خير جليس محمد بودويك - عودة إلى «سرقة» الكتب، وهل هي جُرْمٌ أم فعلٌ حلالٌ؟

لم تكن إشارتي إلى « امتهاني» السرقة « البريئة»، والإغارة « المشروعة» للكتب والمجلات كما كان يفعل رهط « غزير» من أترابي وأقراني، وزملاء ورفاق سمائي الأولى: سماء مدينة جرادة كما ينبغي التذكير؛ لم تكن تلك الإشارة المغرقة في التلقائية والبراءة، والمدفوعة بوخز الحاجة، والرغبة الفائضة واللذيذة في الاطلاع والتحصيل، وتنمية العقل والوجدان بما كانت تقصر عنه المدرسة، وتتخلف عنه البرامج والمناهج البيداغوجية المرصودة للإدماج وإعادة الإنتاج؛ فجملة معتبرة من الوقائع والأحداث والأفعال الموصوفة بالسرقة، سجلت، تاريخيا وواقعيا، هنا وهناك، أفعالا « إجرامية « اقترفها ذوو الجاه والمال، والمكانة العلمية والدبلوماسية، والأدبية، ما يجعل « سرقتي» مبررة، بل تتصف بالذكاء والدهاء، والألمعية، و» المشروعية».
ثمة حاجة خفية لا تفسير لها، تحرض على سرقة الكتب، واختطاف العناوين البراقة الجذابة، والمحتويات والمضامين ذات العلاقة بالقضايا الإنسانية الكبرى، والقيم والمُثُل الكونية العليا التي تصنع الإنسان، وتجعله قمينا بحمل صفته، وجديرا بآدميته التي تغير وتطور وتبدل الواقع والمعيش، والوضع الاجتماعي العام من حال إلى حال وَفْقاً لبحثه الدؤوب، ونبشه المعرفي الفضولي الذي لا ينتهي، والذي أوصله إلى ما هو فيه، وحقق له ما حقق. ولايزال في الجعبة العلمية الكثير، وفي قدح زناد الفكر والتجريب، الوساعةُ والشساعةُ، والفُجاءةُ، وما لاَ يَرِدُ على البال.
لم أكن بِدْعاً ولا متفردا، ولا وحيد زمانه في الإغارة والسطو على الكتب، كتب بأعيانها معروفة لديَّ، تجلوها أوضاعها، وعناوينها، وجاذبيتها، وجوعتي التي لا تحد، تماما كالنسر المحلق في الأعالي وعيناه الحادتان الثاقبتان تفتشان ـ دونما هوادة ـ عن وجبة مغذية وازنة ودسمة، تشبع البطن، و» تُرَوّقُ « الحوصلة والمزاج، ولْتَكُنِ تلك الوجبة أرنبا بريا سمينا شهيا، أو جُرْموزا، أو هِجْرساً بلا حول، أو جرواً، أو شبلا هزيلا بالكاد يخطو، او غزالا مثيراً. الوجبات كثيرة منوعة ملء السمع والنظر، والاختيار ذوقي ونوعي، ووجودي حتى.
وهاكم أدلة على « لصوص « الأشجار المحولة والمصبوبة في أوراق تحمل الثقافة، وتحضن المعرفة، والقيم، والجمال. لكن، عليَّ أن أضيف إلى السرقة المُنْتَواةِ والفعلية، ما نسميه: استعارة الكتب. إذ أن استعارة كتاب من عند صديق(ة)، أو من مكتبة عمومية، وعدم رده، أو المماطلة والتلكؤ في رده تعويلا على نسيان صاحبه أو مصدره، يندرج ـ في تقديري ـ في باب السرقة، ولو أنها سرقة « مخففة « يشفع لها وجود الطرفين، وحضور « قواهما العقلية «، و» كرمهما « الأدبي.
تساءل المصري الراحل أنيس منصور، في أحد أعمدته الشهيرة التي كان يكتبها في صحيفة
( الشرق الأوسط ): سرقة الكتب، هل هي حرام؟. حيث روى أن المستشرق الألماني باولْ كْرَاوْسْ الذي عاش في مصر، والذي توفي فيها منتحراً العام 1944 ، وُجِدَ لديه، بعد انتحاره، كتبٌ كان استعارها من مكتبة الجامعة، ومن مكتبات أخرى. وزاد أنيس منصور قائلا: ( لقد تعمد ذلك، ونصحنا أن نفعل مثله ).
وخصص الروائي الأرجتنيني ألبرتو مانغويل، في كتابه الهام: « تاريخ القراءة «، فصلا كاملا عن سرقة الكتب، يذكر فيه أن دوق ليبري، وهو عالم رياضيات إيطالي اشتهر بسرقة الكتب، والمخطوطات النادرة من المكتبات العامة في فرنسا، ثم ببيعها على أرصفة نهر السين. وحسب ما يرويه مانغويل ، دائما، ففي برشلونة، هناك مكتبة تسمى « سان بيدرو» عُلِّقَ ـ عند مدخلها ـ تحذيرٌ على شكل دعاء، جاء فيه: « من يسرق كتبا، أو يحتفظ بكتب كان قد استعارها، عسى أن يتحول الكتاب الموجود في يده إلى أفعى رقطاء، وعسى أن يصاب بشلل ارتجافي قاهر، وأن تشل جميع أطرافه.».
وإذا كان هذا الدعاء « دينيا ميتافيزيقيا» في مبطنه، فإنه يدل في ما يدل عليه: أن سرقة الكتب كانت جارية من زمان، وأن القَيّمين على المكتبة، على التوالي، كانوا يكتشفون، وهم يصففون الكتب المستعارة وغير المستعارة، ويرقمونها، ويضعونها أو يعيدونها إلى رفوفها، نقصا قد يقل وقد يكثر، ما يعني في الخلاصة: يكتشفون أن « سُرّاقا ّ» زاروا المكتبة كقارئين أو منقبين، أو مستعيرين، فاقتطفوا الكتب، واقتطعوها من شجرتها تَقَصُّداً، وعن سبق إصرار وترصد.
الولع بالكتاب، والهيام به، بكاتبه وكاتبته، هو ما يغري باقتراف الحب في حقه، أكان هذا الحب عن طيب خاطر، ونعيم جيب، أو كان سطوا وخطفا، وقفزاً وتخطيا للسياج والأسوار مهما علت وارتفعت. إنه الولع الذي يستوي ويتساوى فيه ذو الحاجة، والمبطور ذو الجاه والمكانة. فالعملية ، أولا وأخيرا، ليست سوى لعبٍ ولهوٍ: لعب أطفالٍ و» عيال «، وإِنْ كبروا وشاخوا.

محمد بودويك


بتاريخ : 06/11/2020

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى