د. محمد سعيد شحاتة - حركة المعنى وتفكيك شفرة العنوان.. قراءة في قصة (رحلة السيد العجوز) للدكتور أحمد الباسوسي

إن القارئ لقصص الدكتور أحمد الباسوسي يكتشف منذ الوهلة الأولى المزج بين الرمزية والواقعية، وإن بدت أحداث القصة أحيانا وشخصياتها مباشرة، ولكننا ما نلبث أن نكتشف الرؤية المتخفية وراء هذه البساطة والوضوح، فهو يلجأ للتعبير عن الأفكار والعواطف والرؤى، ويتخذ من الشخصيات الواقعية في حياتنا رموزا قادرة على كشف الانطباعات، والإيحاء بالحالة دون التصريح بها، محرِّكا القوى التصورية والانفعالية لدى المتلقي من خلال التغلغل في خفايا النفس وأسرارها ودقائقها، كما أنه يعطي اهتمامًا كبيرًا لوصف التفاصيل، وينطلق كذلك من واقع المجتمع الإنساني، ويصوّر الصراعات القائمة في ذلك الواقع تصويرًا واقعيًّا، ويلجأ كثيرا إلى تقديم الجوانب السلبيّة في المجتمعات الإنسانيّة مثل: الفقر، والجهل، والعجز، والظلم، في محاولة لعلاجِ مثل هذه الظواهر التي يعاني منها البشر.
ومن الملاحظ كذلك أن الدكتور أحمد الباسوسي يتعمَّد أحيانا نزع الطبيعة الفيزيائية عن الشخصيات في القصة، وإلباسها طبيعة تجريدية، بحيث تمثل قيما عامة، وليست شخصيات محددة بأعيانها، وبذلك تصبح ذات طبيعة إدراكية عامة، فالعجوز مثلا يمثل شريحة عامة في المجتمع هم كبار السن الذين تهمِّشهم الحياة وينساهم المجتمع، فينسحبون من الحياة، وتنزوي أحلامهم وتضمر طوحاتهم حتى تصبح مجرد أمل في أنفاس مريحة لا يكدرها صخب الحياة وتآمر الأمراض، وأحيانا تتخلى الشوارع كذلك عن طبيعتها الفيزيائية لتتحول إلى طبيعة إدراكية، فلا نعرف عنها شيئا سوى أنها شوارع القاهرة، أو غيرها من المدن دون تحديد للشارع أو المنطقة أو الحي، وكأن الكاتب أراد أن يجعل من ذلك إطارا عاما بحيث لا تخرج عن هذا التصور منطقة من المناطق أو شارع من الشوارع، فكلها تتسم بالسمة نفسها، وإن تغيَّرت الأسماء.
تنتمي القصة (رحلة السيد العجوز) إلى طبقة المهمشين الذي سحقتهم الحياة بين أضراسها، وهم يحاولون أن يحافظوا على ما تبقى من سلام نفسي بعد ما أصاب العالم من حولهم التصحرُ الروحيُّ، والانطفاءُ الوجدانيُّ، ونسيتهم المدينة التي كانت في يوم من الأيام ملء أسماعهم وأبصارهم، وكانوا لحنها الصاخب، ووهجها الوهَّاج، ولكنهم ينسحبون من الحياة تدريجيا بفعل عامل الزمن؛ ليحتلوا الهامش بعد ما كانوا في المتن، ويحاولوا أن يحتفظوا بذاكرة المدينة التي أودعتهم سراديب الوحدة، ورمت بهم في أودية النسيان، وهم إذ يفعلون ذلك إنما يحاولون البقاء في عالم تطحن مفرداته الضروراتُ الحياتية، فتكتسي ملامحه باللامبالاة والسرعة المخيفة، فلا أحد يهتم بشيء، ولا أحد يسأل عن أحد.
العنوان مفتاح تأويلي:
يتألف العنوان من جملة اسمية حذف المبتدأ فيها، والتقدير (هذه رحلة السيد العجوز) وبذلك يقدم العنوان وصفا إخباريا عن رحلة السيد العجوز، وهو إذ يفعل ذلك ينبئ منذ البداية بطبيعة القصة، وهدفها، ويتألف العنوان من ثلاثة ألفاظ دالة، هي (رحلة – السيد – العجوز) أما اللفظ الأول (رحلة) فهو يدل على الانتقال من مكان إلى آخر بهدف الاستكشاف، أو الاستمتاع، أو المعرفة ... الخ، وأما اللفظ الثاني (السيد) فهو يوحي بالسيادة والقوة على تحمل أعباء الرحلة، ولكن الكاتب يتبعه باللفظ الثالث (العجوز) في محاولة لمصادرة الدلالة الإيحائية التي يستدعيها لفظ (السيد) وما يحيط به من ظلال، ولتأطير ذهن المتلقي بأن الرحلة ليست لإنسان قوي البنية قادر على تحمل أعباء ومشقات الرحلة، ومن ثم يكون السؤال مشروعا عن المسكوت عنه في العنوان، وهو الهدف من الرحلة، والمكان الذي سيذهب إليه هذا العجوز، فلا شك أن التنصيص على هذا اللفظ (العجوز) في العنوان مقصود الدلالة من الكاتب، وإذا اعتبرنا أن العنوان مفتاح تأويلي ندرك تماما قيمة ذكر هذا اللفظ في العنوان، وهو لفظ يشتمل على دلالتين العجز وكبر السن وهما وجهان لعملة واحدة، أما العجز فقد جاء ليصادر الدلالة المستوحاة من لفظ (السيد) لحساب دلالة أخرى مستوحاة من لفظ (العجوز) والعجز هنا ناشئ عن كبر السن، ومن ثم فهو عجز عن أداء وظائف معينة تتمثل في القدرة على التحمل والحركة، إلى جانب استدعاء الدلالات المصاحبة لكبر السن كضعف البصر وانحناء الظهر والمرض ووهن الذاكرة، وغيرها من الأمور المصاحبة لكبر السن عادة، ومن ثم فإن العنوان يضع المتلقي أمام تصور لمن يقوم بالرحلة دون تصور طبيعة الرحلة وهدفها والأماكن التي ستكون منها وإليها، ولكنه في الوقت نفسه لا يترك للمتلقي مساحة لتخيل أماكن وأهدافا كثيرة لرحلة هذا العجوز.
حركة المعنى وتشكيل الدلالة:
وتبدأ القصة بمقطع يضع المتلقي في تصور محدد عن هذا العجوز (حركته في شوارع القاهرة لم تعد مثل زمان، ثقلت، وهنت. عاتقه مثقل بكل ما يحمله على كتفيه من أيام وصراعات وأحداث وأحلام وأمنيات تبخرت كما يتبخر الماء المغلي في القدور) منذ اللحظة الأولى يقرر النص الإطار الذي يمكن أن يساعد المتلقي على تقبُّل رحلة هذا العجوز بهذا الشكل، فيقرر النص الحقيقة الأزلية التي لا يختلف عليها أحد، وهي أن مرور الزمن يغير من الإنسان، ولكننا نلاحظ إشارات محددة بين أنسجة الجمل (عاتقه مثقل بكل ما يحمله على كتفيه من أيام وصراعات وأحداث وأحلام وأمنيات) فمن الممكن أن نتفهَّم ورود الألفاظ (أيام – أحلام _ أمنيات) مرتبطة بكاهل هذا العجوز؛ لأنها قد تكون أحلامه وأيامه وأمنياته، ولكننا لابد أن نتوقف أمام إشارة النص للفظين محددين هما (صراعات – أحداث) اللتين وردتا على أن كاهل هذا العجوز مثقل بهما، فهل كان هذا العجوز جزءا من هذه الصراعات والأحداث؟، أي أنه كان مشاركا فيها انطلاقا من دلالة لفظ (السيد) الواردة في العنوان، أو كان مجرد شاهد عليها بحكم وجوده ضمن الإطار الزمني لهذه الصراعات وتلك الأحداث؟ وهل كانت صراعات وأحداثا حياتية عادية لإنسان عادي، أو أنها كانت صراعات وأحداثا محلية، أو عالمية ؟ وفي جميع الأحوال فإن الفقرة السابقة تشير إلى الأعباء المعنوية التي تثقل كاهل هذا العجوز، ثم ينتقل النص إلى إشارة أخرى، وهي الأعباء المادية التي تثقل العجوز (أمراض تتآمر على ركبتيه وظهره وعموده الفقري ومعدته. وهنت عضلة القلب، قدرتها وحركتها تباطأت في ضخ الدماء الى أوصاله، أنذرته عدة مرات بكوارث لكن الله سلم) لقد تآمرت الأمراض عليه فأضعفت حركته وأوهنت قدرته، وأنذرته بكوارث، ولكن ما ضرورة سرد ذلك في القصة إذا كان مجرد ذكر لفظ العجوز يستدعي ظلال هذا اللفظ من المعاني والدلالات؟! لقد أراد النص أن تكون هذه الأمور مكوِّنا أساسيًّا من مكونات شخصية هذا العجوز، وليست مجرد تصورات متخيلة قد يوجد بعضها ولا يوجد البعض الآخر، ولأن هذه المكونات السردية سيكون لها انعكاس على تخيلات العجوز أثناء رحلته اليومية، أو سيكون لها دلالة في تصوُّر ماهية الرحلة وهدفها، ثم يأتي النوع الثالث من الأثقال التي تثقل كاهل العجوز، وهي علامات الزمن (انتثرت أخاديد الزمن في خلايا وجهه ورقبته وذراعيه، ضرب الشيب في كل مكان يمكن ان يصل اليه في تفاصيل هيئته التي يصر دوما على الخروج بها الى الناس) فليس أشد قسوة على الإنسان من أن يرى ملامحه وقد خطَّ الزمن خطوطه عليها فخبت فيها روح الحياة، فيشعر بالنهاية تزحف إليه، وهنا يصبح كل شيء لا قيمة له؛ فهو في طريقه إلى الزوال، والتمسك به نوع من العبث والسفه، لقد رصد النص مظاهر الانزياح التي أصابت هذا العجوز، انزياح الشباب، وانزياح القوة والحيوية، وانزياح المشاركة الفعالة في الحياة وديناميكيتها الصاخبة، والتحول الذي أصبح عليه هذا العجوز إيذانا بالرحيل عن عالم كان مشاركا في حركته بقوة وفاعلية (عاتقه مثقل بكل ما يحمله على كتفيه من أيام وصراعات وأحداث وأحلام وأمنيات).
ومن الملاحظ أن البنية اللغوية في هذا المشهد المكون من ثلاث لوحات قد ساهمت في إبراز فاعلية هذا العجوز في الحياة من خلال اختيار كلمات دالة، مثل الألفاظ (شوارع القاهرة – أيام – صراعات – أحداث – أحلام – أمنيات – أمراض – أوصال – كوارث – أخاديد – تفاصيل) وكلها ألفاظ جاءت جمعا للدلالة على الكثرة، فحركته في شوارع القاهرة لم تعد مثل زمان، وهذا يعني أن حركته في شوارع القاهرة كانت قبل ذلك حركة دائبة دائمة، وهو ما يتناسب مع كونه شابا يتنقل، ومع كون لفظ (شوارع) جمعا دالا بذلك على كثرة الشوارع التي كان يجوبها، وهذا يعني أنه كان فاعلا في حركة الحياة، ثم يأتي اللفظان (صراعات – أحداث) ليدلا على الكثرة أيضا سواء كانت هذه الصراعات وتلك الأحداث بينه وبين غيره، أو كان هو شاهدا عليها، أو متاثرا بها بشكل من الأشكال، أما اللفظان (أحلام – أمنيات) فيدلان على كثرة طموحات هذا العجوز، وفي مقابل هذه الكثرة التي شهدتها مرحلة شبابه نجد كثرة أخرى مضادة شهدتها شيخوخته (أمراض – كوارث – أخاديد – تفاصيل) فبقدر ما شهدت حياته من حيوية في البداية كانت الأمراض التي تآمرت عليه في شيخوخته، وهكذا استطاع النص تصوير ملامح حياة هذا العجوز في مرحلتيها: الشباب والشيخوخة؛ ليأخذ بذلك لفظ (رحلة) الوارد في العنوان بُعْدًا آخر، وهو أن الرحلة ليست من مكان إلى مكان فقط، ولكنها انتقال من مرحلة حياتية إلى مرحلة حياتية مختلفة، ولكل مرحلة سماتها، وهذا يعني أن النص يشير إلى أن الرحلة من زمن إلى زمن مختلف تستدعي تغيرا في الملامح المادية/الجسد، والملامح المعنوية/الروح، ثم يختم النص المشهد بفقرة دالة حين يقول: (أحلام شبابية عظيمة حملته على أجنحتها في عشرينياته، طارت به نحو تغيير العالم والتاريخ، لكنها في النهاية تقزمت لدرجة الانقراض. الآن لم يعد يتبقى له من شيء سوى عصا يحجل بها فوق أيامه المتبقية، وابتسامة عريضة مريحة يصدرها للعالم، ابتسامة تكشف بوضوح عن حالة فسيحة من الرضا والتصالح، والانفصال عن عالم الصراع والتشاحن والجدل) ويشتمل هذا المقطع على ثنائية ضدية واضحة طرفها الأول هو الماضي/عشرينياته، وما يحمله من أحلام ورؤى وطموحات يظن صاحبها أنه قادر من خلالها على تغيير العالم بأسره، والطرف الثاني من الثنائية الضدية هو الحاضر، وما يحمله من تراجع وانهزام أمام الزمن؛ فقد تقزمت أحلامه وانقرضت، ولم يعد يملك سوى عصا يتوكَّأ عليها، وسلام نفسي يتمثل في ابتسامة عريضة مريحة يصدِّرها للعالم، وهذا يؤكد البُعْد الذي أشرنا إليه في دلالة الرحلة، وهي الانتقال من مرحلة حياتية إلى مرحلة حياتية مغايرة تماما، بيد أن الفقرة السابقة تشتمل على جملة تشير إلى الصراع مرة ثانية، وهي (والانفصال عن عالم الصراع والتشاحن والجدل) وهو إعادة التركيز على فكرة الصراع مرة أخرى بعد الإشارة إليها سابقة في بداية النص، مما يوحي بأن العجوز كان شاهدا أو فاعلا بشكل أو بآخر في صراع ما في المجتمع.
إن الجزء الأول من النص يدور حول رحلة العجوز عبر الزمن، فهي انتقال من زمن الشباب بحيويته وانطلاقه وفاعليته وطموحاته وأحلامه التي لا تنتهي، وسلامة الجسد وقوته إلى زمن الشيخوخة بضعفه وعجزه وتكالب الأمراض، وانحسار الأحلام وتقزُّمها وانقراضها أمام سطوة الزمن، والوصول إلى مرحلة السكون التام التي عبَّر عنها النص بقوله (حالة فسيحة من الرضا والتصالح، والانفصال عن عالم الصراع والتشاحن والجدل) وقد كشف النص عن ملامح هذه الرحلة من خلال مشهد يتكون من أربع لوحات متتالية على مستوى السرد، ومن خلال ألفاظ دالة في العنوان؛ فقد اشتمل العنوان من حيث التشكيل اللغوي على ذلك التحول؛ فالعنوان هو (رحلة السيد العجوز) فهي رحلة من القوة (السيد) إلى الضعف (العجوز) ثم ينتقل النص إلى نوع آخر من الرحلة بمفهومها المادي، وكما رصد في بداية الرحلة الأولى ما يعانيه من تغيُّر فإنه يرصد في بداية الحديث عن الرحلة الثانية حالة الرتابة التي أصابت الحياة من حوله، وانحسار مفردات هذه الحياة وتضاؤلها بما يتناسب مع انحسار العمر وتراجعه وضعفه وانهزامه أما الزمن، فيقول (لم يعد يملك من عالمه سوى بضعة انفاس مريحه يحمد ربه عليها، وراديو ترانزستوستر مثبت على موجة وحيدة يتيمة وهي موجة اذاعة القرآن الكريم، يظل رحيقها يملأ غرفته البسيطة، يستدفئ وينتشي بتلاوة القرآن طوال الاربعة وعشرين ساعة من دون انقطاع) لقد تهمَّشتْ حياته على المستوى المعنوي من خلال تراجع حركته عبر شوارع القاهرة التي كان يملؤها حركة وحيوية، ومن ثم لم يعد يعرف شيئا عن عالمها الصاخب، وكذلك تهمَّشت الحياة بفعل مفرداتها القليلة التي اقتصرت على بضعة أنفاس مريحة يحمد ربه عليها، وراديو الترانزستور المثبَّت على موجة واحدة هي إذاعة القرآن الكريم في إشارة إلى الانعزال الفعلي التام عن معرفة أخبار الحياة وأحداثها وصراعاتها التي كانت جزءا من حياته وتكوينها، وفي إشارة أيضا إلى الاندماج في عالم روحاني ميتافيزيقي مبتعدا عن العالم المادي بكل تجاوزاته وانحرافاته، وقد عبَّر النص عن ذلك في قوله (هذا هو الشيء الذي بقى له في هذا العالم – في إشارة إلى حادث وفاة زوجته – مع عصاه، وذلك الراديو الترانزستور القديم وصوت إذاعة القرآن الكريم) ولم يعد له سوى رحلة يقوم بها مرة أو مرتين كل أسبوع يطالع شوارع القاهرة، ولكن رحلته هذه هي رحلة مشاهدة، وليست تفاعل (كذلك بقى له تلك الرحلة التي اعتاد على خوضها مرة وأحيانا مرتين كل أسبوع يطالع فيها شوارع القاهرة، ومحالها وناسها وأحاديث الناس. اعتاد أن يحجل متكئا على عصاه الى موقف الحافلات العامة المجاور لمنزله في هدوء وصمت بالغين، وحرص تام على عدم السقوط في الطريق الأسفلتي المترب المرصع بالحفر والمطبات العشوائية المفخخة التي يترصع بها الطريق) فالرحلة هي ليثبت لنفسه أنه مازال على قيد الحياة، وهي رحلة تأملية استكشافية لما آل إليه الزمن، وتمثِّل كذلك رأي الأجيال السابقة في الأجيال اللاحقة، وما أصاب المجتمع وأفراده من تغيرات أكثر منها رحلة استمتاع وتنزُّه بين شوارع القاهرة وميادينها، ولذلك قلنا إنها رحلة استكشافية، وهو ما يتناسب مع طبيعة المرحلة العمرية التي تتم فيها هذه الرحلة، وقد عبَّر النص عن ذلك بقوله (يطالع فيها شوارع القاهرة، ومحالها وناسها وأحاديث الناس. اعتاد أن يحجل متكئا على عصاه الى موقف الحافلات العامة المجاور لمنزله في هدوء وصمت بالغين) فالنص يقرُّ بأن رحلة العجوز من أجل مطالعة شوارع القاهرة ومحالها وناسها وأحاديثهم، ولكن دون أن يكون فاعلا أو مشاركا في ذلك، وهو ما يختلف عن رحلته الأولى التي عبَّر عنها النص بقوله في البداية (أحلام شبابية عظيمة حملته على أجنحتها في عشرينياته، طارت به نحو تغيير العالم والتاريخ) وقد وصف النص طبيعة الرحلة الثانية بأنها تتم في هدوء وصمت بالغين، وفي حرص تام على عدم السقوط في الطريق الأسفلتي المترب المرصع بالحفر والمطبات العشوائية، وبعد أن قدَّم النص توصيفا لطبيعة الرحلة وهدفها فإنه يقدِّم وصفا للرحلة نفسها فيبدأ بقوله (يلقي نفسه داخل أحد مقاعد الحافلة العامة بجوار الشباك الزجاجي، يترك حواسه لتعليقات الناس، ومعرفة آخر الأخبار، ومطالعة الشوارع والأحوال والمحال التجارية، كل ذلك من خلال زجاج الحافلة في رحلة الذهاب من موقف الحافلات بالقرب من منزله، إلى موقف الحافلات في الجانب الآخر، ثم يظل جالسا في مقعده لايحرك ساكنا في انتظار رحلة عودة الحافلة للموقف الأول؛ لكي يترجل حجلا الى المنزل) وقد استخدم النص لفظ (الزجاج) في إشارة واضحة إلى انفصال العجوز التام عن هذا العالم، وأنه لم يعد أحد عناصره الفاعلة، وإنما أصبح مشاهدا من خلف الزجاج، فالانسحاب من الحياة قد أصبح على مستوى الفعل/راديو ترانزوستور مبرج على إذاعة القرآن الكريم، وعلى مستوى الرؤية من خلال الاقتناع بالانسحاب ومشاهدة الأحداث من خلف الزجاج، وحتى في رحلة العودة لا يتحرك العجوز من مقعده الذي كان فيه، بل يظل جالسا في مقعده لا يحرك ساكنا في انتظار رحلة عودة الحافلة إلى الموقف الأول، إنه الانعزال التام عن الحياة والتفاعل فيها، والاكتفاء بمجرد المشاهدة وتأمُّل التغييرات التي أصابت المجتمع والشوارع، وكل شيء حوله، وحتى أولاده وأحفاده لم يعد يهتم كثيرا بتأخر زيارتهم (الأولاد كبروا، تزوجوا، غابوا في مشاكلهم وقيودهم .. لم يعد يكترث كثيرا بحضورهم المؤقت والأحفاد في حياته الحالية، اعتاد زياراتهم الروتينية الباردة. يمنحهم وأطفالهم كل الذي يملكه مع كل زيارة، يأخذ بضعة دقائق أو حتى ساعات يتمرغ فيها الأحفاد في حضنه وكفى) فالأحفاد يستمتعون، ولا يبدو من النص أن وجود أحفاده أو غيابهم يمثل همًّا يشغله أو يؤرق حياته، فلم يعد يكترث بحضورهم المؤقت؛ لأنه يعلم أنه سينتهي في نهاية المطاف وسيرحلون، ويعود إلى وحدته، ثم يرصد النص في النهاية التغير الذي أصاب المجتمع ومنظومة قيمه، فيقول (الحافلة تمخر عباب الشوارع والصراخ وسباب الناس لبعضهم، والوقت الذي يمضي من دون طائل في شوارع ضاقت بكل شيء، لم يعد فيها خرم إبرة، وعرق كثير مسكوب يحتج بقوة على ذلك النهار الصيفي الذي يحتفي بقهر الناس وغليهم داخل قدوره الرهيبة) فالفقرة ترصد مجموعة من التغيرات، منها التفكك الاجتماعي الذي أصاب شرائح المجتمع، فأصبحت متنافرة بعد أن كانت متناسقة مع بعضها البعض، وعدم تقدير قيمة الحياة والوقت الذي يضيع، واكتظاظ المدينة بالسكان وما يترتب عليه من آفات كثيرة، فالوقت يضيع دون طائل في شوارع ضاقت بكل شيء، والحياة تطحن الناس بأضراسها الرهيبة، وهم لا يشعرون بقيمة حياتهم، وقد عبَّر العجوز عن ذلك كله بقوله لنفسه وهو يتأمل كل شيء ( لقد تغير الزمن، وتغير الناس وتغيرت الأماكن والأحداث لكني لم أتغير) في إشارة واضحة إلى الثنائية الضدية بين حياته التي تشكَّلت في مرحلة سابقة وحياة المجتمع الحالية، وعدم رضاه عن الواقع الذي يعيش فيه الناس، وفي الوقت نفسه رضاه عن واقعه المنعزل عن هذه الحياة بكل مفرداتها، والاكتفاء بمشاهدة أحداثها وتأمُّل حركتها دون الاندماج فيها، وقد بدا ذلك كله في نهاية النص حين سأل الشاب الذي بجواره عن الساعة، ثم كان تعليقه " الحمد لله هالحق صلاة العصر، لسه بدري على المغرب" لم يكترث بشجارات الناس أو صيحاتهم، ولكنه كان مهتما بعالمه الذي تشكَّل في هذه المرحلة من عمره، والذي يحكمه الهدوء النفسي الذي عبَّر عنه النص في الخاتمة بقوله (حالة الرضا التي تتملك العجوز تتسع أكثر فأكثر، تكاد ترفع الحافلة على جناحيها وتطير بها حيث شقته القديمة التي تهالكت جدرانها وأثاثها، وكذلك وحدته القديمة، والراديو القديم، وصوت المقرئ الندي المنبعث من إذاعة القرآن الكريم ولا شيء غير ذلك) فقد أصبح عالمه متشكلا من شقته التي تهالكت جدرانها وأثاثها، ومن وحدته التي أصبحت ملمحا أساسيا من ملامح حياته، ومن الراديو القديم، وصوت المقرئ المنبعث من إذاعة القرآن الكريم، وكلها مفردات تنتمي إلى عالمه هو، وليس إلى ذلك العالم المتناقض المتنافر.
وسوف نتحدث في الجزء الثاني من الدراسة عن الرؤية الفكرية وتشابكات الأحداث، وكذلك عن المفاهيم المهيمنة على النص، وعن الشخصيات.
رحلة السيد العجوز
د . أحمد الباسوسي
حركته في شوارع القاهرة لم تعد مثل زمان، ثقلت، وهنت. عاتقه مثقل بكل ما يحمله على كتفيه من أيام وصراعات وأحداث وأحلام وأمنيات تبخرت كما يتبخر الماء المغلي في القدور.
أمراض تتآمر على ركبتيه وظهره وعموده الفقري ومعدته. وهنت عضلة القلب، قدرتها وحركتها تباطأت في ضخ الدماء الى اوصاله، انذرته عدة مرات بكوارث لكن الله سلم.
انتثرت اخاديد الزمن في خلايا وجهه ورقبته وذراعيه، ضرب الشيب في كل مكان يمكن ان يصل اليه في تفاصيل هيئته التي يصر دوما على الخروج بها الى الناس.
أحلام شبابية عظيمة حملته على أجنحتها في عشرينياته، طارت به نحو تغيير العالم والتاريخ، لكنها في النهاية تقزمت لدرجة الانقراض. الآن لم يعد يتبقى له من شيء سوى عصا يحجل بها فوق ايامه المتبقية، وابتسامة عريضة مريحة يصدرها للعالم، ابتسامة تكشف بوضوح عن حالة فسيحة من الرضا والتصالح، والانفصال عن عالم الصراع والتشاحن والجدل.
لم يعد يملك من عالمه سوى بضعة انفاس مريحه يحمد ربه عليها، وراديو ترانزستوستر مثبت على موجة وحيدة يتيمة وهي موجة اذاعة القرآن الكريم، يظل رحيقها يملأ غرفته البسيطة، يستدفئ وينتشي بتلاوة القرآن طوال الاربعة وعشرين ساعة من دون انقطاع. كذلك بقى له تلك الرحلة التي اعتاد على خوضها مرة وأحيانا مرتين كل اسبوع يطالع فيها شوارع القاهرة، ومحالها وناسها واحاديث الناس. اعتاد ان يحجل متكئا على عصاه الى موقف الحافلات العامة المجاور لمنزله في هدوء وصمت بالغين، وحرص تام على عدم السقوط في الطريق الاسفلتي المترب المرصع بالحفر والمطبات العشوائية المفخخة التي يترصع بها الطريق،
ثم يلقى نفسه داخل أحد مقاعد الحافلة العامة بجوار الشباك الزجاجي، يترك حواسه لتعليقات الناس، ومعرفة آخر الأخبار، ومطالعة الشوارع والأحوال والمحال التجارية، كل ذلك من خلال زجاج الحافلة في رحلة الذهاب من موقف الحافلات بالقرب من منزله، الى موقف الحافلات في الجانب الآخر، ثم يظل جالسا في مقعده لايحرك ساكنا في انتظار رحلة عودة الحافلة للموقف الأول لكي يترجل حجلا الى المنزل.
أصبحت تقاطيع وجهه الكمثري المضمخ بحمرة الجلد المحروق المكرمش الذي يكشف عن آثار الزمن التأديبية في خلاياه مألوفة لدى الناس في الطريق، وكذلك بدت تلك النظارة الطبية ذات الزجاج السميك الذي يطلقون عليه كعب الكباية والمعلقة بعناية على وجهه ومقفوشة على صيوان أذنيه المفرطحين، والمثبتة بارتياح على أرنبة أنفه الغليظة علامة واشية على حضوره المميز وهيبته وأناقته البسيطة، بالإضافة إلى التقوس البارز على ظهره والمنسجم مع حركته البطيئة الحجلى في الطريق، أصبح كل ذلك يمثل بالنسبة له علامات وألفة وود مميز له لدى غالبية السائقين والكمسارية وكثير من الوجوه التي تستخدم هذا الخط من الحافلات في ذلك التوقيت من النهار.
بعد صلاة الظهر مباشرة يظهر هذا السيد العجوز صاحب الشعر القطني الناعم، الذي أهمل تشذيبه وقصه لدرجة تطاير خصلاته متحررة تراقص الهواء وتمنح وجهه الأبيض المريح زخما هائلا من الوسامة والاعتداد بالنفس، اعتاد أن يظهر في هذا العالم وتلك البقعة من الأرض، يمضي في الشارع المتخم بالفوضى والعشوائية والوجوه القبيحة التي تصاحبه خلال رحلته الأسبوعية المعتادة. يمضي في طريقه مصطحبا عصاه وعباءته السمني الخفيفة فوق الجلباب الأبيض ومصطحبا أيضا معه أعواما ثمانين يسير في ظلها، متحررا من كافة القيود والعراقيل التي تحول كل تلك الأشباح التي تترجل حواليه إلى كائنات ممسوحة الملامح، غاضبة دائما وليس لديها يقين. الأولاد كبروا، تزوجوا، غابوا في مشاكلهم وقيودهم. لم يعد يكترث كثيرا بحضورهم المؤقت والأحفاد في حياته الحالية، اعتاد زياراتهم الروتينية الباردة. يمنحهم واطفالهم كل الذي يملكه مع كل زيارة، يأخذ بضعة دقائق أو حتى ساعات يتمرغ فيها الأحفاد في حضنه وكفى. غادرته امرأته فجأة ومن دون سابق إنذار ذات نهار صعب في أحد أيام الصيف منذ أكثر من عشرين عاما. كان في العمل في هذا الوقت، هاتفه جهاد أصغر الأبناء حينئذ، كان يصرخ مهلوعا " بابا ماما وقعت في المطبخ، موش بتتحرك خالص، مفيش حد في البيت"، انخلع قلبه، طار إلى المنزل. المكان مخنوق بالرعب والقلق والناس الذين هرعوا للمساعدة، كانت مسجاة على ظهرها بجوار موقد الغاز، الهدوء والراحة بادية على ملامح بشرتها البيضاء المبتسمة، حملوها إلى المستشفى القريب، لم تفلح ضربات القلب الهلعة من تغيير النتيجة والقدر، أبلغه الطبيب الشاب الذي وشت ملامحه عن مبلغ كبير من التأثر قبل أن يختفي من أمامه سريعا " المدام متوفاة منذ أكثر من ساعتين، واضح أنه هبوط مفاجئ وحاد في الدورة الدموية، شد حيلك". رياح تلك الذكرى عندما تزوره تعرقل من حركته وتطفئ وجدانه وعيونه. هذا الذي حصل اليوم أثناء اختراق الاوتوبيس شوارع القاهرة، وانتشار الجلبة والضوضاء حواليه، رياح الذكرى السوداء منعته من التحديق كالمعتاد في الشوارع والناس، بدت الشوارع والأرصفة أمام عينيه كأنها خلت من الناس ومن الحياة، بل أن الحافلة ذاتها التي يركبها كأنها لاتتحرك. استسلم لقدره الذي اعتاده. ترك نفسه تسبح في ملكوت الأيام الغائمة، وعطرها الذي يحتويه، هذا هو الشيء الذي بقى له في هذا العالم، مع عصاه، وذلك الراديو الترانزستور القديم وصوت إذاعة القرآن الكريم. توقفت الحافلة في الميدان الفسيح، نزل جميع الركاب سواه، صعد آخرون، تغيرت وجوه الناس واسمالهم واصواتهم، ملامح الباعة الجائلين اختلفت واختلف معها بضاعتهم الرخيصة ونداءاتهم لجذب الركاب للشراء، بقيت فقط رائحة العرق لم تتغير رغم اختلاف الاجساد. كأن الحركة في الميدان والضوضاء المنبعثة من عشوائية السلوك وعدم انضباط الحركة والناس تمنح زخما للحياة من نوع مميز جدا، كأنها تبعث في الأرواح التي قبضتها الذكريات والأيام السوداء قبلة حياة جديدة لكي تستعيد ألقها وطبيعتها. كأن ذلك هو ما حدث بالضبط للسيد العجوز سجين المقعد داخل الحافلة العامة. الرجل استفاق على صوت الجلبة وحوارات الناس مع أنفسهم، وفي هواتفهم النقالة بصوت مرتفع، ونداء محصل التذاكر له بصوت مرتفع معتقدا ان سمعه ضعيف " تذاكر" ، خرج من غفوته، اعتدل في جلسته مفسحا مكانا أوسع للشاب الصغير المنكمش بجواره. دارت السيارة في رحلة العودة، تعلقت معها ابتسامة العجوز المريحة المعتادة، انتفضت خلاياه بتلك الفرحة الداخلية التي تفجرها هذه الابتسامة الرائعة التي تكسو وجهه الرائق، وهدوءه اللافت الذي يكشف عن طبيعة هائلة في السيطرة والتسامي، والارتقاء بعيدا عن ترهات البشر الطبيعيين.
الحافلة تمخر عباب الشوارع والصراخ وسباب الناس لبعضهم والوقت الذي يمضي من دون طائل في شوارع ضاقت بكل شيء، لم يعد فيها خرم إبرة، وعرق كثير مسكوب يحتج بقوة على ذلك النهار الصيفي الذي يحتفي بقهر الناس وغليهم داخل قدوره الرهيبة. تثبت بصر العجوز على زجاج الشباك المنفرج قليلا يطالع في رحلة العودة كل شيء، يتأمل كل شيء، يقول لنفسه في وداعة لافتة " لقد تغير الزمن، وتغير الناس وتغيرت الأماكن والأحداث لكني لم اتغير"، التفت الى الشاب الصغير المنكمش جواره سأله عن الساعة؟، أصابع الشاب كانت تعبث في الهاتف النقال وعيون مخزوقة في شاشته المضيئة، أخبره بسرعة وبغير اكتراث أو انفعال " الساعة اربعة ونص ياجدي". تطلع الى وجهه في هدوء وامتنان، صدرت عنه شهقة مريحة تنم عن فرحة وانتصار، قال لنفسه " الحمد لله هالحق صلاة العصر، لسه بدري على المغرب". طريق الحافلة متعسر، الزمن ينفلت، حالة الرضا التي تتملك العجوز تتسع أكثر فأكثر، تكاد ترفع الحافلة على جناحيها وتطير بها حيث شقته القديمة التي تهالكت جدرانها وأثاثها، وكذلك وحدته القديمة، والراديو القديم، وصوت المقرئ الندي المنبعث من إذاعة القرآن الكريم ولا شيء غير ذلك .






تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى