المصطفى فرحات - البعد الدلالي والجمالي في ديوان "شبيهي في التيه "

المحور الثاني: البعد الجمالي
المقصود بالبعد الجمالي الوسائل والأدوات الفنية التي يتوسل بها الشاعر لإبلاغ فكرنه أو مضمون تجربته الشعرية بقصد إحداث الأثر الذهني والعاطفي المرغوب فيه لدى المتلقي. وإذا كانت تجربة الشاعر قد اتخذت على مستوى المضمون بعدا إنسانيا غنيا سواء من حيث المنطلقات والغايات فإنها الصورة الكاملة لتجربة الشاعر لا تكتمل إلا بمقاربة الجانب الفني الذي سنتناوله من خلال أربعة مداخل وهي: 1. الصورة الشعرية. 2. اللغة. 3. الرمز. 4. الإيقاع.
أولا: الصورة الشعرية.
تعتبر الصورة الشعرية من أبرز الأدوات الفنية التي تسهم في تشكيل البعد الجمالي للنص الشعري. وهي ـ كما عرفها س- د – لويس : " رسم قوامه الكلمات، إن الوصف والمجاز والتشبيه يمكن أن يخلق صورة أو إن الصورة يمكن أن تقدم إلينا عبارة أو جملة يغلب عليها الوصف المحض ولكنها توصل إلى خيالنا شيئا أكثر من انعكاس متقن للحقيقة الخارجية. (الصورة الشعرية. ترجمة د. أحمد نصيف الجنابي. ص 81). وتتجلى الصورة الشعرية في ديوان "شبيهي في التيه" بأشكال وأنماط متعددة يمكن اختزالها في:
أ – صور شعرية كلية تمتد على طول النص لتنقل لنا إحساسا شفافا مفعما بالحيوية والتفاؤل والأمل كما في قصيدة "صدى الكلمات" حيث يقول:
يا صاحبي
أنا هنا ظل لأناك
صدى كلماتك في زوايا الروح
انزواء الأحزان البعيدة
تحت الغمام
حين تأتي الأعشاش إلى أرواحنا
كي تنبت فينا رائحة الولادة.
(الديوان: ص/18)
ب – صور شعرية جزئية وامضة على مستوى الظاهر ولكنها متناغمة وعميقة على مستوى جوهر التجربة. يقول في قصيدة "بصيص ضوء"
الوقت باكرا
والمحطات لم تفتح أبوابها بعد
والخفافيش داهمها الضوء
ولم يعد لها معالم لسيرة
ولا عين للظلال
(الديوان: ص/41)
من خلال هذا المقطع نلاحظ أن الصورة الشعرية حققت أهدافها باعتبارها أداة توصل بها الشاعر للكشف عن رؤيته وموقفه من واقعه بكل تعقيداته وتفاصيله الصغرى، وعبرها تمكن من خلق حالة وسطى أحيانا بديلة عن الذات الشاعرة والآخر والواقع، كما لعبت الصورة دور الناقل لمضامين أو تيمات التجربة الشعرية إلى جانب نقل الحالة النفسية والعاطفية الكامنة خلف هذه المضامين. وهيمن التشبيه والاستعارة لتشكيل الصورة الشعرية.
ثانيا: اللغة الشعرية
هي في جوهرها لغة انزياحية وبها تقوم تجربة كل شاعر، ذلك أن لكل شاعر مفرداته ومعجمه الخاص، ومن خلال اللغة يخلق فرادته ويبدع عالمه ورؤيته الخاصة به. يقول محمد زكي عثماني: "مهمة الأديب الناجح أن يعمل على تحطيم الارتباطات العامة للألفاظ عن تلك الارتباطات التي يخلقها المجتمع وأن يخرج عن السياق المألوف إلى سياق لغوي مليء بالإيحاءات الجديدة. (ذ. أحمد عشماوي، قضايا النقد الأدبي والبلاغي، ص/19). وإذا تتبعنا المعجم المهيمن في الديوان سنلاحظ أنه موزع بين حقلين دلاليين هما: الحضور والغياب أو الحياة والموت/أو الأمل واليأس. كما استثمر الشاعر دلالات المفردات وأصواتها وعلاقاتها وبنائها لنقل تجربته الشعرية والنفسية والوجدانية ومواقفه الرؤيوية إلى المتلقي. وإذا ما رسمنا جدولا عاما لمعجم الشاعر سنستنتج أن الحقول المعجمية المهيمنة هي:
المعجم الدال على الزمن: وهو ناذر جدا وتكررت بالخصوص مفردة اللمساء 15 مرة إلى جانب مفردتي النهار والليل.
المعجم الدال على الموت: يحضر معجم الموت بمفرداته المتعددة مثل: الموت/الموتى (14 مرة). وذكر مفردة الموت منفية مردة واحدة (لا تموت). الكفن، المحو، المشانق، المنتهى/النهاية، الصلب، الرحيل..
المعجم الدال الألوان: تحضر أربعة ألوان: الزرقة (مرتين)، والبرتقالي (مرة واحدة)، الصفرة (6 مرات) و الأبيض (6مرات)
المعجم الدال على الفصول: لا يحضر إلا فصل الخريف (4 مرات)
المعجم الدال على الأماكن: في هذا المجال تحضر أماكن متنوعة منها ما يحيل على البادية، وهي ناذر جدا مثل: الغابات، الطريق.. ومنها ما يحيل على المدينة الدروب، الأرصفة.. ومنها ما يحيل على السفر: السكة، المطارات، المحطات..
المعجم الدال على أعضاء الجسد: تحضر مفردات الجسد بشكل ملفت للانتباه ومن مفردات هذا الحقل: الأظافر، الدماغ، الأرحام، الحناجر، القفا، الجفون، الصدر، القلب، البطنـ اللسان، الساق، الخد.. ولكن أكثر الأعضاء تكرارا هي: اليد (26 مرة)، الوجه (14 مرة)، العيون (12 مرة)، الرأس (6 مرات)، الذاكرة (8 مرات).
المعجم الدال على الحياة: هيمنت المفردات التي تحيل على الحياة وتنوعت مثا: النهر، الغمام، الماء، السحب، الفراشات، السنابل، الأشجار...
أما فيما يتعلق بالأفعال فقد هيمن الفعل المضارع بشكل جلي على بقية الأزمنة الأخرى يكفي للتدليل على ذلك أن القصائد الأربعة الأولى حضر فيها الفعل المضارع حوالي (53 مرة) مقابل فعل ماض واحد ، وأربعة أفعال أمر وهو ما يدل على أن التجربة الشعرية تربط نفسها بالحاضر كما يعطيها مرونة لتجدد نفسها من خلال ذاتها والمتلقي في نفس الآن.
ثالثا: الرمز
إلى جانب الصورة الشعرية والمعجم يأتي الرمز باعتباره وسيلة مهمة في تبليغ التجربة الشعرية. والرمز حسب إحسان عباس هو "الدلالة على معلى ما وراء المعنى الظاهر مع اعتبار المعنى الظاهر مقصودا أيضا". (فن الشعر. ص 230). ومن أهم خصائص الرمز، الإيحاء، والتلميح، والإيماء إلى المعنى دون التصريح به، ووظيفته هو نقل الأثر النفسي والمعنوي التي تبعثه بعض الأشياء في نفوسنا.
وإذا تتبعنا حضور الرمز في ديوان " شبيهي في التيه" سنلاحظ أن الشاعر وظف الرمز بكثافة وهو يستمده من الطبيعة والوقائع والأشياء..فنجد على سبيل المثال " النوارس، الخفافيش، الغربان، العنقاء، والكلاب، الحوت، البذور..." هذه الرموز تحبل بالدلالات التي تحيل على الحياة والموت هي في وطبائع الناس كالخيانة والانتهازية والشموخ والظلم، وهي تعكس في مجملها حالات نفسية للشاعر في تواصله مع الواقع بأبعاده المتعددة. يقول الشاعر:
في خلوة المساء
هي العناكب تمد خيوطها طويلا
وأنت أعزل مثل كومة إسمنت.
(الديوان: ص/54).
"العنكبوت" هنا تعكس حالة الشاعر المهزوم والمنكسر في لحظة ما قبل حلول الليل حيث سيتضاعف الإحساس بالوحدة والخوف، الشاعر يستشعر الخطر الذي يتعرض له ويتربص به، ينتظره دون أن يكون قادرا على دفعه.
رابعا: الإيقاع
شكل الإيقاع الشعري العنصر الرابع الذي يدعم الجانب الجمالي والفني للقصيدة، وظل مفهوم الشعر مرتبط بالوزن منذ نشأته وإن تغيرت قيمته من عصر إلى آخر. والملاحظ أن الإيقاع الشعري في تجربة الشاعر ينبعث من داخل النص أكثر مما ينبني خارجه. وسنحاول رصد بعض مظاهر الإيقاع الداخلي وتجلياته من خلال ظواهر دلالية ولفظية وصوتية وتركيبية وتناغم هذه المكونات فيما بينها. يقول الشاعر:
أرى رفرفات وجناح وريح
وظل مطر وروح سحاب
وأنا معهم أسير
إلى نهاية لا رأس لها في الشمس
ولا نهاية لها في رأس الدرب
أسير كمن يعانق سديما
وبحرا مرسوما على خريطة التيه
والسفر الموجع إلى الغابات.
(الديوان: ص/50)
يتجلى غنى الإيقاع الداخلي الذي يسهم في بناء موسيقية القصيدة وبالتالي دعم شاعريتها من خلال مجموعة من الظواهر التي تتمثل في:
أ – التكرار بنوعيه الصوتي المتمثل في تكرار الصوائت التالية: الحاء (4 مرات). الراء (15 مرة). السين (9 مرات). النون (5 مرات). والصوامت التالية: الألف الممدودة والمقصورة (14 مرة). الياء ( 6مرات). والتكرار اللفظي: أسير (مرتين). الرأس (مرتين).
ب – التطابق: نهاية /بداية. والتجانس: روح/ريح. والتداعي الحر الذي يولد تناغم في الألفاظ. فالرفرفات (الطيور) استدعت الجناح (الطيران). والجناح استدعى الريح (الفضاء). كما أن المطر استدعى السحاب. والنهاية استدعت البداية، والرسم استدعى الخريطة...فالتداعي الحر هو نتاج خيال خلاق مبدع وعفوي يتناغم فيه التشكيل الدلالي مع التشكيل النغمي – الإيقاعي لشحن التجربة الشعرية بمزيد من المتعة واللذة والفعالية.

على سبيل لختام
هذه محاولة لتقريب المتلقي من بعض الجوانب الدلالية والجمالية التي ميزت التجربة الشعرية في ديوان "شبيهي في التيه" والتي أتمنى أن تفتح شهية القارئ لكي يكتشف ويتواصل ويتفاعل مع هذه التجربة بشكل مباشر.

أبريل 2020
المصطفى فرحات



Aucune description de photo disponible.
L’image contient peut-être : ‎‎‎عبد العزيز أمزيان‎‎, debout et lunettes‎




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى