طيب تيزيني - طه حسين وسؤال الهوية

تمرُّ الذكرى الخامسة والثلاثون لوفاة الأديب المفكر طه حسين، وهي ذكرى لا يجدر بالأدباء والمفكرين العرب أن يدعوها تمر دون العودة إلى هذا الرجل الكبير، الذي لم يترك مسألة ذات شأن في حياته العمومية إلا وتطرق إليها وبمن قدمها ودافع عنها أو طرحها على نحو من الأنحاء. وليس هذا وحده هو ما تميز به الرجل وتحول إلى وشم كبير في الفكر العربي مصرياً وغير مصري، وإنما هنالك ما جعل من طه حسين عميداً للأدب العربي ورائداً في الحوار الفكري، وهو أن ما كتبه وما تحدث به محاضراً اتّسم بحرارة وحيوية عالية متوهجة: لقد كان باحثاً ومساجلاً من طراز عال، في قدرته اللغوية التي تُوحّد بعمق بين الكلاسيكية والحداثة، وعقلانيته في الديكارتية- الحسيْنية المبتدعة، ووطنيته الصادقة الحارة.
ومن المُلفت المثير تنبُّه طه حسين في وقت مبكر لبعض القضايا، التي ستُفصح لاحقاً عن أهميتها التأسيسية في المجتمع المصري، خصوصاً بعد “أن رُدّت إلى مصر الحرية بإحياء الدستور، وأُعيدت إليها الكرامة بتحقيق الاستقلال”، كما يعلن هو نفسه. وقد كانت ثمرة التفكير في ذلك والسجال فيه وحوله، الكتاب الذي أصدره بمقدمة تحمل تاريخ 31 يوليو 1938. ويتضح أن الفكرة المركزية التي تحولت في هذا الكتاب إلى هاجس مؤرّق لديه، تبلورت شيئاً فشيئاً في سؤال الهوية يمكن وضع اليد عليه في كل صغيرة وكبيرة، أتى عليها هذا الكتاب، وقد حمل عنوان مستقبل الثقافة في مصر. أما السؤال فهو: من هو المصري؟ وقد استخدم طه حسين كلمتي “العقل المصري” كناية عن “المصري” عموماً. فعبر الأخذ بعين الاعتبار “العقل الشرقي والعقل الغربي”، يتساءل الكاتب عما إذا كان “العقل المصري شرقي التصور، أم هو غربي التصور”. وكان قبل ذلك قد تساءل، كذلك: أمصرُ من الشرق أم من الغرب؟ ويجيب عن هذا بالعودة إلى التاريخ المصري، ليعلن أنه لم يكن بينه وبين الشرق البعيد (المتصل بالصين واليابان والهند) صلات مستمرة ومنظمة من شأنها أن تؤثر في تفكيرها. أما الشرق الذي تأثر به التاريخ المصري فهو -برأيه- ذلك الذي تندرج فيه أمثال البلدان القريبة إلى مصر، فلسطين والشام والعراق. وهذا التأثير نفسه ظل أعجز من أن يخترق “جوهر” التكوين المصري ذي الخصوصية الفريدة “الخالدة”.
وحين يصل طه حسين إلى التاريخ الإسلامي، يعلن أن مصر كانت من أسبق الدول الإسلامية إلى استرجاع “شخصيتها القديمة التي لم تنسها يوماً من الأيام”. والتاريخ يحدثنا -برأيه- بأنها قاومت الفرس والمقدونيين والرومان الغربيين والشرقيين، إلى أن أخذ يواجهها الحكم العربي، فهي لم تقف على ترحيب به أو على حياد منه. بل إن هذا العهد “لم يبرأ من السخط، ولم يخلص من المقاومة والثورة، وهي كذلك لم تهدأ ولم تطمئن إلا حين أخذت تسترد شخصيتها المستقلة في ظل ابن طولون، وفي ظل الدول المختلفة التي قامت بعده”. ويخلص طه حسين إلى أنه “بقدْر ما أخفقت المسيحية في عهود العقل الأوروبي ولم تخرجه عن يونانيته الموروثة، فإنه يجب أن يصح أن الإسلام لم يغير العقل المصري”. وإذا كان الأمر كذلك، فعلينا أن نضع مركز الثقل في قضية الهوية المصرية في “مصر القديمة الخالدة-الفرعونية” أولاً، وأن ننظر من ثم إلى “مستقبل الثقافة في مصر على أنه امتداد لمصر إياها في حاضر متواضع متهالك ضعيف”. ونلاحظ أن فكرة “جوهر مصر الخالد” حرَم حسين من ملاحظة منهجية تاريخية تتمثل في أن التاريخ، لا يستجيب لهذه الفكرة، وحرصه كذلك من ضبط الآثار التي تركتها المسيحية الشرقية والإسلام والعروبة. ها هنا يوصلنا طه حسين إلى الكلمة التاريخية، التي أطلقها الخديوي اسماعيل، وهي تلك التي جعل بها مصر، بنقلٍ من طه حسين، “جزءاً من أوروبا، فقد كانت مصر حقاً ودائماً جزءاً من أوروبا، في كل ما يتصل بالحياة العقلية والثقافية، على اختلاف فروعها وألوانها”. وفي هذا السياق، يدعو عميد الأدب العربي المصريِّ إلى ألا “يفهم أن بينه وبين الأوروبي فرقاً عقلياً قوياً أو ضعيفاً، ولا ينبغي أن يفهم المصري أن الشرق الذي ذكره كيبلنج في قوله المشهور بأن الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا، يصدق عليه أو على وطنه العزيز”. إن طه حسين هذا، الذي قدمنا خطوطاً أولية من لوحته الثقافية والفكرية، ليس إلا صورة سريعة ومبسَّطة اضطررنا إليها لأسباب بحثية فنية قد لا تليق بالرجل الكبير.

جريدة الاتحاد


طيب تيزيني

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى