إبراهيم قيس جركس - ماذا يمكن أن يعلّمنا كامو عن التمتّع بالحياة؟

ماذا يمكن أن يعلّمنا كامو عن التمتّع بالحياة؟

((عِشْ واخلُق في وسط الصحراء))

لنكُن صادقين. الحياة غريبة بعض الشيء، فوضوية، عشوائية، وعَبَثية. نحن جميعنا عالقون غلى متن هذه الصخرة الدوّارة في الفضاء وقد بنينا فوق سطحها مجتمعات سخيفة على مدى سنوات طويلة وقرون عديدة، مجتمعات مليئة بالعادات والقواعد الغريبة، وألاعيب مصرفية محبطة، وأناس يعشقون تضخيم أهمية ذواتهم حدّ المبالغة.

بالنسبة للكثيرين منّا، ليس هناك ما يمكن العثور عليه وإيجاده في مجتمعاتنا السخيفة الدنيوية التافهة.

إذا توقّفت لعشر دقائق وتمعّنتَ في الأمر قليلاً، وتفكّرتَ حول مغزى عيشتنا وحياتنا في المجتمع، سترى أنّ لاشيء مهم أو جوهري. بل كل شيء فارغ وتافه. ستدرك أنّ سباق الفئران هذا لاينتهي أبداً، وأننا أنشأنا نظاماً يجعل الناس يعتقدون أنهم يمكنهم العثور على هدف أو غاية أو معنى أو السعادة عن طريق النزعة المادية والاستهلاكية والقوة المفرطة.
لقد تمّت خَورَفَتَنا (خِداعنا)
الحياة، والمجتمع، أمور عبثية.

كانت هذه هي الفكرة التي قدمها ألبير كامو في عدد من أعماله، وأبرزها روايته الغريب "L'étranger"، عام 1942 والتي لا يرى فيها الشخصية الرئيسية، ميرسو، أي فائدة في أن تكون جزءاً من المجتمع، فهو يرفض المعايير الاجتماعية كما يرفض العديد من الأفكار التقليدية لمجتمعنا، كالأسرة، والطموح، والدين، وحتى ما قد يراه معظم الناس على أنه أخلاق مشتركة. إنّه يعيش حياته في لحظة الحاضر. فهو يمضي أيامه موجوداً ببساطة، يراقب، ويستمتع بالمراقبة.

كل شيء في هذه الرواية وصفي لأبعد حَدّ. ونادراً ما يناقش ميرسو ما يشعر به أو يحسّه، أو يتكلّم عن أي شيء وكيف يجعله يشعر، إنّما يميل ببساطة إلى وصف ما يراه وما يدور حوله من أحداث، كما لو كان متفرّجاً محايداً، كما لو كان يشاهد حياته تنهار أمامه، لكنه يفتقر إلى أي سيطرة على الأحداث الجارية أو قدرة على التحكّم بها. ينتهي الأمر بموت ميرسو إعداماً، ولكن بنفس اللامبالاة بالمجتمع كما كان منذ البداية.

ميرسو ما هو إلا تجسيد للعبثية واللامبالاة في هذا العالم، شخص خارج تماماً عن المجتمع وغريبٌ عنه. "لامنتّمٍ" حسب تعبير كولن وِلسون.

أعتقد أنّنا جميعنا لدينا ما نتعلّمه من ميرسو ولامبالاته، هنا أنا لا أشجّعك على الذهاب إلى الشاطئ في يومٍ مُشمش وقتل رجلٍ غريب بسبب درجة الحرارة المرتفعة خلال النهار.
هناك أمور عديدة أعجبتني في ميرسو، لكن هناك أمور أخرى لا أستطيع فهمها على الإطلاق.

أعتقد أننا يجب أن نكون أكثر شبهاً بمورسو في طريقة عمله في الحياة اليومية. إنّه يبدو هادئاً، غير متوتر على الإطلاق. إنه يسعد بأبسط الأشياء ويلاحظ بشكل دقيق ومحايد العالم من حوله.
ومع ذلك، فشخصية ميرسو لا تتوافق تماماً مع فلسفة ألبير كامو الشخصية. فقد رأى كامو أنّ الوجود البشري عَبَث وسخيف، مشيراً إلى سخافة وتفاهة أجناس تَجهَدُ وراء المعنى، كما أنه وجد نفسه في كونٍ غير مبالٍ تماماً. ومع ذلك، كان يعتقد أننا يجب أن نتحمّل عَبَثَ الحياة وتفاهتها. فعلى الرغم من العَبثية المطلقة للحياة البشرية بشكل خاص، وظاهرة الحياة بحدّ ذاتها بشكل عام، لاينبغي أن نسلّم أنفسنا للعَدَمية. بل علينا بدلاً من ذلك أن نبحث عن الأسباب الصغيرة التي من شأنها أن تجعل حياة المرء جديرة بأن تُعاش.

إنه يدعو إلى الانغماس في الحياة بكل دقائقها وتفاصيلها، وكان يعتقد أيضاً، على غرار غيره من الفلاسفة الوجوديين، أننا يجب أن نعتبر عبثية الحياة "دعوة واضحة من أجل العيش والخَلق والإبداع وسط صحراء قاحلة". لقد استاء أولئك الذين يرفضون الانغماس في ملذّات هذه الحياة طَمَعاً في حياة أخرى. لكنه كان يعتقد أننا ينبغي أن "نكون" فحسب بكل بساطة.

على غرار كامو، أنا أعتقد أنّنا يجب أن نأخذ الأمور الصغيرة والدقيقة كأمرٍ مُسَلّمٍ به، وأنه يمكننا العثور على الإشباع والمتعة والسعادة في كل مكانٍ حولنا، إذا انتبهنا ببساطة، وبحثنا عنها بتركيز.

يجب أن ننخرط في ملذّات الحياة الدقيقة. وعلينا أن نبحث عن السعادة في ما نملك، بدلاً من التفتيش عنها في ما نتمنّى امتلاكه. وهذا لايعني أننا يجب أن نسعى وراء ملذّاتنا الجسدية الدنيوية.
فالمطلوب هنا درجة من الوعي.

علينا أن نولي انتباهاً أكبر للشيء الماثِل أمامنا. الأشياء التي نراها طبيعية هي في الواقع أعمال عظيمة ومدهشة للطبيعة، والتعاون الإنساني، والذكاء.

ولكن لا يجب أن نكون مثل ميرسو، ليس علينا أن نرفض أموراً كالعائلة، أو الحب، أو الطموح. علينا أن نمنح كل ما نملِك لنجل الأمور أفضل بالنسبة لما ولمن حولنا(وهذا موضوع رواية كامو الأخرى "الطاعون")، في حين أننا في نفس الوقت نحتفظ بإحساس عميق بالامتنان والرضا على كل ما نملكوجميع التجارب الحسية التي نميل لتجاهلها كل يوم.

يجب علينا أن نتقبّل عبثية وتفاهة وجودنا، وعلينا أن نضحك في وجهها. يقول كامو: ((أفضل طريقة لمواجهة قدرنا المحتوم هي السخرية منه والاستهداف به)). علينا أن نُمضي أيامنا واعين، مدركين لأهدافنا وغاياتنا الخاصة، جاهدين للتمسّك بها وتحقيقها.
ففي النهاية، على الرغم من كفاحنا وصراعنا المستمر نحن كُتَل العظام واللحم الهشّة القابلة للتلف والموت في أية لحظة، ينبغي علينا أن نكون مثل سيزيف. فحتى لو شعرنا أنّ جهودنا لن تصل بنا إلى أيَّة نتيجة، علينا أن نواصل كفاحنا، علينا أن نحارب الخَوَاءِ والعَبَث.

علينا أن نكون سعداء، مثل سيزيف.

إبراهيم قيس جركس ٢٠٢٠

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى