د. السيد إبراهيم أحمد - يوميات مُهاجِر "غير عادي" في بلادِ الجنِ والملائكة..

من الروعة بمكان أن يفتح إنسان خزائن قلبه بما تحتويه من أسرار وذكريات لا تقف كلها على درجة واحدة من السعادة والحزن، غير أن أهميتها تكمن في إتاحة الفرصة عن رضا لكل الناس مهما اختلفت درجاتهم ومقاماتهم المجتمعية والعلمية والدراسية أن تدخل عوالم مجهولة لم تحلم يوما بدخولها.

من هذا المنطلق تأتي "يوميات مهاجر في بلاد الجن والملائكة للمفكر" الموسوعي العالمي بروفيسور محمد حسن كامل رئيس اتحاد الكتاب والمثقفين العرب، وهو الذي عُرِف عنه الجمع بين العلمية والشخصية الهادئة والبروتوكولية التي اكتسبها من الحقل الدبلوماسي، والعمود الفقري لتلك السمات يورث الرجل الكتمان الشديد فلا يكاد يبوح إلا بما يريد، ولهذا أصبح يحف سيرته الذاتية "غير المكتملة" بالكتمان والانتقائية، فيبوح بما أراد في نقطة يراها هامة له وللقارئ ثم يقفز قفزة واسعة إلى محطة رئيسية له هامة ويراها كذلك للقارئ؛ فهو يؤمن إيمانًا جازمًا بالخصوصية وأن حياته لا يهم القارئ منها إلا بما يبوح هو به ويسمح.

تتميز شخصية المفكر محمد حسن كامل المصري الجنسية، السكندري المولد، الفرنسي الإقامة بغزارتها الفكرية، وتعددها الثقافي، وانفتاحها على العالم بشرقه وغربه، تنهل من الأدب، وتَعُبُ من العلم، دون خوفٍ أو ملل، وبإقبالٍ لا يعرف الكلل، وتحت كل عنوان كبير من تلك التي ذكرناها تتشعب روافد كثيرة لا يهملها الرجل بل هو دؤوب على امتطاء صهوتها في حبٍ وشغف.

والسؤال المهم الذي يجب أن يطرح:

ما الذي يجعل يوميات الدكتور محمد حسن كامل مختلفة عمَّا كتبه غيره عن فرنسا؟!

والإجابة عن هذا السؤال، الهام بالفعل، تكمن في أن هذه اليوميات مختلفة قطعًا عن غيرها، علاوة على السبب الذي ذكرتُه آنفًا، وما سأذكره من أسباب أخرى، منها:

أولها: أن الرجل خالط أغلب أهل العلم والسياسة والفكر وأصحاب اتخاذ القرار في بلدان كثيرة بغض النظر عن جنسياتهم أو دياناتهم أو لغاتهم أو انتماءاتهم سواء كان ذلك باضطرارٍ منه نظرًا لطبيعة عمله، أو رغبة ملحة تدفعه بحسب غريزة الاستكشاف المولود بها إلى مد جسور التواصل معهم.

ثانيها: أن الرجل متوسطي الثقافة ينتمي إلى ثقافة البحر المتوسط التي تربط بين ثقافتين: ثقافة شمال المتوسط وهي "الثقافة الأوروبية/الغربية، وثقافة جنوب المتوسط وهي "الثقافة العربية/الإسلامية"، وهو بحق خير من يمثل الثقافتين معًا لأنه يتمثلهما ميلادًا ومُقامًا، حيث شهدت الثقافة العربية/الإسلامية ميلاده وتكوين بنيانه الفكري، بينما شهدت الأخرى مقره عملاً وسكنًا وتأثرًا وتأثيرًا بدا جليًا في تطوره الفكري الذي ازداد انفتاحًا وتسامحًا وقبولا للآخر.

ثالثها: أن للرجل اهتمامات واسعة بالأدب والفكر والفلسفة والفن من حيث الدراسة واهتمامه بالعلم استئناسًا ودراية، وله تجربته الطويلة مع السياسية في أروقتها ودهاليزها عبر الاجتماعات المفتوحة، والقاعات المغلقة في السفارات والقصور.

رابعها وآخرها: أن الدكتور محمد حسن كامل لم يكن مغتربًا عاديًا؛ فهو لم يغادر بلاده هربًا من ملاحقات أمنية أو سياسية أو جنائية، ولم يكن هاربًا من ظروف معيشية حالكة إلى حياة جديدة رغيدة، فقد اتخذ قراره باختياره، وعاش في بلد المهجر دارسًا ثم موظفًا رسميًا ثم أكاديميًا، قيمته الفكرية تكمن في أنه شرقيٌ درسَ بلاده، ثم غربيٌ بمقامه ونهجه الفكري الجديد فتمثل الثقافتين والحضارتين خير تمثل.

هذه الأسباب ـ ولا شك ـ تعطي ما سرده المفكر حسن كامل نكهة ذات مذاق غير عادي لمهاجر غير عادي بلا أية مبالغة، كما أن ما يجعلها أكثر جاذبية وتميزًا هو ما ذكرته سابقًا من كونه رجلًا صاحب أسلوب متميز، متفرد، دالًا عليه، مغلف بكثير من الخصوصية الأدبية الذاتية التي تشير عليه دون مواربة، ويبدو هذا في عناوين يومياته التي يهيمن على أكثرها خفة الدم المصرية الحاضرة، والثقافة التي تتخللها، والتنوع في المشارب، ومنها: "العشاء الأخير"، "أحلامُ الصبا"، "وهبط الحب من السماء"، "سنة أولى هجرة"، "مناجاة بين النيل والسين"، "مع شوقي في باريس"، "غَيْر حياتك بجنيه واحد"، "أمُ الدنيا بلدي"، "وأشعل لامارتين الحب" وغيرها مما سيرد ذكره في هذا الكتاب الهام لمكتبتنا العربية، لأنه سيلقي أضواءً كاشفة على مناطق تبدو باهتة أو ناقصة ونحن نتكلم عن علاقتنا بالغرب، وقد تزيدنا فهمًا في عصر بات الحديث مع أو عن الغرب من ضرورات حياتنا في عصرٍ تسوده العولمة والحوار والتواصل والتشابك.

إن الدخول في عوالم يوميات المهاجر "الغير عادي" بروفيسور محمد حسن كامل، سيثري الفكر، ويزيد المعرفة، ويوسع الحدقة البصرية والعقلية، ومدى الرؤية الذاتية، وقراءة الغرب قراءة واعية واعدة، لأنها تتصل بروافد كثيرة من التاريخ والسياسة والفن والعاطفة وأدب الرحلات، كما تغطي مساحة زمنية قاربت على الأربعين عاما من الإقامة الكاملة بباريس وأوروبا وبلدان أخرى، ولهذا فهي من الأهمية بمكان على المستويين الإنساني، والفكري.

كان من المفروض أن تكون هذه المقالة مقدمة لكتاب يحمل عنوان: "مهاجر في بلاد الجن والملائكة" للبروفيسور محمد حسن كامل، غير أن الكتاب لم ولن يرى النور؛ فقد وافى كاتبنا أجل الله المحتوم في زيارته الأخيرة لبلده مصر، وكان قد أبلغني عنها قبل أن يترك بلاد الجن والملائكة ليستقر ببدنه في عاصمة وطنه "القاهرة" بعيدًا عن محل ميلاده "الإسكندرية" ومحل إقامته الدائم "باريس"، مودعًا سنوات الهجرة الطويلة وراسيًا بقارب العمر عند المرفأ الأخير.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى