _كما سيعبّر هيدغر لاحقاً خلال مسيرته الفلسفية_ هو “تقوى الفكر”.

أوّل عبارة عظيمة يفتتح بها هيدغر كتابه هي: ((نحن أنفسنا الكيانات التي ينبغي تحليلها))، هذه العبارة هي مفتاح المفهوم الحيوي والأساسي “للأنا” Jemeinigkeit، الذي يبدأ به الكتاب: إذا كنتُ أنا هو الكائن الذي يُوَجّه إليه السؤال _أكون أو لا أكون_ عندئذٍ ستكون مسألة الوجود أو الكينونة عائدةً إليّ “أنا” لأكون، بطريقة أو بأخرى.

فيمَ، إذن، تكمن كينونة الإنسان؟ يجيب هيدغر: في الوجود Existenz. لذلك، يجب مقاربة مسألة الكينونة عن طريق مايسمّيه هيدغر “بالتحليل الوجودي”. لكن ما نوع هذا الوجود الإنساني، وما هو شكله؟… من الواضح أنّه محدود بالزمن: فنحن كائنات لنا ماضٍ، ونسير عبر الحاضر، وأمامنا سلسلة من الإمكانيات والاحتمالات المستقبلية، وهذا ما يطلق عليه هيدغر “أشكال الوجود” أو “أنماط الوجود”. والنقطة التي يثيرها هيدجر هنا في منتهى الأناقة والبساطة: الكائن البشري/الإنسان لا يمكن تعريفه بالسؤال “ماذا/ما” فهو ليس مجرّد كرسي أو طاولة، بل بالسؤال “مَنْ”، لأنّه الكائن الذي تشكّل من خلال وجوده عبر الزمان. فأن تكون إنساناً معناه أن تكون موجوداً في ماضٍ ما، ضمن سياق تاريخ شخصي أو ثقافي، وعبر سلسلة مفتوحة من الاحتمالات والإمكانيات يمكنك بلوغها وتحقيقها أم لا.

هذا الكلام يصل بنا إلى نقطة في غاية الأهمية: إذا كانت كينونة الإنسان محدّدة بالأنا، فإنّ كينونتي ليست مسألة لامبالاة أو عدم اكتراث بالنسبة إليّ. فالطاولة أو الكرسي لا تستطيع مناجاة نفسها كما فعل هاملِت، أو المرور بتجربة مُسائَلَة الذات والشك الذاتي التي عبّر عنها هاملت بمناجاته. لكنّنا نستطيع.

ذلك هو أساس فكرة هيدغر عن “الأصالة” Eigentlichkeit، والتي تعبّر بدقّة أكبر عمّا هو الأنسب بالنسبة للإنسان، حقيقته، ذاته الحقيقية الأصلية. بالنسبة لهيدغر، هناك حالتين أساسيتين للوجود الإنساني: حالة الوجود الأصيل، وحالة الوجود الزائف. علاوةً على ذلك، نحن نملك الخيار لاختيار مابين هاتين الحالتين: أن نكون أنفسنا، أو ألا نكون، أن نكون أصحاب ذواتنا وصُنّاعها، نصنعها ونصيغها كما نريد ووفقاً لحقيقتنا أو لا. يؤكّد هيدغر بأصرار، كما سيفعل عبر صفحات كتابه “الكينونة والزمان”، أنّ الوجود الزائف لايعني بالضرورة وجود أقل أو كينونة أدنى، لكنّ معظم القرّاء لديهم سبب للشك في هذه الضمانات. يتسائل تيودور أدورنو، الناقد الشهير لهيدغر: أليست الأصالة _أو الوجود الأصيل_ في نهاية المطاف من الكلمات الاصطلاحية التي سنكون أفضل حالاً من دونها؟… دعونا نكتفي بالقول هنا أنّ هذه النقطة مُتَنَازَعٌ عليها، وماتزال محلّ جدالٍ ساخن.

بالرغم من وجود حالتين سائدتين للوجود، الوجود الأصيل والوجود الزائف، يقول هيدغر بإصراؤ في مُستَهَلّ كتابه أنّ الإنسان يجب أن يُقَدّمَ أولاً في صورة البدائية اللامبالية أو غير المكترثة، السابقة لأي خيار في أن يغدو أصيلاً أو لا. وبكلمات سرعان ما تحوّلت إلى مَثَل أو حكمة في الكتاب، يصف هيدغر الإنسان ((مبدئياً وعادةً)) Zunächst und Zumeist، أي كما هو منذ البداية، وكما هو في العادة في معظم حالاته.

لاحظوا الطبيعة الراديكالية المتطرفة لهذه الخطوة المبدأئية: الفلسفة ليست مجرّد تأمّلات هوائية تطفو في عوالم مفارقة ومغايرة، أو تطرح أسئلة خارجية كالسؤال: هل هذا العالم موجود حقاً؟ أو ما إذا كانت هذه الكائنات التي تشبه البشر من حولي هم بشرٌ فعلاً وليسوا رجالاً آليين أو أي شيء آخر. بل على العكس، الفلسفة تبدأ من وصف _يسمّيها هيدغر “الظاهراتية” Phenomenology_ الإنسان انطلاقاً من تجاربه وخبراته الحياتية اليومية، ووجوده اليومي المعاش. كما أنها تسعى لاشتقاق بُنى عامة مشتركة عبر تلك التجارب اليومية.

لكننا ينبغي علينا الانتباه إلى المهمّة التي ألقاها هيدغر على عاتقه. بأنّ ما هو أقرب وأوضح إلينا، هو الأصعب علينا وصفه وتحديده. لاشيء أقرب إليّ من نفسي بطبيعتها وكما هي في معظم حالاتها، وجودي اليومي السَوَاء والمليء باللامبالاة وعدم الاكتراث والإنكار، لكن كيف أستطيع وصف ذلك؟ كيف لي أن أعبّر عن ذلك؟ كان هيدغر مولعاً بالاقتباس عن القديس أوغسطين وبالأخصّ من كتابه “الاعترافات” الذي كتب فيه قائلاً: ((يقيناً، أنا أعمل هنا وأعمل داخل نفسي، لقد أصبحتُ لنفسي أرضاً من المتاعب والعرق المتساقط بغزارة)). بالتأكيد هيدغر يريد إثارة المتاعب، كما أنّ المرء سيتساقط عرقه بغزارة عبر هذه الصفحات، لكنّ لحظات الكشف عظيمة وتخطف الأنفاس بوضوحها.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى