غادة اليوسف - حـــراك..

سمعت عن حراك في البلد, خلعت القدّامية , وأّجّلت تجليات المجلى ... حشرت قامتي بثوب منسيّ منذ زمن غابر. يليق بجلسات الحوار, وسرت في طريق ما وطئتها منذ أن خلعت ذلك الثوب....
بدا النادي أبعد مما تعوّدت عليه ساقاي اللتان ترهلتا لقلة الحركة بسبب الإقعاد القسريّ , كنت أعلم أني تأخرت , جهدت أن أصل قبل فوات الأوان ,إذ يكفي ما تأخرناه , عللت نفسي : أن تصل متأخرا , خير من أن لا تصل أبدا....
حراك سياسي ...فكري ...اجتماعي ...الخ ولتأخري , جلست في الصّف الأخير, على أحد المقاعد المنسيّة. اكتشفت بعد عدّة مرّات أنها الجلسة الأفضل , تدخل , لايراك غير قلّة , وتخرج , إن لم يطب لك المقام أوالمقال , دون حرج من عيون المتلقّين تجلدك لقلة ذوقك مع المحاضر...
النظام العالمي الجديد وأمريكا... الخطاب السياسي ا لعربي ... المقاومة والارهاب..مفهوم الدولة...العولمة... الحداثة وما بعد الحداثة... و...و.. و...
وفي كلّ مرّة تعطى فرصة للحوار مع الحضور , وفي كلّ مرّة يصنّفون, يدبّجون , يحلّلون , يشرحون , ويتفيهقون... وفي كلّ مرّة يقوم بضع محاورين , يتفاصحون , ويطرحون الأسئلة , دون أن ينتظروا إجابات عليها , إذ يكفي طموحهم ترفا , أنّهم استطاعوا السؤال , بعد صمت شلّ ألسنتهم المتلجلجة أصلا , وأفسد ذوقهم اللفظي .
نهرع إلى النّادي , سائرين على كعوبنا المتعبة , من دروب وعرة, نتخم بالنظريات والمفاهيم ,ونخرج على جنح سحابة من ضباب الرؤى , وإذ يباغتنا الشارع بضجيجه , ووجوه الناس المكدودة من النّصب والتّعب , أومن التّخمة وهوس العجمة , أومن النّظر في حالك العتمة , نهوي إلى الأرض بواعية مهشّمة, ونكتشف أنّ الشّارع تفصله عن النّادي درجات , قد نحتاج إلى جيلين أو أكثر لنجتازها دون سقطات .
ذات غروب , تداعى جمع , ممّن تسرف خالاتهم في تدليلهم , وتلحّ عليهم بزيارات , تغمرهم فيها بألوان من حسن الضيافة , تداعوا للحوار, ولمناقشة أمر على قدر كبير من الرّاهنية , وهو : (كيف نوفّق بين ما قاله الشاعر:
وظلم ذوي القربى أشدّ مضاضة على النفس من وقع الحسام المهند
وبين ماعلينا فعله مع من كانوا بعيدين , وصارت سكاكينهم أقرب إلينا من حبل الوريد ؟)
وكالعادة هرعت لأدرك (ما العمل؟).
هامات , اشتعل الشّيب فيها مع همّ الوطن , وجباه خدّدتها السّنون بمنسم جائر, وعيون –وبالرّغم من الزّمن الكابي- ازداد ألقها بالنظر لما يحيط بها من ظلمة , شفاه مطبقة بوقار حريص , يبخل بالهذر بلا طائل , آذان تعي , وتبصر الكلمة ...
مسحة من الاعياء , والاحساس باللاجدوى غطّت الوجوه جميعها بعد انسفاح الوقت المباح , إذ أدركوا أنّ الصّوت لن يصل إلاّ إلى مسامع الجالسين , والشارع مصمّت وبعيد، هوّمنا قليلا وصمتنا، لسان حال الجميع يقول: (لا رأي لمن لا يطاع)!
من الواضح أنّ استقبال خالاتهم كان أدسم من قدرة احتمالهم .وكما في كلّ مرّة , أخرج إلى الشّارع الذي تفصلنا عنه هوّة , نتهشم قبل أن نقدر على متابعة الحبوّ عليه من جديد... نحن الآن أحوج ما نكون إلى جسور...
في العودة أسلك دربا يجترّ أيامي , عبرني لسنوات خلت , بعد آخر محطّات الخيبة، واستمرأته قدماي الكليلتان.. أعرّج على دكّان أشتري بعض الحلوى ,لأزيل اليباس والمرارة من حلقي , وعلكة أحتال بها على عادة الاجترار ,ألقي التّحية على يافع في الحيّ ,علّني أعثر على هويّة مقنعة لصوتي , وإذ يداهمني البيت , أخلع ثوبي القديم بأزهاره الزاهية , والذي- لتقزّم قامتي في مرايا الشّارع – أمسى فضفاضا , أحزم ذاكرتي بألوانه المترفة , ثمّ أخفيه في كيس أسود من أكياس هذا الزّمن العازل , ألقيه على درج الأيام , منتظرا إلى حين يحشرون , وأعود إلى المحرك وتجليات المجلى

- من كتاب (رفرفات) 2003



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى