محمد جمال باروت - مقاربات أولية للنثري واليومي

هذه مقاربة نظرية تتم في ضوء المنهجية الإبيستمولوجية الحديثة في اشتقاق العقل النظري من العقل العلمي وليس العكس. ويعني ذلك في مجال ما يقع في إطار نظرية الأدب أن المقاربة النظرية هنا مشتقة من المقاربة النصية المحقّقة نفسها بوصفها قابلةً لإنتاج نظريتها. ويمكن القول في ضوء هذه المنهجية أنه بات ممكناً في منظور تاريخ الحركة الشعرية العربية الحديثة تمييز بنيتين أساسيتين متميزتين هما بنية القصيدة الرؤيا والقصيدة اليومية.
ولا بد هنا من تمييز جماليات الرؤيا عن القصيدة الرؤيا في أن جماليات الرؤيا محايثة للشعري في كل عصوره واتجاهاته ومدارسه وتدفقاته بينما مفهوم القصيدة الرؤيا يقوم على أن الشعر لا ينهض أساساً إلا عبر الرؤيا وبواسطتها، فالرؤيا هي المحددة لسائر مستوياته الأخرى برمتها في ما بات ممكناً تسميته بالقصيدة الرؤيا. وبهذا المعنى فإن القصيدة اليومية ليست مقابلةً لجماليات الرؤيا الشعرية نفسها، فهي تستخدم هذه الجماليات ولا تستطيع أن تفكر شعرياً بمعزلٍ عنها، لأن جماليات الرؤيا ملازمة لجماليات التفكير المجازي بالضرورة، لكنها مقابلة على مستوى البنية للقصيدة الرؤيا بوصفها مفهوماً معيارياً كانت حركة مجلة شعر ولا سيما في طورها البازغ الأول (19571964) أبرز من أعاد بناءه وتطويره وإغناءه وترسيخه كمعيارٍ لمفهوم الشعري نفسه الذي بات مطابقاً لمفهوم الرؤيوي وبالتالي لمفهوم الحداثي في إطار المطابقة ما بين مشروع القصيدة الرؤيا وبين مشروع الحداثة الشعرية.
إن المثال الجمالي للقصيدة الرؤيا يكمن في الكلي أو الرؤيوي بينما يكمن المثال الجمالي للقصيدة اليومية في النثري أو اليومي. فيحيل الرؤيوي في مثاله الجمالي هنا إلى الكلي بقدر ما يحيل اليومي إلى النثري. وليست مقولة النثري هنا هي حدود التمييز التقليدي بين النثر والشعر، أو بين الأنواع النثرية والأنواع الشعرية، أو بين الاستخدام النثري الوظيفي الأداتي للغة وبين الاستخدام الشعري المجازي لها، بقدر ما هي مقولة جمالية لليومي مقابل الكلي أو الرؤيوي.

2

لقد هيمن مفهوم القصيدة الرؤيا على معنى الشعري وطبيعته ووظيفته في الحركة الشعرية العربية الحديثة في الستينيات، واكتسب مفهوماً معيارياً للحداثي نفسه. وكي نتبين تعقدات تكون هذا المفهوم في الحركة الشعرية العربية الحديثة، فإنه لا بد من الإشارة إلى مفارقة تمثلت في أن الحركة الشعرية الحديثة ونعني بها عمودها الفقري الأساسي ممثلاً بحركة مجلة شعر التي فاق تأثيرها فريق المجلة ومحيطها إلى الحركة الشعرية برمتها في الستينيات قد أبرزت الفهم الإليوتي لعدم ابتعاد لغة الشعر عن اللغة الدارجة العادية اليومية التي نستخدمها، مما يوفر افتراضياً الشروط الابتدائية للقصيدة اليومية أو مقاربة جماليات النثري أو اليومي في الحياة الجارية، غير أن هذا الإبراز لم يتخط حدود الإبراز النظري والافتعال اللغوي في النص نفسه باللجوء إلى استخدام مفردات لغة الحياة اليومية الجارية. وبكلام آخر اقتصر هذا الاستخدام على اتكاءات معجمية جزئية ساذجة مستمدة من لغة الحياة اليومية في المستوى الظاهري للنص ولكن في بنية رؤيوية كلية خالصة من ألفها إلى يائها. وهذا ما نجده بدرجات متفاوتة في شعر توفيق صايغ وأدونيس ويوسف الخال وجبرا إبراهيم جبرا ويوسف الخال... إلخ.
وعلى العكس تماماً من ذلك فإن عملية استيعاب إليوت وامتصاصه تمت رؤيوياً بشكلٍ خالصٍ، وأخذت شكلها الأكمل من خلال القصيدة التموزية (الانبعاثية) والقصيدة الميتافيزيقية، وهما نوعان فرعيان للقصيدة الرؤيا، يمكن وصفهما بالتموزية والميتافيريقية تبعاً للبنية الدلالية الرؤيوية. في حين أن الاتجاه إلى القصيدة اليومية من حيث أن النثري يعني هنا مقولةً جماليةً هو اليومي مقابل الكلي قد تم خارج ذلك المؤثر الإليوتي كلياً، وإن كان ذلك المؤثر قد أشاع ذلك وأثّر في تجربة صلاح عبد الصبور مثلاً، ونعني هنا على وجه التحديد ارتباط ذلك التحول من الرؤيوي إلى اليومي، أو من الكلي إلى النثري، قد ارتبط بشعر كل من محمد الماغوط وشوقي أبو شقرا اللذين كانا من شعراء مجلة شعر وأنتجا تجربتهما ضمن الفضاء الحر لحركة مجلة شعر، وربما نزار قباني قبلهما، لكنهما لم يكونا لا من قريب ولا من بعيد من سلالة مفهوم القصيدة الرؤيا الذي تبنته كمعيار للشعري والحداثي في وقتٍ واحدٍ، بل كان الماغوط وأبو شقرا من أكثر المرتابين و<الساخرين> بمعيارية القصيدة الرؤيا للشعر، من دون أن يعني ذلك أبداً نفي الشعرية عنها. ولكنهما كنا يخترقان مجال الهيمنة، ويفتحان الأفق من دون أن يدريا بالضرورة لمعنى آخر للشعري يفتحه على الاحتمال، ويعبر عن نظرة أخرى إلى الشعر والعالم.

3

إن البحث عن الشعري في أكثر التفاصيل اعتياديةً ويوميةً، وإعادة اكتشافها محملةً بكل الطاقات الشعرية الممكنة كان يتكون من الناحية التاريخية الصرفة منذ أواخر الخمسينيات، مع تجارب الماغوط وشوقي أبو شقرا وسعدي يوسف (1) في مجلة شعر نفسها. ولم يصبح التوجه إلى ما بات يمكن تسميته بالقصيدة اليومية أو قصيدة التفاصيل مهيمناً إلا في مرحلة السبعينيات، واكتسب هذا التوجه دفعةً كبيرةً بتبلور حركة شعرية في سوريا تنتمي إلى هذا الفضاء الجديد لمعنى الشعري وطبيعته ووظيفته وأداوته (2). ومن الناحية السوسيولوجية كانت القصيدة الرؤيا ولا سيما في نماذجها <القوية> الانبعاثية والتموزية نوعاً من معادل موضوعي إذا ما استخدمنا هذا المصطلح الإليوتي بشكل مرن لمشروع الانبعاث القومي، ولكن وفق خصائص الشعري الذي يتجاوز بطبيعته الشروط التي تم إنتاجه فيها وينخلع عنها باستمرار، ولا سيما أن مفهوم الرؤيا الشعرية قد أدمج هنا في إطار رؤيا حضارية أشمل أرهقت الشعري بفيض من <الثقافوية> و<التفلسف> وإشكاليات <الهوية>. فالشاعر النبي وهو مثال جمالي أساسي في القصيدة الرؤيا العربية المحققة كان له ما يقابله من الصورة الكاريزمية للمغير السياسي في الحركات النهضوية القومية. والشاعر النبي الذي يموت فرداً وينبعث جماعةً كان مرتبطاً بالتواردات الشعرية للمكافح والمغير القومي. فالنزعة الافتدائية شملت الإيديوولجيم الشعري والفكري والسياسي التغييري في آنٍ واحدٍ، والرايات الكبرى للشعري كان لا يوجد ما يقابلها من رايات كبرى في رؤى التغيير الاجتماعي والسياسي، فهي تنتمي إلى عالم الكليات، وإن كان الشعري يغوص أكثر في الخيبة ومكابدة الإخفاق. ومع ذلك يجب عدم المغالاة بهذا التحليل إلا على السبيل السوسيولوجي الذي سينتمي عندئذ إلى علم اجتماع الشعر وليس إلى نظرية الشعر، ولكنه يمثل تنبيهاً مهماً إلى صورة الذات الشاعرة الرؤيوية والعارفة والنبوية، وهي الذات الثانية أي الذات وقد غدت ضمن الشعري.
يعني التحول من <العالم المتناهي في الكِبر> إلى العوالم <المتناهية في الصِغر> تغير معنى الشعري نفسه، فلم يعد الشعري يكمن هنا في <القضايا الكبيرة> التي كان يتلبس فيها الشاعر الكون، ويعيد بناءه من جديد في ضوء الفعل الخالق للكلمة أو الكلمة الفعل أو مسألة ما يسمى مدرسياً بالفعل الشعري Verbe Poetique، والتي يخلق فيها الشاعر عالماً جديداً كما خلقت الكلمة الإلهية العالم، بقدر ما بات الشعري يكمن في التفاصيل الأشد اعتياديةً ويوميةً وتفصيلاً أي داخل اليومي والتفصيلي والمهمل، والتي لم تكن تجذب الشعري في مرحلة الهيمنة الرؤيوية عليه. فالشعر منغرس هنا في مجريات الحياة اليومية وتفاصيلها من دون أن يفقد اتصاله البدائي بالأشياء الأولى فيها. عبر الماغوط عن ذلك بشكل نموذجي، وأهمية قوله أنه مشتق من التجربة نفسها، فما يهمه هو <الغوص في أعماق الجزئيات> بل <الجزئيات الصغيرة> (3) حتى في تلك الرسالة الغرامية المرمية على الأرض، وحتى كل التفاصيل في الزواريب والحارات، فكل شيء في المحيط الدلالي للحياة اليومية من لفافات التبغ إلى قلي السمك إلى نمرة الحذاء يدخل إلى القصيدة محملاً بالشعري.
من هنا شكل <الإنسان الصغير> مثالاً جمالياً في القصيدة اليومية مقابل الرائي النبوي العارف البطل والمنارة في القصيدة الرؤيا. وهذا تغير جوهري في صورة الذات الشعرية، فشاعر القصيدة اليومية لا يجد نفسه على غرار الشاعر الرؤيوي في ذروة الجبل المقدس ليتدحرج منه إلى الكارثة بقدر ما يجد نفسه منذ اللحظة الأولى في القاع. إن ملحميته مقلوبة عن ملحمية الشاعر الرؤيوي، فهي ملحمية الأشياء الصغيرة بعوالمها وحوادثها ومجرياتها وبشرها وزحمتها وتفاصيلها. وقد تكون في إحساسه بالملحمية وهو يمسك بربطة عنقه. وقد يكون ذلك عالماً ملحمياً من دون ملحمة، أو بحثاً عن الشعري فيما ينفيه. فالشاعر ليس هوائي المطلق والمجهول واللامرئي وأسرار <الجزة الذهبية> بل هوائي الحياة اليومية، ويمكن أن يمازح ويسخر.
وليست نتائج ذلك على المستوى التركيبي الشعري يسيرة، فهنا في العوالم المتناهية في الصغر للإنسان الصغير يندمج الشعري مع السردي، فتتحول القصيدة إلى أشبه بسردية تحكمها <خاتمتها الأخيرة> بلغة الشكلانيين الروس، ويمكننا تسميتها بالنتيجة الشعرية أو الأثر الشعري المتولد من زحمة التفاصيل. وعلى المستوى الأسلوبي يثير ذلك مسألة المجاز التجميعي كمفهوم يسمح بمقاربة الجماليات الشعرية للقصيدة اليومية، فالشعري هنا لا ينتج من قوة خاصة مزعومة لإيحاء المفردات المضمومة في منظومة أو بنية تقوم على المجاز البلاغي بمعناه التقليدي أو بمعناه الحديث كانحياز بقدر ما ينكشف عبر تجمعيات أو تجاورات لتفاصيل وصور سردية وانفعالية ليست مترابطة سببياً لكنها متجاورة، ويشكل تجاورها هنا المصحوب بالمفاجأة والمفارقة شكل انزياحها الخاص الذي يمكن مقاربته على مستوى الكل وليس على مستوى الجملة الشعرية وحدها. فمن أين تأتي شعرية سعدي يوسف مثلاً؟ الطاولة لديه طاولة، والكأس كأس، والشرطي شرطي... إلخ. بمعنى آخر إنه لا يعبأ بالمجاز البلاغي، ومن هنا قد يكون المجاز التركيبي أو التجميعي التجاوري هو أحد مفاتيح التفسير، ويمكن اختزاله هنا بالمجاز البنائي المميز عن المجاز البلاغي، حيث أن البلاغي جزء من البنائي وعنصر من عناصره. ويحتاج هذا الاقتراح إلى تعمق وفحص.
لقد أثر ذلك في المعجم الشعري نفسه فإذا كانت المسارات الكلاسيكية الجديدة والرومنتيكية والرؤيوية قد ارتبطت بمعجم نمطي خاص لكل منها بغض النظر عن انتظامه النسقي فإن القصيدة اليومية قد أدخلت المعجم اليومي على نطاقٍ واسعٍ إلى اللغة الشعرية. والأساسي هنا مرةً أخرى ليس المعجم المفرد لوحده فهو لا يعني أكثر من مساعدٍ في الفهم، بل العالم اللغوي الشعري الذي ينتظمه، والذي يبعث <الباثوس> الشعري في المهمل والعادي والمبتذل. ويعني ذلك تبسيط الخطاب الشعري في القصيدة اليومية مقابل التعقيد اللغوي الدلالي الرؤيوي في القصيدة الرؤيا، والذي هو في حقيقته نتاج التطويح بالعلاقة ما بين الدال والمدلول أو للتنافر الدلالي. إن الانزياح هو مبدأ مطلق في الشعر، ولكنه في البنية الرؤيوية يأخذ سمة <التكثيف> بمصطلحات فرويد، ومن هنا التعقيد الدلالي بحكم التداخل بين البنية الحلمية والبنية الرؤيوية. وفي المحصلة فإن الوظيفة الانفعالية المرتبطة بالذات الشاعرة هي المهمينة على الذات الشاعرة في القصيدة الرؤيا في حين تبرز في القصيدة اليومية الوظيفة الإحالية أو المرجعية. وهو ما يسمح بالحديث عن القصيدة اليومية في كثير من النماذج كنوع آخر يقوم على التهجين ما بين الشعر والسرد، وربما في شكل قريب من القصة القصيرة جداً، وبكلام آخر تبدو القصيدة اليومية احياناً وكأنها خطاب ذاتي يقص وحدات سردية مرجعية أو إحالية وحتى وقائعية، وكما برهن جينيت فإن حدود الخطاب والسرد لا تتمايز في حالة صافية بل يتداخلان فيما بينهما، وهذا التداخل هو من أبرز سمات القصيدة اليومية. من دون أن ينفي ذلك اتجاه آخر يقوم على الومضة ضمن منهج الإدراك الحدسي الذي يثير طاقات شعرية في الجزئي التفصيلي. فالقصيدة اليومية لا تتخلى عن الإدراك الحدسي، فالعالم الصغير يحضر هنا محملاً بالعوالم الكبيرة. وغنائيتها البسيطة التركيب هي أقرب إلى غنائية يومية تقع في فضاء غنائية حديثة لا تفارق فيها الذات مرجعها المحقق.
لعل هذا ما يفسر الطبيعة <الشفوية> للقصيدة اليومية في الكثير من نتاجاتها، ففي هذه القصيدة تثير الذات المتكلمة بضمير المخاطب دوماً التفاعل معها من المتلقي، فكل أنا تتطلب الأنت، هذه الحوارية تظهر وتضفي الطبيعة الشفوية التفاعلية، وكأن مفهوم الخطاب بمعناه الضيق ينطبق هنا على العديد من منتجات القصيدة اليومية. وفي هذه الحوارية الشفوية أو المقتربة بالأحرى من الشفوي والتلقائي يغدو كل شيء في المحيط الدلالي للبشر والصور والأمكنة والأشياء في الحياة اليومية قابلاً إلى أن يكون شعرياً. وبطبيعة الحال فإن الشفوية تختلف هنا عن اللغة الدارجة أو حتى المحكية التي حلم يوسف الخال باختراق جدارها، واعتبر أن حركة مجلة شعر قد توقفت لأنها قد اصطدمت بذلك الجدار والازدواجية بين: <ما نكتب وبين ما نتكلم> (4)، لكنها تلامسها وتدمجها من داخل الطاقات الخلاقة للغة العربية، في لغة جديدة تماماً وإن كانت تراعي شكليات اللغة الفصيحة.
إن القصيدة اليومية تكسر ثنائيات الشعر/النثر، الكلي/اليومي، الكبير/الصغير، الجميل/القبيح، السامي/المبتذل، الرفيع/الوضيع. وهي ثنائيات ترتد برمتها إلى ثنائية ميتافيريقية انهارت مراجعها اليوم في حقل علم الجمال والشعر كما في حقل الفكر. القصيدة اليومية تجرد الشعري من <هالته الميتافيريقية> وتدحرجها في <وحل> الحياة اليومية وتفاصيلها ومشاهدها وهنيهاتها ولحظاتها، فلا يعود الشعري كائناً في المتعالي بل منغرساً بقاع الحياة الجارية. والأساس في نقض الميتافريقا هنا هو فهم الحياة كسيرورة كأنه لا بدء لها ولا نهاية بينما الميتافريقيا غائية دوماً.
وفي كسر هذه الثنائيات تنفتح على توليد أنواع شعرية جديدة ومختلفة وغير مألوفة، فميزة نظرية الأجناس الأدبية الحديثة التي يرى كثير منا أنها قد تقادمت هو أنها نظرية وصفية وليست نظرية معيارية، فهي لا تلزم الشاعر بأي دستور كتابي ومن هنا طاقتها الاستكشافية في توصيف الأنواع الشعرية الجديدة. وقد تلاحظون أنني استخدمت هنا النوع والجنس اللذين يرتدان إلى مفهوم Genre. ولكن هذا التمييز ينبني على أن هناك أنواعاً كبرى تتجاوز الأجناس المحققة، وهي الغنائية والملحمية والدرامية التي يمكنها أن تخترق كل الأجناس الأدبية. وفي نظرية الشعر جرى تمييز يعود إلى الإنجاز الرومنتيكي في التمييز بين القصيدة أو الشكل وبين الشعر أو التجربة، ولكنه يتجاوز الآن حدود المتن الرومنتيكي، فالقصيدة شكل هندسي يمكنه أن يكون متحولاً ومختلفاً، ودور نظرية الأجناس الأدبية إذا ما كان ممكناً إعادة الاعتبار لها هو استكشاف ذلك، فهي نظرية وصفية بحتة وليست نظرية معيارية.
يفضي ذلك إلى أن الأنواع الشعرية الجديدة قابلة للتوصيف من دون رهنها به. وهي لما تزل في مرحلة تحول، تمثل جوهر التحول الشعري الجاري اليوم. لقد كان التحول سمة التطور الثقافي والجمالي الشعري في القرن العشرين في ثقافتنا العربية، لكنه تمركز دوماً حول مراكز معيارية، بينما فضاء القصيدة اليومية بتفرعاتها المتعددة والمفتوحة لا تطرح نفسها مركزاً معيارياً للجميل أو للشعري، فهي قد تشكلت على هوامش المراجع الكلية الحاكمة والموجهة، واخترقتها وتمكنت من الخروج منها. المرجع الكلي ميتافيزيقي بالضرورة لأنه غائي. هذا هو مبدأ الميتافريقيا، وحين ينهار هذا المرجع ينبجس النثري أو اليومي لنكون في عالم المصادفة وليس في عالم السببية، وفي عالم التشتت وليس الوحدة، وفي عالم العابر وليس الماكث المستقر. وهذه هي حيوية الحياة نفسها.

(دمشق)


هوامش
1 لم يكن سعدي يوسف من شعراء المجلة لكنها نشرت له في عددها الأول قصيدة تندرج في هذا الاتجاه.
2 نعني هنا تجارب محمد منذر مصري ونزيه أبو عفش ورياض الصالح الحسين وعادل محمود. وقد تكرس التنظير لهذا الاتجاه في إطار ملتقى الشعراء بجامعة حلب، وأخذ أبعاداً نظريةً لم تكن متوقعةً، وتمثلت قيمة هذه الأبعاد في أنها كانت مشتقة من تحولات الشعري نفسه وليس من خارجه. وكان العنوان الجديد في هذا الفضاء إعادة اكتشاف الماغوط مع وجود تأثيرات واضحة لشوقي أبي شقرا في تجربة منذر مصري، وهو نفسه ما تشكل على نحو في تجربة ما يسمى بجيل السبعينيات بمصر، وإن كان الوعي النظري لدى هذا الجيل إذا ما صحت التسمية أكبر من حجم الإنتاج نفسه الذي يمكن أن يندرج في هذا الفضاء، بينما كان الاتجاه العراقي والذي يعتبر سعدي يوسف نسغه الأساسي قد اخذ شكل تشكيل النثري والتفصيلي في القصيدة.
3 محمد الماغوط (حوار تميم دعبول) تشرين، 4 آذار .1980
4 يوسف الخال، مجلة شعر، (العدد الأخير)، صيف خريف ,1964 ص 7-.8


محمد-جمال-باروت

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى