محمد بشكار - بَّا حسن رحيلٌ ما قَبْلهُ أو بَعْدهُ يُتْم !

حين انتقل المنيعي لحياة أخرى ربَّما أفضل مما تَعيشُنا، قلتُ هذا رجلٌ لا يمكن أن نترك رحلته الأخيرة دون وثيقة للتاريخ، وعِوض الأكفان التي تلفُّ في آخر الحياة كل إنسان، فكَّرتُ في عدد خاص حول رائد النقد المسرحي وأستاذ الأجيال، ولا أُماري أو أُداري إذا أمْعنتُ في القول إنَّ الدكتور حسن المنيعي رحمه الله بخفَّة روحه أكبر من كل الألقاب، فاهْتديتُ إلى أن أسْتعين بطائر من نفس السِّرْب يُجيد التَّحليق في الأفق الأدبي والفني وله علاقة ببني عشيرته المسرحيين، ووقَع الاختيار على الصديق الفنان المسرحي بوسلهام الضعيف الذي جَمَّع مشكوراً مواد هذا الخاص حول المنيعي، ولم أكن أعلم أنَّ اتصالي الهاتفي سينْقُلني عَصْرئذٍ مباشرة إلى الجنازة المهيبة لعاشق المسرح، فاستجمع بوسلهام قِواه وحدَّثني من هنالك بصوت أجش خافت كما لو يأتي من البرزخ، شعرتُ بالدمعة تسبق كلماته تأثُّراً برحيل بَّا حسن، فما أقسى فراق الأصدقاء على قِلَّتهم وما أمَضَّ ما يُخلِّفه اليُتمُ في الفؤاد من شجن !

لستُ مسرحياً رغم أني أعيش في زمن الأقنعة التي كشفتْ كل الوجوه، لكن طيِّبَ الذِّكْر وعميق الفِكْر يأتيك شذاهُ العطر ولو لم تلْتقِه شخصياً على خشبة الحياة، وما أبْلغه أثراً في النفوس ذلك اللقاءُ الذي يكون رمزياً عبر ما يبُثُّه من أفكار تسكن الكتب كما في أرواح مُريديه، وليس التَّعامل مع الأفكار كعلاقتنا بالإنسان الذي لا نعرف من أي طينة هو معجون، لكن مع حسن المنيعي لا أعرف لماذا أشْعر كأنْ لا كُلفة بيننا، وأحببتُ أن أناديه بنفس نداء أصدقائه " بَّا حسن" كما لو نشعر جميعا في حضرته أو في الغياب باليُتم، ربما لأن المنيعي مُتمنِّع عن التَّصنيف وأكبر من كل الألقاب بعد أن بِيعت مع الضمير في السوق السوداء، وبعد ما حاق بقيمتها الأدبية من أعطاب !
المنيعي مُتمنِّعٌ أيضا عن الرؤية، وليْس من الصِّنف الذي يبْتذِل نفسه العزيزة كبعض الكراسي التي نراها مُقْعَدةً دائماً، وعلى كثرة اللقاءات الثقافية التي حَضَرْتُها تلبيةً لمهنتي كصحافي، لم تُكْرِمْنِي الصُّدْفة بمصافحة هذا الرجل، ولن يحتاج الزائر للبحث عنه في قاعة إحدى الندوات واسمه يتردَّد في كل بحْثٍ حول المسرح المغربي، ومن ضيَّع الطريق ولم يَجِد باب الخروج من الشِّعاب النظرية لهذا الفن، وصار لا يُفرِّق بين القُبْح والجمال، فالمنيعي هو المرْجِع !
لنْ أسْتعرِض المسار الأدبي والثقافي لهذا الناقد والباحث المسرحي والجمالي، فهو بمؤلفاته التي أغنتْ الخزانة الأدبية عَصِيٌّ عن كل إحصاء، هو الأكاديمي الذي فرَّق مُبِّكراً بين السقف الوطيء وسِعة الأفق الفكري، لذلك التحق بجامعة السوربون فاقتطف من سلكها الثالث دكتوراه عام 1970، ثم دكتوراه الدولة سنة 1983 من نفس الحرم الجامعي، وهو "بَّا حسن" الذي أحاط بأبويَّته الدافئة كل الطلبة الباحثين فجرى نبعُه في قرائحهم بأبلغ الدروس التي دلَّتْهُم على مكامن الجمال في الحقل المسرحي، وهو الأسْمر ولا ينقصه إلا لقب العندليب لأن غناءه ليس بالصوت ولكن بنبض القلب الذي اتسع لكل راغب في العِلم، هو الحازم في موضع الحزم مع طلبته الذين لا يريدهم بما تلقنوه من مناهج ومفاهيم أدبية أن يتخرجوا خطأ شائعاً، وهو في ذات التَّعامل الخالي من جراح، بشوشٌ خفيف الروح حين يأتي أوانُ المِزاح !
ألمْ أقل إنَّ المنيعي رحمه الله مُتمنِّع عن التصنيف، وقد اسْتبق بذكائه الشعوري زمنهُ مُدْركاً أنَّ اللعب أنْجعُ وسيلة للاستمرار على خشبة الحياة، وكان المسرح أحد أشكال هذا اللَّعب الذي يجعل المَرْءَ لا يفقد حِسَّه الطفولي ليلتحق بنُخبة الكِبار، لذلك نجد المنيعي لا يَني مُجدِّداً في تفكيره مُواكباً لأحدث التَّقْليعات الأدبية غير عابئٍ بلقب أستاذ الأجيال، وقد تجاوز في لعبه مع تحوُّلات الزمن دون أن يمتطي جحْشاً ذهبياً، النص المسرحي إلى ما بَعدَه مُعتبراً أنَّ الخطاب الحقيقي يكْمُن في قُوة الأشكال التعبيرية المُبْتَكرة والناتجة عن العرض، فلا معنى للنص دون تجسيد سينوغرافي بليغ كما لا يمكن رؤية الروح دون إيماءات الجسد، كذلك هي روح المنيعي لا يمكن ملاحقتها وقد ظفرتْ بحياة لا تنتهي بالسنوات وتعيش للأبد!


..........................................

افتتاحية ملحق "العلم الثقافي" ليوم الخميس 3 دجنبر 2020، ويضم هذا العدد ملفا خاصا غنيا بشهادات و قراءات ودراسات تقف حائلا دون رحيل عميد النقد المسرحي المغربي الدكتور حسن المنيعي.



1607116998228.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى