كفاحنا من اجل الحياة شغلنا عن التفكير في المثل العليا للحضارة
ألبرت اشفيتزر
توطئة
لم تشغل البشرية منذ منتصف القرن الثامن عشر وحتى وقتنا الحاضر بأمر كانشغالها بأمر الحضارة. فقد أخذت المؤلفات تتدفق على الأسواق بشكل لم يسبق له مثيل، لإثبات حقيقة بقاء الحضارة، أو ذهاب هذه الحقيقة عن أرض الواقع.
وقد كتب لبعض الجهود البسيطة النجاح في تحليل الواقع الحضاري للأمم الإنسانية بسبب إخلاص نواياهم في العمل، ولقدرتهم على خوض غمار هذا الموضوع، في حين سجلت الغالبية العظمى الفشل الذريع لأنها وضعت نفسها في تيار الحاضر الذي تحياه دون النظر للماضي الذي عاشته الحضارة بين الأمم السابقة، ولخطأ الأسس الذي نهض عليه تفكيرهم لمفهوم الحضارة ومقوماتها.
وفي غمرة الحياة الحاضرة، تكاتفت عوامل متنوعة، اقتصادية، سياسية، علمية، روحية، فلسفية، لإشهار الإفلاس الحضاري في العالم اجمع. ونسيت تلك العوامل أنها المسئولة أولا وأخيرا عن هذا الإفلاس أو تناسته، حتى لا تحمل نفسها أدنى مسؤولية في ارتكاب هذه الجريمة الشنعاء.
وليس من السهل على المرء أن يحمل العلوم أو الفلسفات مسؤولية الانهيار الحضاري، إلا إذا امتلك الأدلة المقنعة على أن الانهيار حدث دون شك بفعل هذه العلوم وتلك الفلسفات. ولكي يتسنى لنا إثبات ذلك، فإننا سنحتاج لبحث ضخم نستعرض من خلال صفحاته تاريخ الحضارة من محاولة تحديد نشوئها، إلى الأحداث التي ساعدت على ازدهارها وارتقائها، وحتى سقوطها وتلاشيها. وبما أن هذا الأمر ليس هو المقصود من بحثي في الدرجة الأولى. بل المقصود نقد كتاب " ألبرت اشفيتزر " المعنون ب " فلسفة الحضارة " فاني سأحاول وضع الخطوط العريضة لأسباب الانهيار الحضاري كتوطئة للدخول بالبحث النقدي، وسأحاول خلال تعرضي لنقد الكتاب التوسع ببحث بعض الخطوط بما يتناسب مع الموضوع.
من الصعب تحديد نشوء الحضارة على هذا الكوكب الأرضي، لافتقارنا للمعلومات الواسعة الشاملة عن ماضي البشرية في الأزمان الغابرة السحيقة، وعن تفاصيل تطلعاتهم الحياتية آنذاك للكون والإنسان، عنصري الحضارة الرئيسين، فمع كل ما نملك من أدلة أتت لنا عن الكشوف الأثرية، يعطينا صورة بعض الشيء عن العمل الإنساني، ولكنه لا يمنحنا بصيصا من نور عن التفكير الذي كان سائدا في تلك الآونة. ومع أن العمل الإنساني قادر على عكس الحالة الفكرية للإنسان العامل، فانه لا يصل بنا إلى درجة اليقين والثبات على دروب البحوث التحليلية الوافية لفكر الإنسان السابق.
ولكننا نستطيع أخذ التاريخ القديم والكشوف الأثرية كعامل مساعد على إثبات وجود الحضارة كأمر حتمي حين انتقل الإنسان من بدائيته الأولى عندما كان يعيش في تجمعات صغيرة محدودة بالعائلة بمعزل عن أبناء جنسه الإنساني، للعيش ضمن جماعة كبيرة تشكل وحدة إنسانية متكاملة متعاطفة متضامنة لإثبات وجودها الأسمى على هذه الأرض. من هنا نستطيع القول والزعم: بان الحضارة بدأت جذورها الأولى منذ أقدم الأزمان وأبعدها. لأن التجمع وحده دليلا على الحضارة.
وفي تلك الأزمان الغابرة، كانت حياة الإنسان يسيرة بسيطة، غير معقدة، ولا تحتاج كبير جهد لفهم الواقع المحدود الذي يحيا به الإنسان. وكان عليه حين يود صنع آلة تساعده على تطوير حياته أن يبدأ بصنعها من أصولها خطوة خطوة، حتى يصل بها إلى شكلها النهائي الذي يرتضيه، الأمر الذي يجعله يشعر بإبداعه العملي وربوبيته للصنعة التي صاغها بجهده ونصبه. وكان التعامل السائد بينه وبين الطبيعة تعاملا مباشرا يزيده اطمئنانا وسعادة، ولم يكن حتى ذلك الوقت قد ظهر التنظيم الهيكلي للمجتمع المؤطر، مما ساعد الحضارة على الترعرع بأحضان تلك التجمعات بشكل غريب في السرعة دقيق في السلامة متناه بالاستقامة.
ولما اتسع نطاق تلك التجمعات وتكثف، ظهرت الحاجة الماسة لإيجاد نوع من البنى الأساسية للحياة الاجتماعية من اجل مواجهة أفضل للمصاعب الجديدة التي بدأت تواجه الإنسان، فظهرت بدلا من التجمعات "مجتمعات" سكنية ثابتة أو متنقلة، لكنها متماسكة من حيث معتقداتها وأرائها الفكرية، ونوع سلوكها الاجتماعي، وتقاليدها، وعاداتها، ونشأ بين هذه المجتمعات نوع من العداء والضغينة والتحاسد، أدى إلى نشوب الحروب بينها بسبب اختلاف الاعتقاد وتباين الآراء. فكان لابد من انتهاج سبيل جديد يوقف النزيف الحربي بين المجتمعات، لإتاحة الفرصة للإنسان أن يحيا بهدوء وطمأنينة. وقد أدى هذا إلى ظهور المصلحين والفلاسفة والكهان والعلماء، الذين أتاحوا بفضل ظهورهم للحضارة استمرارية النمو والتطور بنفس السرعة والسلامة والاستقامة.
فظهور رئيس المجتمع- الذي عادة ما يكون عالما أو كاهنا أو فيلسوفا- دليل على نمو وتطور المفاهيم الحياتية لدى الإنسان، واتساع مداركه لكل جديد يستطيع أن ينتقل به من ركود إلى انطلاق، ومن استعباد إلى تحرر، ومن جاهلية إلى حضارة.
وكان فضل الله عظيما ورحمته واسعة، حين منً على العباد برسل اصطفاهم من بني خلقه، ليبثوا المفاهيم والسلوكيات التي وصلت بالحضارة إلى أقصى ما يمكن أن تصل إليه. لأن الرسالات السماوية استطاعت أن تلبي للإنسان كل احتياجاته من كافة جوانبه، الروحية، المادية، والفكرية، واستطاعت كذالك تلبية كل هذه الاحتياجات على أساس إنساني. فقد عرفت الإنسان بأصله و مصيره، و الهدف من خلقه بإسهاب و تفصيل، و عرفته بأصل الكون و نشأته و مصيره بكل دقة و كمال. ثم انطلقت توضح للإنسان كيفية بناء الذات القادرة على كبح جوامح النفس و نزعاتها الإنسانية، وحددت سلوكياته كفرد مع نفسه ومع غيره ممن في المجتمع من أفراد، وحددت سلوكية الدولة مع غيرها من الدول التي لا تدين بنفس الدين. فكان أن ازدهرت الحضارة وعلا شأنها كما لم يعلو من قبل، وتماسك المجتمع و صلب، وتخلص من كل أدرانه و استر خاءاته وتناقضانه التي كانت تعيق تقدمه الحضاري.
ثم بدأت الحضارة تضعف شيئا فشيئا بسبب ابتعاد الإنسان عن مبادئ الأديان، تلك المبادئ التي تمثلت برسالة الإسلام الخالدة، تلك الرسالة التي نسخت جميع الرسالات التي سبقتها لتبقى ثابتة غير قابلة للتغيير في أي زمان ومكان. و ما أن ظهرت الثورة الصناعية ثم الثورة التكنولوجية حتى أنفصل الإنسان عن مبادئ الأديان انفصالا تاما، فارتدت الإنسانية للوراء و رجعت الحضارة القهقرى. لأن الثورة التكنولوجية ركزت على الاتجاه المادي في التقدم دون أن تعير الجانب الروحي أي التفات، وكان التقدم المادي غاية في السرعة إلى حد لم يستطع الإنسان إستيعابه واحتواءه، فأصبح الإنسان غريبا على ذاته و على أحداث مجتمعه، و استشرى داء هذه المعضلة و ظل سائرا على نفس المنوال مما أدى إلى ضياع ذاتية الإنسان و إنسانيته، وهما أسمى أمرين لثبات ونهوض الحضارة. وأصيبت البشرية من جراء ذالك بفراغ روحي لم تعهده من قبل.
و قد أدى هذا الفراغ الروحي العميق إلى تعطش الناس لأي قطرة إنقاذ. فانتهز كثير من الكتاب و الفلاسفة و العلماء _ بعد أن أصبحت العلوم مجزأة كل علم قائم بذاته _هذا الفراغ، و وجدوا الفرصة سانحة لطرح أي جديد على البشرية، و بدأوا بإرسال مذاهبهم على هواها، وفلسفاتهم على نزواتها وعلومهم على علاتها، بلا أي وازع من ضمير، أو أي حرص على مستقبل البشرية الحضاري.
و التفت الناس، فوجدوا أنفسهم حائرين بأي المذاهب يأخذون، وتعقدت عليهم الأمور بنفس التعقيد الذي أحدثته الثورة التكنولوجية من الناحية المادية. فلم يسعهم الأخذ من المبادئ إلا ما يوافق ميولهم و أهوائهم، فانقسمت البشرية إلى كثير من الكتل المتنافرة، و بدأ التناحر و انتشر الحقد، وعمت الفوضى و استولى على مجامع القلوب حب السيطرة، فاشتعلت الحروب و أهدرت كرامة الإنسان، وأصبح كما كان سابقا في بدائيته، مفلسا من كل القيم، وخال من كل المثل. إلا قيم الدمار، و مثل السيطرة. فكان نتيجة ذلك، أن تقوضت أركان الحضارة.
هذه _ باختصار شديد _ نبذه عن الحضارة، مفذلكة فلسفيا بأسلوب مؤدب يسهل تناوله على القارئ، وان لم يكن قد قرأ شيئا عن موضوع الحضارة، أثبتناه ليسهل عليه وعي النقد الذي سنطرحه كما قلنا لكتاب "فلسفة الحضارة" راجيا الله جل شأنه أن يوفقني في ذلك.
فلسفة الحضارة
الفصل الأول
يبدأ الكاتب بعرض تحليلي منطقي لمفهوم الفلسفة و دورها بين القديم والحديث، و يبين كيف أن الفلسفة بمفهومها القديم استطاعت أن تمنح الحضارة شيئا من القوى الباطنة الدافعة و المحركة. و كيف أن تطور المفهوم الفلسفي المعاكس للمفهوم السابق قد لعب دورا فعالا في هدم كثير من أسس البنيان الحضاري الشامخ، فيقول " لقد كانت الفلسفة هي التي تقود الأفكار وترشدنا خلال القرن الثامن عشر والشطر الأول من القرن التاسع عشر، كانت تهتم بالمسائل التي تتبدى للإنسانية في كل فترة، و تحمل فكر الإنسان المتمدين على إدامة النظر فيها.و كانت الفلسفة في ذلك العصر تتضمن في داخلها تفلسفا أوليا عن الإنسان و المجتمع و الجنس و الإنسانية و الحضارة،أنتج بطريقة طبيعية تماما نوعا من الفلسفة الشعبية الحية تهيمن على التفكير العام و تحافظ على الحماسة للحضارة.
لكن هذه النظرة الأخلاقية المتفائلة إلى الأشياء، والتي وضع أصحاب الكشف العقلي فيها تلك الأسس لتلك الفلسفة الشعبية السلمية، نقول أن هذه النظرة كانت عاجزة مع مضي الزمن عن مواجهة النقد الذي وجهه إليها الفكر المجرد".ص(13_14).
يتضح لنا مما سبق أن الفلسفة كانت تضطلع بدور كبير، سواء على نطاق إيجاد الصيغ الخاصة بالمعتقدات و القيم التي يجب أن تسود روح العصر، أو على نطاق إيجاد مقومات أساسية لنظرتها المتفائلة للحضارة، فهي إذن حسب تحديد أشفيتسر من أشد العلوم تأثيرا في القيم الحضارية آنذاك، لأنها علم العلوم- وأي علم_كان ذلك سابقا_لابد له من الانضواء تحت اللواء الفلسفي أن أراد أن يكتب له نجاحا أو حياة.
ولكن، لماذا وقع اختيار اشفيتزر على الفلسفة بداية لبحثه؟ لقد اختارها لأنها كانت زمن عزها واستعلائها تمتاز بنظرتها الشمولية الكلية لأي أمر من الأمور، فهي تسعى دائما لمعرفة حقيقة وكنه الأشياء، واصلها ومصيرها، والهدف من وجودها، ولم يكن الظاهر سوى أداة تستغلها الفلسفة للوصول إلى بواطن الأشياء وسرائرها، وليس المحسوس شيئا سوى سبيل للارتقاء إلى عوالم اللامحسوس، واستطاعت بفضل ذلك أن تضع نظرية خاصة بالكون. إلا أن هذه النظرية بقيت غبر متماسكة، لأنها – إي الفلسفة- لم تكن بعد قد حصلت على معرفة شاملة كلية عن هذا الكون. من أين أتى؟ وماذا كان قبل أن يتكون بصورته الحالية؟ وما الذي كان قبل أن يكون؟ وكيف تتطور لشكله الحالي؟ أوجد صدفة؟ أم هناك موجد له؟ ومن هذا الموجد؟ وما هي صفاته؟ وما الغاية من إيجاده لهذا الكون؟ كل هذه الأسئلة وغيرها استطاعت أن تفت الكثير من عزيمة الفلسفة أثناء وضعها لنظرية تتعلق بالكون. مما أدى إلى فجاجة النظرية وهزالها.
ثم اتجهت لتبحث في الإنسان من حيث طبيعته، وعقله، وخلاله، وسلوكياته، وكيف يحدث العقل اهتزازات التفكير؟ وهل يستطيع العقل أن يصل للمطلقية غير المحدودة؟
ولم تلبث أن تحولت للعلوم فحطمت كل مقاييسها التقليدية، وضمتها تحت رايتها لأنها الأشمل في النظرة، والكلية في التطبيق، ولم تكن لتكتفي كالعلوم بدراسة الظواهر الكونية والنظم التي تتحكم بها، بل بحثت وبكل عمق بأصل تلك الظواهر الكونية وهذه النظم، ولم ترض كذلك بنظرية العلم نحو الإنسان، فبحثت فيه على انه أمر مستغلق، يجب فك كل طلاسمه حتى يسهل فهمه، فحاولت دراسة العقل والإدراك، والوعي، وارتباط كل هذه الأمور بحقائق المجودات التي تحيط به.
وقد ظهر فلاسفة عديدون منذ الزمن القديم- وخاصة باليونان- أخذوا بجوامع الأمور، ووضعوا نصب أعينهم وجوب البحث الكامل الشامل عن فلسفة خاصة بهذا الكون الغريب، فوضع "طاليس " نظرية " العقدة الكاذبة "، ثم جاء "انكسيمنس"، وجاء " انكسيمندر " وتبعه "ديموقريطس " ثم "أناكساغورس ". وقد حاول كل واحد من هؤلاء أن يضع نظريته الكونية الخاصة به وفق ما لديه من معلومات وتصورات. فمنهم من نجح في الوصول إلى حقيقة القوة الكبرى التي تسيطر على الكون، بحكم إيجادها له. ومنهم من عزا كونية الوجود إلى الصدفة العمياء، ومنهم من اختلط عليه الأمر في شأن القوة الكبرى المبدعة لهذا الكون. وهنا أمر لا يستحق إغفاله، وهو " المدينة الفاضلة " التي دعا لإقامتها الفيلسوف اليوناني " أفلاطون ". فهي دليل أكيد على اتجاه الفكر الفلسفي نحو إيجاد مجتمع حضاري خال من كل الشوائب والعوالق، وان كان لا بد من دراسة مفاهيم هذه المدينة، فالأولى أن تدرس من هذا الاتجاه.
إلا إننا لا نسعى لنتيجة الفكر الفلسفي، بقدر ما نسعى لإثبات دور الفلسفة الفعال في تدعيم عجلة التقدم الحضاري بقوى باطنية حيوية على ارض الممارسة العقلية والتطبيق الأصيل. فشمولية الفلسفة استطاعت أن تحول المفاهيم الخاصة بالكون والإنسان إلى مبادئ بسيطة، كونت فيما بعد "فلسفة شعبية " على نطاق عام. وهذا بالذات ما دعا المؤلف للاهتمام بتقديم الفلسفة على غيرها كعامل من العوامل المسئولة عن انهيار الحضارة. فنراه يؤكد ذلك حين يقول: " وأخيرا فان قيمة أي فلسفة هي في النهاية أن تقاس بقدرتها، أو عجزها، عن أن تتحول بنفسها إلى فلسفة حية للشعب ". ص (18).
وقد أدى دور الفلسفة هذا إلى ازدهار الحضارة ازدهارا واسعا، لأن الفلسفة زودتها بقوى داخلية مكنتها من السير السريع بثبات، وليس تلك القوى شيئا غير تحويل الفلسفة من نطاق خاص إلى" فلسفة شعبية " عامة.
وظلت الفلسفة كذلك صاحبة الشأن الأكبر، والكلمة الأولى، إلى أن ظهر مذهب الفكر المجرد الذي نظر إلى الفلسفة من ناحية غير الناحية التي نظر منها أصحاب الكشف العقلي. فتبدت لهم هفوات خطيرة، وفجوات واسعة في البنيان الفلسفي. فوجهوا إليها النقد اللاذع، وحطموا كثيرا من أسسها دون أن يزودوها بأسس جديدة بدلا من تلك التي حطموها. وظلت هي عاجزة عن التغيير السريع الشامل بخصوص بنيانها بسبب اعتمادها على توكيديتها الساذجة لإثبات نفسها وفرض مبادئها. فزاد هذا من ثورة المذهب الفكري المجرد نحوها، واستبد أصحاب هذا المبدأ وتسابقوا للإطاحة بصرحها الشامخ. وكان " كانط " احد أصحاب هذا المبدأ، ولكنه أحس بالخطر الذي سيؤول إليه أمر الحضارة لو تداعت قيم الفلسفة الأخلاقية وحل محلها الفكر المجرد، فحاول تزويدها بقوى جديدة من عنده، إلا انه فشل لأنه لم يدرك الخطر إلا بعد فوات الأوان.
ثم جاءت النظرة الميتافيزيقية للوجود المجرد متمثلة " بفشته، وهيجل " وغيرهما، فنقدوا الفلسفة عن طريق المخادعة، واستمروا بخداعهم لأنفسهم ولغيرهم طوال ثلاث عقود من السنين، وظل أمرهم قائما إلى جاءت العلوم الطبيعية لتنسف مبادئهم من أصولها، وأثبتت عدم قدرة هذه المبادئ على خلق" فلسفة شعبية " للمجتمع، وبالتالي عدم قدرتها على حل مشكلات الحضارة إلا عن طريق هدم الحضارة ذاتها.
ومنذ ذلك الحين، بدأ الانسلاخ المتواصل للعلوم عن جسد الحضارة ليشكل كل موضوع علما قائما بذاته. مما أدى إلى إصابة المبادئ الفلسفية الأخلاقية الخاصة بالحضارة بالوهن والإعياء. لأنها لم تقف أمام تلك النظريات موقفا صامدا صريحا. بل فضلت لنفسها التقنع، واعتمدت على توكيديتها الساذجة أمام فكر مجرد- ميتافيزيقي- لا يقيم وزنا للتوكيد، فانعدم التواد والتعاطف الذي كان قائما بين المثل الأخلاقية والحقيقة الواقعية. مما أدى دون أدنى شك إلى انهيار الحضارة.
وتحولت الفلسفة من قائد للفكر، وأب للعلوم، إلى إقامة نوع جديد من الفلسفة لا يمت للفلسفة القديمة بأصل. نوع يجعلها فكرا ثانويا لا حاجة له، وأصبحت تعتمد على نتائج العلم بعد أن كانت تمنحه الأصول الثابتة والنتائج المتينة. وقد سجل اشفيتزر ذلك حين قال: " لقد كانت الفلسفة ذات يوم عاملا فعالا في إنتاج معتقدات عامة عن الحضارة. أما الآن، وبعد الانهيار الذي حصل في منتصف القرن التاسع عشر، أصبحت هذه الفلسفة نفسها مجرد ساحب لأرباح الأسهم، مركزة كل نشاطها على ما استطاعت ادخاره بعيدا عن هذا العالم الواقعي. لقد أصبحت مجرد علم يستخلص النتائج التي وصلت إليها العلوم الطبيعية والعلوم التاريخية، ويستمد منها المادة اللازمة لوضع نظرية في الكون مقبلة. وبذلت نشاطها في مختلف فروع المعرفة واضعة هذا الهدف نصب عينيها. وفي نفس الوقت استغرقت شيئا فشيئا في دراسة ماضيها، حتى أصبحت الفلسفة عمليا هي تاريخ الفلسفة. لقد غادرتها الروح المبدعة وأصبحت خاوية من التفكير الحقيقي. لقد راحت تتأمل في النتائج التي وصلت إليها العلوم الجزئية ولكنها فقدت القدرة على التفكير الأصيل ". ص (16-17)
فلا جرم بعد كل هذا التحليل على المؤلف حين يقول: "إن العامل الحاسم في إحداث هذه النتيجة- قصد انهيار الحضارة- هو انحراف الفلسفة عن القيام بواجبها". ص (13)
فلسفة الحضارة
الفصل الثاني
يبحث المؤلف في هذا الفصل، عوائق الحضارة الروحية والاقتصادية في حياتنا، ويركز على ضرورة الجمع بين كليهما، لأن هناك تبادلا فعالا وفعليا بينهما فيقول، " وتطور الحضارة إنما يقوم به عامة أفراد من الناس يفكرون في المثل التي تهدف إلى تقدم المجموع، ويكيفونها مع وقائع الحياة على نحو يجعلها قادرة على التأثير الأقوى في ظروف العصر، ولهذا فان مقدرة الإنسان على أن يكون رائدا للتقدم، أعني أن يفهم ماهية الحضارة وأن يعمل لها، تتوقف على كونه مفكرا وعلى كونه حرا. إذ ينبغي أن يكون مفكرا ليكون قادرا على فهم مثله وتصويرها، وينبغي أن يكون حرا ليكون في وضع يتهيأ له منه أن يدفع بمثله في الحياة العامة. وكلما ازداد نشاطه في الكفاح من اجل الوجود، ازداد عنده الدافع إلى إصلاح أحواله طلبا لنصيبه من مثل هذا الفكر. وحينئذ تختلط مثل المصلحة الذاتية مع مثل الحضارة وتفسدها.
والحرية المادية ترتبط بالحرية الروحية ارتباطا وثيقا. فالحضارة تفترض أناسا أحرارا، لأنه بالأحرار وحدهم تتحقق الحضارة وتصنع ". ص(20-21)
ولكن ما هي الحرية التي قصدها المؤلف؟ إنها حرية الإنسان في العمل والتفكير والإبداع التي كانت تسود المجتمعات القديمة. والتي سلبت من الإنسان قسرا بفعل طوارئ الحياة الجديدة المعتمدة على الناحية المادية دون الناحية الروحية أو الإنسانية. فالحضارة المادية التي حققها الإنسان لنفسه أنتجت بشكل طبيعي نوعا من السلبيات الخطيرة في مفاهيم الحضارة، وممارسة الإنسان للوصول إليها. فقد استطاع التقدم المادي أن يمنح قشورا من حضارة زائفة، ولكنه لم يستطع دعم الجوهر الأخلاقي للحضارة بشيء، بل عمل –عن قصد أو غير قصد – على تفكيك الشعور الأخلاقي الإنساني حين حول الإنسان من سيد للعمل، إلى أداة لا تختلف عن أي أداة وسط التعقيدات الصناعية الهائلة. كل هذا أدى إلى ضياع الحرية السابقة، واظهر الدلائل على ذلك، المدن الصناعية الواسعة. فان تلك المدن لا تملك رافدا فكريا أخلاقيا، لأنها فقدت الصلة التي كانت قائمة بينها وبين الإبداع العملي والفكري الناشئ عن ارتباط الإنسان بالأرض والطبيعة الواصلة به مع مثل الحضارة الخلقية، ولهذا أحدث غياب الحرية هوة واسعة بين المجتمع وأحداثه أدت إلى أضرار نفسية خطيرة في عالم الإنسان.
والفقر الناتج عن فقدان الحرية، أنتج نوعا من الإرهاق لكثير من الناس، لأنهم لم يكونوا في وضع جيد من الناحية الاقتصادية. فاضطروا للعمل ساعات طويلة طوال سنوات عديدة. فكانت حياتهم خالية من كل القيم الفكرية والروحية، نتيجة لعدم اتساع الوقت لتنشئة تلك القيم بأنفسهم. فأصبحوا آلات تتحرك وفق معايير وأوقات خاصة نفس التحرك كل يوم. مما أدى إلى خروج أجيال كاملة للمجتمع من أبناء هذه الطبقة مغسولين بكل المطهرات من أي قيمة حضارية أو أخلاقية. فالوقت وضع الإنسان في قيود ثقيلة شلت كثيرا من أطراف حريته. فأفقدته صلته بالفكر والحضارة ودفعته بكل ما في سواعدها من قوة داخل عمل ميكانيكي آلي قيمه الرتابة ومثله التكرار الممل.
وبذلك ضعف التفكير، وغاب الإبداع الفكري، وأصبح الإنسان لا يهمه أمر الحضارة بقدر ما يهمه إهدار الوقت في التسلية التي لا تطلب منه شيئا من طاقة فكرية كانت أو روحية، وأصبحت السطحية شعار المجتمع الأول، وانزوى التفكير المبدع إلى مرتبة ثانوية بعيدة عن المجتمع، يقول اشفيتزر: " والدليل على أن هذا الافتقار إلى القوة المفكرة قد أصبح طبيعة ثانية في الناس الآن نجده في نوع التجمع الذي يحدثه. فانه إذا اجتمع شخصان للمناقشة، يحرص كل منهم على أن يرى أن حديثيهما لا يتجاوز نطاق العموميات أو لا يتحول إلى تبادل فعلي للأفكار. فليس عند احدهم ما يعرضه، وكل إنسان يتسلط عليه نوع من الخوف حتى لا يطلب منه شيء أصيل مبتكر ". ص(23).
ويتابع اشفيتزر واضعا عائقا آخر في سبيل تحقيق الحضارة. وهو تقصي التطور والنمو للإنسان الحديث بسبب الازدياد الهائل بالمعرفة الإنسانية امتدادا وعمقا. فالمعرفة الحديثة لم تعط الإنسان القيمة الخاصة به كانسان. بل وجهت النظر إلى انه ليس سوى كفاءات خاصة في إنسان خاص، وهذه النظرة تتسم بالمادية اللاإنسانية لأنها خاوية من المعنى الروحي الشامل للإنسان. وبذلك ضاعت القوى المبدعة والأصيلة من جوهر التكامل الإنساني ككل، وأوضح ما يكون هذا العائق في تحصيل العلم. يقول اشفيتزر: " يمكن أن نتعرف على الخطر الروحي الناجم عن التخصص، مما يهدد ليس فقط الأفراد بل وأيضا الحياة الروحية للجماعة، ولقد لوحظ من قبل أن التربية أصبح يقوم بها الآن معلمون ليس لديهم من سعة الأفق ما يجعل تلاميذهم يفهمون ما هنالك من روابط وثيقة متبادلة بين العلوم الجزئية، وليسوا أكفاء ليبثوا فيهم أفقا عقليا واسعا كما يجب أن يكون الاتساع ". ص (25).
وبفعل تلك العوائق اخرج التقدم العلمي المادي للمجتمع نوعا من الإهمال بالناحية الإنسانية في الإنسان. وأصبح خطر زوال الإنسانية من الأمور الطبيعية. فتحسن وسائل الاتصال والمواصلات إلى ما هو عليه الآن أدى إلى خلق طبع جديد وهو السباق مع الزمن ومحاولة اللحاق بالتطورات السريعة في المجتمع. مما يذهب بذور التفكير بمثل الحضارة وقيمها، لأنه لا وقت أصلا لمثل هذا التفكير. فأبعد بذلك الإنسان عن الإنسان، وأصبح كل واحد غريبا عن الآخر، فساد شعور المصلحة الذاتية على مصلحة الجماعة. ولذلك انعدم الترابط الإنساني أو غاب عن واقع الحياة العملية. يقول اشفيتزر: " فان كلا منا يقابل الآخر باستمرار وفي مختلف أنواع المناسبات، يقابله كأنه غريب عنه. فان الظروف الراهنة لا تسمح بان يلقى بعضنا بعضا لقاء الإنسان لأخيه الإنسان، لان القيود المفروضة على نشاط الإنسان العادي أصبحت من العموم والوثوق بحيث اعتدنا عليها، فلم نعد نشعر بعد بان الاتصال الآلي اللاشخصي القائم بيننا هو أمر غير طبيعي، ولم نعد نشعر بالضيق لأننا في كثير من المواقف لا نكون أناسا بين أناس، بل إننا كففنا عن محاولة أن نكون كذلك حتى لو كان ذلك ممكنا أو مندوبا ". ص(26).
ويظهر العائق الأخير في هذا الفصل بصورة تدل على دقة الكاتب التحليلية، وتفهمه الناضج للأسباب الحقيقية للانهيار الحضاري. وهو عائق الخلط في التنظيم الذي حدث في المجتمع. ذلك التنظيم الذي لم يكن يتجه بنفسه نحو وجهة حضارية، بل كان يتجه بشكل خارجي غير جوهري ليتطور على حساب الاتجاه الروحي والإنساني. فاتساع التنظيم الشكلي يزيد من كبت القوة الإبداعية المنتجة. ويعمل على نقل القوة الإبداعية الفردية كذلك لدى الإنسان كفرد، مما يؤدي إلى فقدان الإنسان لذاته وانصهاره في الجماعة ومعتقداتها. واخذ " الرأي العام بنشر الفكرة القائلة بان أعمال الجماعة ينبغي ألا تقاس بمعايير الأخلاق، بل بمعايير الفائدة العلمية ". ص(32).
وبذلك ضاعت قيم الأخلاق وطفت المادة على الروح، وساعد الوضع الاقتصادي بتحويل الإنسان، من إنسان تمتلكه مشاعر خلاقة حضارية إلى فرد في مجموع فقد إنسانيته وضاع في معتقدات خاوية جماعية شوهاء. وبذلك انفصل الإنسان عن ذاته انفصالا تاما. ولو شاء إعادة بناء الحضارة، فانه سيحتاج لزمن طويل ليبدأ بناء ذاته كفرد مستقل ضمن مجموعة مستقلة قائمة على أساس أخلاقي لا مادي. وهو أمر أوصل الإنسان نفسه بنفسه إليه، فهل يستطيع إخراج نفسه منه بنفسه؟!
فلسفة الحضارة
الفصل الثالث
يبحث هذا الفصل أهم الأمور المتعلقة بالحضارة وأخطرها على حد سواء. بوضع تعريف خاص بالحضارة، ثم ينطلق باحثا في مقوماتها، كاشفا عن ماهية العمل الحضاري والغاية القصوى منه، وكل هذه الأمور تشكل محاورا أساسية في سبيل فهم الإفلاس الحضاري كما تضع تصورات تمهيدية خاصة لمحاولة الدخول بالفصل الرابع الذي يبحث كيفية إعادة البناء الحضاري وفق مبادئ وخطوات مدروسة وسليمة.
فالحضارة كما يعرفها اشفيتزر: " هي التقدم الروحي والمادي للأفراد والجماهير على السواء".(34) وتعريف الحضارة هذا فيه كثير من دقة النظر والوعي الخالصين. لأنه ربط التقدم المادي الذي يمكن أن يحدثه الإنسان بضرورة تقدم روحي مواز له، كي يتم التوافق بين مظهر الإنسان والتقدم، وجوهر الإنسان والتقدم. فالتقدم المادي هو الأثر والانعكاس الذي يتجلى على مرآة الواقع الشكلي للتقدم الروحي الذي يشكل الجوهر لدى الإنسان. وأي اعتبار آخر لا يستطيع الصمود أمام الحقيقة. لان التقدم المادي مهما علا شانه واتسع نطاقه امتدادا وعمقا. فانه لا يستطيع أن يفرز أثناء رحلته التقدمية شيئا من التقدم الروحي، لذلك فان ضرورة التقدم الروحي أولا هي الأساس الأول الذي يجب أن يقام عليه البنيان الحضاري الشامخ. وليس هناك شيئا غيره يملك من الطاقة الضخمة التي تؤهله للارتفاع دوما بهذا البنيان. فالضرورة حتمية، والخيار واضح. إما تقدم روحي أولا فحضارة، وإما تقدم مادي خال من قيم الروح والحضارة.
ثم يستطرد اشفيتزر كاشفا عن مقومات الحضارة وغاياتها القصوى فيقول: " أول مقوماتها – قصد الحضارة – أنها تقلل الأعباء المفروضة على الأفراد والجماهير والناشئة عن الكفاح في الوجود. وإيجاد الظروف المواتية للجميع في الحياة قدر الإمكان مطلب يطلب لنفسه من ناحية، ومن ناحية أخرى يطلب من اجل كمال الأفراد روحيا وأخلاقيا وهو الغاية القصوى من الحضارة.
والكفاح في الوجود مزدوج: فيجب أن يؤكد الإنسان نفسه في الطبيعة وضد الطبيعة، وكذلك بين إخوانه في الإنسانية وضدهم.
وتحقيق الكفاح يتم بتقوية سيادة العقل على الطبيعة الخارجية والطبيعة الإنسانية، وجعله يخدم الأهداف المطلوبة بكل دقة ممكنة.
ولهذا فان الحضارة مزدوجة الطبعية: فهي تحقق نفسها في سيادة العقل أولا على قوى الطبيعة، وثانيا على نوازع الإنسان".ص(34-35)
إن إثبات الكاتب لمقومات الحضارة على هذا الأساس يبين الجوهر الإنساني أو الجوهر الأخلاقي الذي يعتبره الكاتب بكل حماس أساسا للحضارة. فمهمة الحضارة انتشال الإنسان من وسط مستنقع الأعباء والهموم والمشكلات المتراكم إلى حيث الحياة الفضلى. وإتاحة فرصة العيش الكريم لجميع ( الإنسان) لا لشعب من الشعوب دون غيره، ولا لفئة من الشعب دون غيرها. لان الحضارة ليست خاصة بشعب من الشعوب، ولا بفئة من الشعب دون غيرها، بل هي ملك الإنسان أولا كفرد، ثم كمجتمع، ثم ( كانسان كل )، وإلا فإنها ليست حضارة، بل نظام من الطبقية الظالمة التي يختص بها أناس لهم من أنوع السلطان والجاه ما يؤهلهم لامتلاكها. وأما من لا سلطان له ولا جاه فهو ولا شك لا يستطيع اخذ شيء من ثمار تلك الخصوصية الحضارية الظالمة، وهذا لا يتنافى مع الحضارة فقط، بل هو ليس من الحضارة بشيء.
وشمول الحضارة لجميع فئات البشرية قادر على السمو بالأفراد نحو نوع من الكمال الروحي والأخلاقي الذي سيقيم بدوره بنيانا حضاريا شامخا على أساس روحي وأخلاقي من نفس نوع الكمال الذي توصلوا إليه.
والكفاح المزدوج في الوجود الذي عناه الكاتب، هو ضرورة تنشد لا لذاتها بالأصل، وإنما لما تقدمه للإنسانية من ثمار صالحة. فإثبات وجود الإنسان في الطبيعة وضدها أمر طبيعي حتى أثناء غياب الحضارة. وقد كان ذلك شعورا دافعا للإنسان البدائي ليتحول من فرديته إلى تجمعات من جنسه، ثم مجتمعات لها تقاليد ونظم وقوانين خاصة بها. ولكنه يصاغ بمفهوم آخر حين يشترك وجوده بوجود الحضارة، وهدفه يمتزج بهدف الروح والأخلاق. فالأول لا يحتاج إلى التفكير بالمبادئ التي قد تنجم من جراء سيطرته على الطبيعة والقوى الكامنة فيها ضد الانساننية بمفهومها الشامل، لان محدودية نظرته نحو الإنسان تقتصر على نفسه وأبناء مجتمعه، وبالتالي فان ما يحدث لغير هؤلاء فهو ليس بمسئول عنه، أو لا يهمه أصلا وجودهم أو عدمه. لذلك فان تلك النظرة المحدودة سوف تحول الإنسان إلى حيوان يملك نوازع أثيمة لا تقيم للإنسانية وزنا في معتقداتها. وهي بذلك تقذف بالإنسان إلى حياة أشد ترويعا ورعبا من حياة الإنسان البدائي وسط حيوانات الغابة المفترسة.
أما الثاني فان الهدف من سيطرته على الطبيعة وقواها الكامنة يكون في سبيل التقدم الإنساني نحو الأمام. لأن مفهومه الروحي الأخلاقي للحضارة ينفي عنه صفة البربرية والهمجية والذاتية العمياء، ويعمل من أجل استخلاص القوى الطبيعية التي من شانها أن تصنع الخير للإنسان أكثر من إمكانية تهديدها للبشرية جمعاء بالفناء والزوال. وبين الفئتين بون شاسع لا يقاس بمقياس غير مقياس الروح وأخلاقية العمل الحضاري.
وتوكيد الإنسان لنفسه بين إخوانه في الإنسانية وضدهم، لا يحتاج أن نقول ما قلناه عن الطبيعة لأنه نفس المفهوم تماما. ولكن الجديد فيه هو وجوب توحيد الطاقات البشرية في العالم اجمع من أجل إحراز تقدم حضاري متكامل، ووضع كل ما تتوصل إليه الأمم متشاركة من اجل هذا الهدف. وليس عيبا على الحضارة الروحية الأخلاقية أن تكون هناك أساسيات لكل امة تمتلكها من اجل دفع الضرر عن نفسها لو واجهت عدوانا من إحدى الأمم الأخرى، فإثبات وجود الأمة بين الأمم الأخرى لا يمنعها من إثبات نفسها ضدهم.
أما الخطأ الذي أوقع اشفيتزر نفسه به، فهو دعوته بسيادة العقل على الطبيعة والقوى المستخرجة منها، وعلى نوازع الإنسان وأهوائه. لان العقل لا ينفي السلبية في بعض الأحيان، بل ويؤكدها من وجهة نظر خاصة بمنظاره. وهو بذلك معرضا للخطأ بين الحين والآخر. لذلك يجب أن يكون هناك شيء آخر يتولى السيادة المطلقة على كل شيء وعلى العقل أيضا. وهذا لا يتأتى إلا للعقيدة الدينية أو المبدأ الرباني. لأن العقيدة لها أسلوب خاص ومتميز في توجيه النوازع الإنسانية نحو الخير. وكذلك كبتها لو أرادت أن تحيد عن ذلك التوجه. وقد استمدت خاصيتها وتميزها من كونها آتية من حيث القوة الكبرى التي لا قوة بعدها ولا قبلها. والحق الأعظم الذي لاحق قبله ولا بعده، والكمال المطلق حيث لا خطأ في صغير أو كبير من الأمور. وقد أثبتت الأيام أن سيادة العقل في المجتمع الإنساني قد دهورت خطى الحضارة وهدمت كثيرا من أسسها، وقوضت معظم أركانها. ودليل ذلك ما تعانيه البشرية اليوم من ماسي مختلفة الصور في الوقت الذي يسود فيه العقل العالم كما لم يسده من قبل. ولكن العكس كان واضحا يوم تسلمت العقيدة زمام الأمور وسادت على كل شيء، حتى العقل. واصدق الصور وأوضحها ظاهرة في فترة حكم الإسلام للكون من مشارقه حتى مغاربه.
إذن فالعقيدة هي الموجه الأول والأساسي للعقل الإنساني، وهي المتحكمة الوحيدة بتحديد سلوكيات الإنسان ونوازعه وأهوائه، وتوجيهها نحو ما تراه سليما، وليس العقل بقادر على ذلك، لان النوازع قد تغلب العقل أحيانا، أما أن تغلب العقيدة، فذاك المستحيل بعينه.
ويستمر اشفيتزر ليقرر أن التعصب القومي كان سببا من أسباب الانهيار الحضاري، فيقول: " ومن هذين، اعني الإحساس بالواقع، والإحساس التاريخي ينشا التعصب القومي الذي ترجع اله الكارثة الخارجية التي يتم بها انحلال حضارتنا ".ص(43). وهذا أيضا ما نختلف فيه مع الكاتب اختلافا كاملا، لأن التعصب القومي ليس سببا من أسباب الإفلاس الحضاري، بل هو مظهر من مظاهره. فوجود الأمم والقوميات المتباينة الآراء والمعتقدات والمذاهب والمبادئ سيؤدي بالضرورة إلى وجود حضارات متعددة خاصة مختلفة تمام الاختلاف عن بعضها في الجوهر، أو المظهر، وستتخذ كل حضارة من تلك الحضارات طابعا قوميا متميزا عن أي حضارة أخرى مما سيسوق البشرية إلى تنازع وتناحر مذهبي وحضاري. وبالتالي إلى نشوء حرب طاحنة من اجل الحفاظ على كل حضارة بتميزها للأمة التي أنشأتها. وهذا دليل واضح على أن التعصب القومي مظهر من مظاهر الإفلاس الحضاري، وليس سببا من أسبابه. والصحيح انه يجب أن يكون هناك معايير وقوانين ومبادئ ومثل خالصة، لا دخل للعقل البشري فيها سوى الزيادة المستنبطة من قواعد تلك العقيدة لمواءمة روح العصر وتقلبات الأحداث التقدمية المادية والفكرية الجديدة على البشرية، وهذا الأمر حقق قبل الآن في رسالة الإسلام الخالدة، وبذلك فان حقيقة تحقيقه السالف يؤكد إمكانية تحقيقه بهذا العصر أيضا لو أرادت البشرية أن تتخلص من عوالق حضارتها الزائفة وإرهاقها الروحي واضطرابها النفسي.
فلسفة الحضارة
الفصل الرابع
يتخصص هذا الفصل في إيجاد القواعد والأصول التي من شانها إعادة البنيان الحضاري المتهدم، كما يبحث في الصعوبات التي تواجه هذه الإعادة الجديدة.
يقول اشفيتزر: " وأولى هذه الصعوبات عجز هذا الجيل عن أن يدرك ما هو قائم وما يجب أن يكون. فرجال عصر النهضة ورجال التنوير في القرن الثامن عشر استمدوا الشجاعة للرغبة في تجديد العالم بواسطة الأفكار، استمدوها من كون الظروف التي عاشوا فيها ماديا وروحيا كانت ظروفا لا يمكن الدفاع عنها. كذلك بالنسبة إلينا نحن، إن لم تصل الكثرة لمثل هذا الاقتناع، فإننا سنظل عاجزين عن القيام بهذا العمل على مثال ما فعلوه، لكن الغالبية ترفض أن ترى الأمور على حقيقتها، ويتمسكون بكل قواهم بنظرة متفائلة كأشد ما يكون التفاؤل. على أن للتشاؤم نصيبا في المسؤولية عن هذه القدرة على تمجيد الواقع بمثل منحطة مع الشعور بان هذا الواقع نفسه لا يرضي. ذلك أن هذا الجيل على الرغم من افتخاره بما أنجز من أعمال، فانه لم يعد يؤمن بالأمر الجوهري كل الجوهرية، اعني بذلك التقدم الروحي للإنسانية. ولما تخلت عن ذلك استطاعت أن تتحمل العصر الحاضر دون أن تشعر بالألم الذي يحملها على نشدان عصر جديد، فيا لها من مهمة شاقة. مهمة تحطيم التفاؤل غير المبني على تفكير سليم، والتشاؤم غير المبني أيضا على تفكير سليم، تحطيما يمهد الطريق لتجديد الحضارة " ص(56-57).
وهذه الصعوبة التي أثبتها الكاتب ميزان في الدقة المتناهية، رغم اقتضابها وعدم وضوحها. فهو حين ينفي عن هذا الجيل القدرة على الرؤية الشفافة وسط الأجواء الضبابية المحيطة بمفهوم الحضارة، لتحديد الصالح من الأمور ووضعه كأساس لتكوين نظرة مستقبلية شاملة عن مصير الحضارة الآتي لا يتجاوز حدود المنطق والمعقول. لأن الجيل الحاضر مصاب بأزمات نفسية خطيرة حولته من إنسان ينشد السعادة والطمأنينة والهدوء، إلى حيوان مفترس تتحكم فيه نوازع الشهوة، شهوة السيطرة والاستعلاء على الأمم الأخرى التي لا تمت له بصلة سلالية مشابهة.
والمتأمل بالحضارة الحالية تأمل منصف، فانه سيجد أن السباق الحضاري الحادث هو سباق مادي صرف يحرص على إظهار القوة كحضارة، مبتعدا بذلك عن القيم الروحية الأخلاقية للحضارة ابتعادا كاملا. وانخرط الجيل الحالي في حالة من عدم التوازن لتقدير نفسه كانسان. وتقدير الأمة البشرية ككل، كصانعة للحضارة الحقة. واندلث الجيل وراء التيار التفاؤلي " المبني على أساس غير سليم " ملحقا بنفسه وبالحضارة كل الضرر والانهدام. وغابت النظرة الواقعية عن ساحة الصراع النفسي الذي تحياه البشرية، فازدادت عوارض من أمراض جديدة في جسد الحضارة، فأصيب الجسد بالإعياء حين هوى العامل الأساسي للصعود بالحضارة، ألا وهو سيادة العقيدة الربانية على كل مفاهيم الإنسان والكون والحضارة. ويستطرد اشفيتزر قائلا: " وثمة صعوبة كبرى في تجديد حضارتنا ناشئة من كونه أن يكون عملية باطنة، لا خارجة، ولهذا فلا مكان للتعاون السليم بين ما هو مادي وما هو روحي. ومن عصر النهضة وحتى منتصف القرن التاسع عشر كان القائمون على إنشاء الحضارة يتوقعون المساعدة للتقدم الروحي من إنجازات في نطاق التنظيم الخارجي والمطالب في كل دائرة من هذه الدوائر كانت قائمة جنبا إلى جنب في برامجها وكانت تدفع في نفس الوقت. وكانوا موقنين أنهم بينما يعملون لتحويل نظم الحياة العامة فإنهم كانوا يأتون بنتائج تؤدي إلى تنمية الحياة الروحية الجديدة ".ص(60)
وهنا يعود الكاتب للخطأ مرة أخرى، حين يطالب بالفصل بين القيم الروحية وبين التنظيم الخارجي محتجا بان عملية التغيير الحضاري يجب أن تكون جوهرية وليس شكلية. ولذلك فإننا في غنى عن مساعدة التقدم المادي للجانب الروحي. والحقيقة هي أن التقدم الروحي هو الأساس الذي تنبثق منه الحضارة المادية. وكلا الجانبين ضروريان لتكميل بعضيهما، لأن هدف الحضارة هو إقامة حياة فضلى للإنسان مما هو عليه في غياب الحضارة. ونحن لا ننفي النظرة القائلة بان التقدم المادي اثر تأثيرا كبيرا وسلبيا في قيم الحضارة الأصلية. وهذا التأثر ليس ناتجا عن التقدم المادي ذاته، بل ناتج عن سوء استخدام العقل البشري للتقدم المادي لغياب السيادة التي يجب أن تتمتع بها العقيدة الإلهية على العقل البشري. وهذا يؤكد للمرة الثانية خطا الكاتب حين يطالب بسيادة العقل على الطبيعة ونوازع الإنسان.
إن التقدم المادي جزء لا يتجزأ من التقدم الروحي والفكري من اجل القيام بحضارة سليمة ذات طابع خالص من كل شوائب الزيف والتجمل الكاذب. والشرط الوحيد لحدوث هذا هو سيادة العقيدة الربانية على طبيعة التقدم المادي والروحي للإنسان، ليستطيع توجيههما من نفس الوجهة الروحية الأخلاقية التي تتحلى بها العقيدة الربانية ذاتها، وأي نقص في أي جانب سيؤدي بالضرورة إلى ضياع أو بتر عضو من الأعضاء التي تنهض عليها الحضارة، مما سيصل بالحضارة إلى حالة الشلل والهبوط.
ويكمل اشفيتزر قائلا: " كذلك يعترض تجديد الحضارة أمرا آخر وهو أن الشخصية الفردية وحدها هي التي يجب أن ينظر إليها على إنها الفاعل في الحركة الجديدة.
إن تجديد الحضارة لا شان له بالحركات التي تحمل طابع تجارب المجموع، فهذه التجارب ليست إلا ردود فعل تجاه الأحداث الخارجية. لكن الحضارة لا يمكن أن تتجدد إلا إذا نشأت في عدد من الأفراد نزعة عقلية جديدة مستقلة عن تلك السائدة بين الجمهور وفي تعارض وإياه، نزعة عقلية تكتسب التأثير تدريجيا على النزعة الجماعية. وفي النهاية تطبعها بطابعها، ولا سبيل إلى النجاة من الهمجية إلا بحركة أخلاقية، ولا وجود للأخلاقية إلا في الأفراد ". ص(62).
وفي هذا خطأ ليس باليسير علينا إهماله، لأن عملية تحييد الفرد عن الجماعة، والجماعة عن الفرد، لا يؤدي بأي شكل من الأشكال إلى إحداث حضارة، لأن الفرد هو أصل الجماعة، والجماعة هي أصل المجتمع. والمجتمع السليم هو المجتمع الذي يستطيع أن ينهض بالإبداع الفردي على أساس سليم، وبنفس الوقت يستطيع أن ينهض بالإبداع الجماعي على أساس آخر سليم أيضا، ودمج الإبداعين الفردي والجماعي ببوتقة القوى العقيدية الدافعة بالحضارة إلى القمة والسموق.
أما تحييد العمل الجماعي عن الواقع العملي والممارسة الفعلية في المجتمع فليس بمؤد إلى إظهار أي نتيجة ايجابية خلاقة من شأنها دفع الحضارة للأمام. بل إن الآثار السلبية التي ستنشأ عن هذا الأمر هي التي ستغطي الواقع العملي في المجتمع، لأن وضع الإبداع كخصوصية في فئة من المجتمع (الكل) وحصرها بهم سيخلق داخل المجتمع نوعا من الطبقية الفكرية الخاصة وبذلك سيتحول الفكر من اثر عام ( فلسفة شعبية ) ليس ملكا لأحد دون احد، إلى جماعة معينة تتصرف وفق ما يتفق وطبيعتها وأحاسيسها ومصالحها الذاتية. وسيفقد الجزء الأعظم من المجتمع نفسه كعامل مشارك وفعال في الحياة العملية، ويبدأ بالانطواء والتحوصل على نفسه حتى يغيب عن الساحة العملية والفكرية في آن واحد. وستعجز تلك الفئة عندئذ عن إيصال مبادئ تفكيرها إلى غالبية الناس، وبذلك ستقضي على نفسها بالموت الذاتي. بالإضافة إلى هذا فان تحييد الجماعة سينشئ دون شك وبصورة تدريجية لا تلاحظ إلا بعد فوات الأوان نوعا من الدكتاتورية المستبدة في الفكر بين فئتها الضئيلة. وهذا بحد ذاته عيب وحاجز يقف في طريق التقدم الحضاري الذي ننشده كما كان سببا في تقويض الكثير الكثير من أركان الحضارة وأسسها.
وليس ضروريا ولا حتميا على العلماء أو الفلاسفة أو المصلحين حين يطرحون أفكارا خاصة بشان إصلاح الحضارة، أن تكون هذه الأفكار معارضة للرأي العام في المجتمع الذي يعيشون فيه، ولا أن تناقض المفاهيم السائدة من اجل أن تكون وليدة الصحيح والمعقول والمنطق، ولو كان هذا التعارض والتناقض دليل صحة في جسد الحضارة، فهو أيضا دليل الإعياء والإرهاق الكبيرين في العقلية التي تفهم الحضارة على هذا الأساس. ومرض العقلية الحضارية يعود بمؤشره وبسرعة رهيبة ليشير نحو الحضارة الزائفة التي تعتمد على الفهم الخاطئ.
فهناك كثير من المفاهيم والعادات والقيم تسود روح المجتمعات، وهي بحد ذاتها ركائز حضارية متينة يمكن من خلالها استئناف العمل واستكمال الدرب من اجل الارتفاع بحضارة تحمل طابع التكامل المنشود. وليس في التاريخ دليل يثبت أن الأمم القائمة إنما أقامت حضارتها سواء الروحية أو المادية من اللاشيء، ولكن كل الأدلة الآتية من التاريخ تشير أن الحضارة قامت على أساس الأخذ والزيادة والعطاء. فهي تأخذ من تجارب الأمم السابقة وتزيد عليها من اجل التحسين لتعطيها الصورة المطلوبة والأقرب للكمال. وأي حضارة تفقد شيئا من هذا فأنها ليست بحضارة، بل هي متقنعة بقناع حضاري لتخفي تحته ما تخفي من عيوب.
فطريق الحضارة بالتأكيد، ليس سلخ العمل الجماعي عن واقع الحياة العملية وإحلال الإبداع الفردي مكانه، ولا سلخ الماضي عن الحاضر السائد أو ما سيسود. بل هو تفاعل الفرد مع الجماعة، والجماعة مع الفرد بطريقة منسقة منطقية، تقوم على أساس روحي أخلاقي يستمد من خبرات الأجيال الماضية أسس تجاربها ليحسنها ويصوغها بشكل يناسب العصر الذي يحياه. وإلا فان قيام الحضارة في يوم من الأيام سيظل مطلبا عسيرا عزيزا على البشرية جمعاء.
فلسفة الحضارة
الفصل الخامس
يبحث هذا الفصل في موضوع النظرة الحضارية للعالم، ويأتي بحث هذه النظرة من جوانب متعددة مختلفة. وهذا بحد ذاته دليل أكيد على أن الحضارة لا تستطيع أن تنمو أو تتطور إذا فقدت جزءا من أجزاء مفاهيمها الكاملة، لأن الحضارة كالجسد إذا بتر منه عضو ظهر النقص فيه واضحا. وليس المبتور بقادر على صياغة الكمال.
يقول اشفيتزر: " إن أعظم الواجبات الملقاة على عاتق الروح هو إيجاد نظرة إلى العالم. فيها جذور كل الأفكار والمعتقدات وألوان النشاط المتصلة بالعصر، ولا نستطيع الوصول إلى الأفكار والمعتقدات التي هي أسس الحضارة عامة إلا بالحصول على نظرة إلى العالم تتفق مع الحضارة.
فما المقصود بالنظرة إلى العالم؟ إنها مضمون أفكار المجتمع والأفراد الذين يؤلفونه، أفكارهم عن الطبيعة وعن موضوع العالم الذي يعيشون فيه، وعن مكانة الإنسانية ومصيرها. ما معنى المجتمع الذي أعيش فيه؟ وما معنى ذاتي أنا نفسي في هذا العالم؟ وماذا نريد أن نفعل في العالم؟ وماذا نؤمل أن نحصل عليه منه؟ وما هو واجبنا تجاهه؟ ".ص(67)
وفي هذه التساؤلات القيمة الكبرى التي يجب على الإنسان أن يعمل من اجل إيجادها، إذا أراد النهوض من مستنقع الحضارة الزائف إلى ذروة الحضارة الحقه.
ولان إيجاد نظرة خاصة بالكون وما عليه، من صميم أمور الحضارة. ولأنه لا يمكن للإنسان أن يفهم ذاته إن لم يفهم الكثير المخفي عن ذاته وعما حوله. لأن طاقة البشرية في أي عصر تختلف عن طاقتها في عصر آخر. ولأن ماضي البشرية السحيق ليس سهلا علينا تحليله تحليلا دقيقا وافيا من جميع جوانب وجوهه وأشكاله.
فنظرة الإنسان للكون تستطيع تحديد طبيعة العلاقة التي يجب أن تسود الروح الإنسانية تجاه الكون. كما أنها تخلق نوعا من التعامل المباشر الاستغلالي للكون من أجل صالح الإنسان، وبذلك ترتفع كل الحواجز النفسية والعقلية التي يمكن أن تحد من نشاط الإنسان وانطلاقته العلمية الباحثة.
ونظرة الإنسان للكون يجب أن تبرز من جوانب عديدة أهمها: ما أصل هذا الكون؟ كيف وجد؟ أبالصدفة؟ أم أن هناك موجد له؟ وما الهدف من إيجاده؟ وما هي طبيعة العلاقة بين الإنسان والكون؟ كل هذه الأسئلة وغيرها يجب أن توضع بالحسبان أثناء وضع نظرية خاصة بالكون، لأنها إن لم تدخل حيز النظرية المعدة، فان النظرية دون شك ستكون قاصرة عن النهوض على أقدام ثابتة مما سيؤدي إلى شلل كبير في خطى الحضارة التقدمية.
وعلى النظرية بعد ذلك أن تأخذ بالحسبان أن هناك عاملا مشتركا بين الإنسان والكون من حيث الوجوه جميعها، لأنه لا يعقل أصلا فصل الإنسان عن الكون، أو فصل الكون عن الإنسان، واعتبار احدهما أتيا من مجهول دون أن يكون بينهما بالأصل أي ترابط. وإنما الصلة القائمة بينهما هي صلة إجبارية مفروضة على الكون والإنسان حين وجد احدهما مع الآخر عنوة ودونما إرادة منه. وبسبب الفصل بين علاقة الإنسان بالكون، باءت جميع النظريات العلمية بالفشل، لأنها جاءت خاوية من كل قيمة تؤهله لشق طريقها في أصول التفكير الحضاري أو الإنساني وان كان قد كتب لها الظهور ذات يوم. فقد كتب لها دخول النسيان من بابه الواسع.
ولنأخذ على سبيل المثال بعض هذه النظريات العلمية لنرى القيمة التي تمتلكها أي واحدة منهن. فنظرية انفصال القمر عن الأرض التي نادى بها جورج داروين عام 1878 م والقائلة: بان القمر بدا بالانفصال عن الأرض في حين التكوين الأولي للقشرة الأرضية، ومما ساعد على هذا الانفصال، هو أن الشمس كانت تشكل آنذاك قوة الجذب الرئيسية للأرض، ونتيجة لهذا الجذب قد نشأت قمم الجبال على الأرض.. وحين اشتد الجذب فقد انفصل جزء من الأرض مكونا القمر الذي ظل تابعا لها.
وهناك نظرية أخرى، وهي نظرية الضغط الجوي التي ادعاها سولاس 1913 م والقائلة: بان القارات والمحيطات نشأت نتيجة الضغط الجوي على الأرض في الوقت الذي كانت الأرض لا تزال في حالة السيولة، ونتيجة للأعاصير فان المناطق التي وقع عليها ضغط الهواء ارتفعت مشكلة القارات، والمناطق التي كانت بعيدة عن تأثير الأعاصير وضغط الهواء فقد شكلت أحواض المحيطات.
وهناك نظريات عديدة ظهرت في هذا الصدد، إلا أنها جميعا كانت مفرغة من كل قيمة مثالية، كما كانت بعيدة عن التفكير بالرابطة العميقة القائمة بين وجود الإنسان بصورته وطاقاته، وبين الكون وثباته وخلوه من الطاقات. كما أهملت جميع النظريات تبيان الأصول التي ارتكزت عليها لتظهر كنظرية كونية تستحق الاهتمام والتأمل.
فجورج داروين لم يبين أولا أصل الوجود لكل من الشمس والأرض، وكذلك سولاس لم يبين أصل الو جود الأرضي قبل تكوينه بالصورة التي تم عليها حسب النظرية، وكذلك نسيت النظريتان - وغيرهما -العلاقة القائمة بين الكون والإنسان. وبذلك جاءت كل النظريات خاوية من القيمة الإنسانية التي تقيمها تلك العلاقة مما أدى إلى فشل جميع النظريات الغربية القديمة منها والحديثة على إيجاد صيغة خاصة تحمل بعض مفاهيم القيم الإنسانية لإيجاد نوع من التوازن الحضاري بين الإنسان والكون.
ثم تأتي النظرة الخاصة بالإنسان إلى ذاته وغيره في المجتمع، فالبشرية كلها، هي نظرة تتسم بأصول الدقة الشديدة والصعوبة البالغة، لأن الإنسان بحاجة قبل التعرف على أصله وماضيه، أصله الأول، وماضيه السحيق الجذور.
فهو بحاجة أن يعرف اصل الإنسان منذ بداية نشأته، كيف وجد؟ ومن أي شيء تكون؟ ومن أوجده؟ والهدف من وجوده؟ وما هي طبيعة العلاقة بينه وبين نفسه؟ وما هي طبيعة العلاقة بينه وبين غيره؟ كيف نما وتطور إلى صورته الحالية-اقصد النمو والتطور النفسي-؟ وما هي صلته بما هو فيه؟ كل هذه الأسئلة يجب أن تأخذ حيزا واضحا في تفكير الإنسان إذا ود مخلصا وضع أسس حضارية يحيا بكنفها.
فمعرفة الإنسان لأصله تمنحه شعورا بالطمأنينة، ومعرفته كيفية وجوده وخاصية تكوينه، يمنحانه رابطا مشتركا بينه وبين أبناء جنسه، لأنهم موحدوا الكيفية والتكوين والأصل، وحين يتعرف إلى موجده، فانه سيحس بان الموجد أقوى من الموجود، وان الموجد هو صاحب الفضل على موجوداته. وبذلك يتم التعامل بين الموجد والموجود على أساس تفاوت القدرة والعمل والقوة. وحين يتعرف على الهدف من إيجاده، فان طاقاته كلها، الروحية والنفسية والعقلية والمادية سوف تتحد لشق الطريق واقتلاع الصعاب من اجل نفس الهدف المرسوم للإنسان ككل. وعندئذ فان السلوك الإنساني الواضح الحقيقي سوف يسود العلاقة بين الإنسان وذاته، والإنسان وأخيه الإنسان. وبهذا يصبح الطريق مفتوحا أمام الحضارة بلا أي عوائق أو حواجز.
ويكمل اشفيتزر موضحا طبيعة النظرة الكونية قائلا: " لكن ماذا يجب أن يكون عليه طابع النظرية إذا كانت الأفكار والمعتقدات المتعلقة بالحضارة قائمة على أساسها؟ إنها يجب أن تكون متفائلة وأخلاقية.
والنظرية في الكون تكون متفائلة إذا كانت تفضل الوجود على اللاوجود، وتؤكد الحياة بوصفها شيئا له قيمة في ذاته. ومن هذا الموقف في الكون والحياة ينشأ الدافع إلى رفع الوجود إلى أعلى مستويات القيمة بالقدر الذي يكون لنا تأثير في تحقيق ذلك. ومن هنا ينشأ النشاط الموجه إلى إصلاح أحوال الفرد الحية، وأحوال المجتمع والدولة والإنسانية، ومنه تنبثق أعمال الحضارة الخارجية، وسيطرة الروح على قوى الطبيعة والتنظيم الاجتماعي الأعلى.
والأخلاق هي نشاط الإنسان الموجه إلى كفالة الكمال الباطن لشخصيته. وهي في ذاتها بمعزل عن كون النظرة إلى العالم متشائمة أو متفائلة. ولكن مجالها في العمل يضيق أو يتسع وفقا لكونها على ارتباط بنظرة من النوع الأول أو الثاني ". ص"77"
وهنا يقع اشفيتزر في خطأ صارخ وذلك حين يفسر النظرة المتفائلة بأنها تفضيل الوجود على اللاوجود باعتبار مجرد لا يرفع من الأمر شيئا، ولكن اختيار الوجود الأسمى المنبثق من عقيدة ثابتة توجه الإنسان نحو العمل وفق مطلب الإنسانية الشفافة المتوافقة مع فطرته من اجل التفاؤل هو الأمر المنطقي والمطلوب. لان العقيدة أو المبدأ المصاغ من القوة الكبرى التي تتحكم بهذا الكون، هي الوحيدة القادرة على كبت النوازع والأهواء اللاإنسانية وتوجيهها نحو الصالح العام للبشرية ككل. وأما التفاؤل كأمر مجرد فهو قائم في جميع دول العالم، ولكنه مع ذلك لم يستطع إثبات جدارته كأمر أساسي وقادر على خلق نوع من الخلق الحضاري بين جميع الأمم والشعوب، منذ بداية الحياة وحتى يومنا هذا. ولكن العقيدة استطاعت بسنوات قليلة خلال رسالة الإسلام الخالدة أن تصنع مجتمعا حضاريا من جميع نواحيه وجوانبه، وبالتالي كانت قادرة على زرع روح التفاؤل الحق في نفوس الأفراد والجماعات من صانعي تلك الحضارة.
والخطأ الثاني: هو اعتبار توكيد الحياة على أساس أنها قيمة يجب أن تنشد لذاتها وليس هذا بالصحيح. لان نشدان الحياة وتوكيدها لذاتها سيؤدي إلى تصادمات عنيفة بين الفكر السائد المختلف في وجهاته، وبين الطبيعة الإنسانية كأمر ثابت لا يتغير، وبالتالي إلى إيجاد نوع من التعلق الشديد بالحياة قد يصل إلى حد الهوس بها. وليس هذا مطلبا حضاريا بالمعنى الصحيح. ولكن ذلك لا يعني بتاتا نفي وجود توكيد الحياة، ولكننا نرفض توكيدها لذاتها. لأننا واثقون أن الطبيعة البشرية لن تستطيع السيطرة على الحياة إلى حد البقاء. لذلك يجب أن يكون هناك هدف مشترك تحيا البشرية جمعاء من اجل العمل المتواصل له جيلا بعد جيل حتى تستطيع تحقيقه. وهذا ما لا يمكن أن يتسنى للبشرية صنعه بأي شكل من الأشكال، وتحت أي ظرف من الظروف، لان تباين الطبائع والنزعات قائم بين الأمم بما لا يقبل الشك أو الجدل. وهذا يؤكد من جديد وجوب التشريع الإلهي البعيد عن تباين النزعات واختلاف الطباع. تشريع تدين البشرية به كأمر مسلم لا شك فيه، لأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه أو من خلفه.
وبهذا فقط تستطيع البشرية أن تتوجه للعمل من اجل الحياة، لا من منطلق تقديسها، والفرق بين الأمرين لا يحتاج لجلاء أكثر من أن نقول: بان تقديس الحياة عامل من عوامل شل الطاقات الإنسانية وتوجيهها إلى زاوية غير إنسانية وغير حضارية، أما العمل من اجل الحياة وفق المبادىء المنبثقة من العقيدة الإلهية، فانه سيؤدي إلى فتح هائل في تحرير الطاقات البشرية من جانب الأنانية وحب الذات إلى جانب المشاركة بين البشرية كأفراد وجماعات وأمم، وهذا فقط هو الأمر الذي يستطيع أن يصل بالبشرية إلى درجة قريبة من الكمال والتنظيم الاجتماعي دون أي جهد أو تعب يذكر.
ويسترسل اشفيتزر بالخطأ حين يعلن أن الأخلاق هي الموجه إلى كفالة الكمال الباطن للإنسان. لان الأخلاق لا وجود لها إذا كانت مسنونة من قبل الإنسان نفسه. وذلك عائد لصعوبة تلقي الإنسان الأوامر والنواهي من إنسان مثله أولا، ولاختلاف النظرة من إنسان لآخر فيما هو أخلاقي وغير أخلاقي ثانيا. فالأمور الأخلاقية الخاصة بالأمم الغربية، معظمها بالعرف الشرقي نواقص تعيب الشخصية وتقلل من أهميتها في الزمنين الجاهلي والإسلامي على حد سواء.
ومثال ذلك اعتبار الغرب المرأة على أنها تملك من الحرية ما يملك الرجل، وفهم تلك الحرية على أنها انحلال كامل من الأخلاق. فالإنسان الغربي لا يشعر بالنقص من خروج ابنته حيث يحتشد الرجال وتتحاك الأجساد، كما انه لا يشعر بأي شيء من الحرج لو قضت ابنته أو أخته أو أمه ليلتها بأحضان عشيق خال من أي قيم إنسانية وأخلاقية. أما بالنسبة للرجل الشرقي المتميز بعروبته وحميته الأصيلتين، فانه على استعداد للموت ليحول دون وقوع مثل هذا الأمر.
فالأخلاق ليست قادرة إذن على تحقيق شيء من الكمال الباطني للإنسان، إلا إذا اشتقت من اصل واحد تشترك البشرية على الأيمان به ككل. وهذا لا يتأتى للإنسان صوغه بنفسه، وانما يأتي من عقيدة إلهية خالصة من كل ما يمس الطبيعة البشرية بأحاسيسها وأفكارها ومشاعرها ومبادئها الإنسانية الحقة، والتي تتفق بالنهاية مع الفطرة الإنسانية السليمة الصافية من كل أدران الذاتية والأنانية.
وهذا بدوره يعود ليؤكد بان الروح هي المصدر الأساسي لصنع حضارة، وليس الأخلاق أو النظرة المتفائلة سوى مظهر من مظاهر وثمار من تلك العقيدة التي تمثل الأصل والجذر الراسخين بأرض التعالي والسمو بالإنسان إلى قمة الإنسانية الحقة.
وأخيرا...
إلى هنا أقف في نقد الكتاب، لان الأساسيات التي طرحها الكاتب للمفهوم الحضاري إلى هنا تقف. وما البقية من الصفحات الأخرى إلا تفصيل وتبيان للأصول التي حللناها سابقا. لذلك فليس من الضروري إعادة ما كتب مرة أخرى، لان التكرار لن يجدي نفعا، بل سيعكس نوعا من السلبية في الملل الذي سيصيب القارىء إذا ما استرسلنا بالنقد لنعود ونوضح ما وضحناه سابقا ولو بأسلوب مغاير لأسلوب الصفحات الأولى.
وقد أخذنا هذا الكتاب دون غيره من الكتب الخاصة بموضوع الحضارة، لأنه قد يكون أفضلها في التصورات الحقيقة للحضارة من مفهوم غربي حديث. ومع أن الكاتب استطاع أن يجد عللا كثيرة تحول دون سير الحضارة في طريقها الصحيح، إلا انه لم يتمكن رغم ذلك استكشاف علل العلل نفسها، فردها دون تفكير إلى علل أخرى، وبذلك تراكمت علل فوق علل حتى أصبح السبب في وجود العلة هو العلة نفسها.
وقد أدى هذا إلى قصور النظرة التي أتى بها اشفيتزر حين وضع الحلول من اجل النهوض بالحضارة. ولو استطاع اشفيتزر أن يوجد الأسباب ويحللها لتمكن من الاستدلال المباشر وغير المضني إلى الطريق الصحيح نحو إعادة بناء الأسس الحضارية.
ولا يعني هذا أن اشفيتزر لم يأت بالخير في بحثه هذا، لا، بل استطاع وبقدرة فائقة أن يصور المعاناة التي يحياها الإنسان الغربي وسط ضجيج المادة والانحلال وفقدان التوازن النفسي، والتبرؤ من القيم والمثل العليا. فنقله إلينا مخلوقا بصورة إنسان تائه في صحراء العدم والفناء. يبحث عن شيء يوصله إلى الإنسانية الحقة التي تتوافق ومظهره ليستطيع الخروج من تلك الظلمات التي تلف صحراء عدمه القابع فيها، فلا يتمكن، (لماذا )؟
إلى هنا فقط استطاع اشفيتزر أن يكون دقيقا كل الدقة في التصوير الحقيقي الناطق للإنسان الغربي، ولكنه بعد ( لماذا ) لم يستطع أن يأتي بشيء يذكر أو يستحق الاهتمام الكبير، لأنه اتجه بنظره نحو المظاهر الشكلية للحضارة، وهذه بدورها ليست أساسا من أسسها. وإنما العقيدة الإلهية والتشريع الإلهي هما الأساس الصلب لصرح الحضارة الحقة، وما الأخلاق والتفاؤل سوى نقش جميل يظهر على جسد تلك العقيدة الربانية وذلك التشريع الإلهي.
وهذا ما لم يستطع اشفيتزر تبينه بوضوح وجلاء، ليتمكن بعد ذلك من صوغ أسباب الانهيار الحضاري على أساس تخلي الحضارة عن هذه الحقيقة، وصوغ طريق عودة الحضارة بضرورة العودة إلى الحقيقة الكبرى...
حقيقة العقيدة الإلهية والتشريع الإلهي.
مأمون احمد مصطفى
فلسطين – مخيم طول كرم- 1976
ألبرت اشفيتزر
توطئة
لم تشغل البشرية منذ منتصف القرن الثامن عشر وحتى وقتنا الحاضر بأمر كانشغالها بأمر الحضارة. فقد أخذت المؤلفات تتدفق على الأسواق بشكل لم يسبق له مثيل، لإثبات حقيقة بقاء الحضارة، أو ذهاب هذه الحقيقة عن أرض الواقع.
وقد كتب لبعض الجهود البسيطة النجاح في تحليل الواقع الحضاري للأمم الإنسانية بسبب إخلاص نواياهم في العمل، ولقدرتهم على خوض غمار هذا الموضوع، في حين سجلت الغالبية العظمى الفشل الذريع لأنها وضعت نفسها في تيار الحاضر الذي تحياه دون النظر للماضي الذي عاشته الحضارة بين الأمم السابقة، ولخطأ الأسس الذي نهض عليه تفكيرهم لمفهوم الحضارة ومقوماتها.
وفي غمرة الحياة الحاضرة، تكاتفت عوامل متنوعة، اقتصادية، سياسية، علمية، روحية، فلسفية، لإشهار الإفلاس الحضاري في العالم اجمع. ونسيت تلك العوامل أنها المسئولة أولا وأخيرا عن هذا الإفلاس أو تناسته، حتى لا تحمل نفسها أدنى مسؤولية في ارتكاب هذه الجريمة الشنعاء.
وليس من السهل على المرء أن يحمل العلوم أو الفلسفات مسؤولية الانهيار الحضاري، إلا إذا امتلك الأدلة المقنعة على أن الانهيار حدث دون شك بفعل هذه العلوم وتلك الفلسفات. ولكي يتسنى لنا إثبات ذلك، فإننا سنحتاج لبحث ضخم نستعرض من خلال صفحاته تاريخ الحضارة من محاولة تحديد نشوئها، إلى الأحداث التي ساعدت على ازدهارها وارتقائها، وحتى سقوطها وتلاشيها. وبما أن هذا الأمر ليس هو المقصود من بحثي في الدرجة الأولى. بل المقصود نقد كتاب " ألبرت اشفيتزر " المعنون ب " فلسفة الحضارة " فاني سأحاول وضع الخطوط العريضة لأسباب الانهيار الحضاري كتوطئة للدخول بالبحث النقدي، وسأحاول خلال تعرضي لنقد الكتاب التوسع ببحث بعض الخطوط بما يتناسب مع الموضوع.
من الصعب تحديد نشوء الحضارة على هذا الكوكب الأرضي، لافتقارنا للمعلومات الواسعة الشاملة عن ماضي البشرية في الأزمان الغابرة السحيقة، وعن تفاصيل تطلعاتهم الحياتية آنذاك للكون والإنسان، عنصري الحضارة الرئيسين، فمع كل ما نملك من أدلة أتت لنا عن الكشوف الأثرية، يعطينا صورة بعض الشيء عن العمل الإنساني، ولكنه لا يمنحنا بصيصا من نور عن التفكير الذي كان سائدا في تلك الآونة. ومع أن العمل الإنساني قادر على عكس الحالة الفكرية للإنسان العامل، فانه لا يصل بنا إلى درجة اليقين والثبات على دروب البحوث التحليلية الوافية لفكر الإنسان السابق.
ولكننا نستطيع أخذ التاريخ القديم والكشوف الأثرية كعامل مساعد على إثبات وجود الحضارة كأمر حتمي حين انتقل الإنسان من بدائيته الأولى عندما كان يعيش في تجمعات صغيرة محدودة بالعائلة بمعزل عن أبناء جنسه الإنساني، للعيش ضمن جماعة كبيرة تشكل وحدة إنسانية متكاملة متعاطفة متضامنة لإثبات وجودها الأسمى على هذه الأرض. من هنا نستطيع القول والزعم: بان الحضارة بدأت جذورها الأولى منذ أقدم الأزمان وأبعدها. لأن التجمع وحده دليلا على الحضارة.
وفي تلك الأزمان الغابرة، كانت حياة الإنسان يسيرة بسيطة، غير معقدة، ولا تحتاج كبير جهد لفهم الواقع المحدود الذي يحيا به الإنسان. وكان عليه حين يود صنع آلة تساعده على تطوير حياته أن يبدأ بصنعها من أصولها خطوة خطوة، حتى يصل بها إلى شكلها النهائي الذي يرتضيه، الأمر الذي يجعله يشعر بإبداعه العملي وربوبيته للصنعة التي صاغها بجهده ونصبه. وكان التعامل السائد بينه وبين الطبيعة تعاملا مباشرا يزيده اطمئنانا وسعادة، ولم يكن حتى ذلك الوقت قد ظهر التنظيم الهيكلي للمجتمع المؤطر، مما ساعد الحضارة على الترعرع بأحضان تلك التجمعات بشكل غريب في السرعة دقيق في السلامة متناه بالاستقامة.
ولما اتسع نطاق تلك التجمعات وتكثف، ظهرت الحاجة الماسة لإيجاد نوع من البنى الأساسية للحياة الاجتماعية من اجل مواجهة أفضل للمصاعب الجديدة التي بدأت تواجه الإنسان، فظهرت بدلا من التجمعات "مجتمعات" سكنية ثابتة أو متنقلة، لكنها متماسكة من حيث معتقداتها وأرائها الفكرية، ونوع سلوكها الاجتماعي، وتقاليدها، وعاداتها، ونشأ بين هذه المجتمعات نوع من العداء والضغينة والتحاسد، أدى إلى نشوب الحروب بينها بسبب اختلاف الاعتقاد وتباين الآراء. فكان لابد من انتهاج سبيل جديد يوقف النزيف الحربي بين المجتمعات، لإتاحة الفرصة للإنسان أن يحيا بهدوء وطمأنينة. وقد أدى هذا إلى ظهور المصلحين والفلاسفة والكهان والعلماء، الذين أتاحوا بفضل ظهورهم للحضارة استمرارية النمو والتطور بنفس السرعة والسلامة والاستقامة.
فظهور رئيس المجتمع- الذي عادة ما يكون عالما أو كاهنا أو فيلسوفا- دليل على نمو وتطور المفاهيم الحياتية لدى الإنسان، واتساع مداركه لكل جديد يستطيع أن ينتقل به من ركود إلى انطلاق، ومن استعباد إلى تحرر، ومن جاهلية إلى حضارة.
وكان فضل الله عظيما ورحمته واسعة، حين منً على العباد برسل اصطفاهم من بني خلقه، ليبثوا المفاهيم والسلوكيات التي وصلت بالحضارة إلى أقصى ما يمكن أن تصل إليه. لأن الرسالات السماوية استطاعت أن تلبي للإنسان كل احتياجاته من كافة جوانبه، الروحية، المادية، والفكرية، واستطاعت كذالك تلبية كل هذه الاحتياجات على أساس إنساني. فقد عرفت الإنسان بأصله و مصيره، و الهدف من خلقه بإسهاب و تفصيل، و عرفته بأصل الكون و نشأته و مصيره بكل دقة و كمال. ثم انطلقت توضح للإنسان كيفية بناء الذات القادرة على كبح جوامح النفس و نزعاتها الإنسانية، وحددت سلوكياته كفرد مع نفسه ومع غيره ممن في المجتمع من أفراد، وحددت سلوكية الدولة مع غيرها من الدول التي لا تدين بنفس الدين. فكان أن ازدهرت الحضارة وعلا شأنها كما لم يعلو من قبل، وتماسك المجتمع و صلب، وتخلص من كل أدرانه و استر خاءاته وتناقضانه التي كانت تعيق تقدمه الحضاري.
ثم بدأت الحضارة تضعف شيئا فشيئا بسبب ابتعاد الإنسان عن مبادئ الأديان، تلك المبادئ التي تمثلت برسالة الإسلام الخالدة، تلك الرسالة التي نسخت جميع الرسالات التي سبقتها لتبقى ثابتة غير قابلة للتغيير في أي زمان ومكان. و ما أن ظهرت الثورة الصناعية ثم الثورة التكنولوجية حتى أنفصل الإنسان عن مبادئ الأديان انفصالا تاما، فارتدت الإنسانية للوراء و رجعت الحضارة القهقرى. لأن الثورة التكنولوجية ركزت على الاتجاه المادي في التقدم دون أن تعير الجانب الروحي أي التفات، وكان التقدم المادي غاية في السرعة إلى حد لم يستطع الإنسان إستيعابه واحتواءه، فأصبح الإنسان غريبا على ذاته و على أحداث مجتمعه، و استشرى داء هذه المعضلة و ظل سائرا على نفس المنوال مما أدى إلى ضياع ذاتية الإنسان و إنسانيته، وهما أسمى أمرين لثبات ونهوض الحضارة. وأصيبت البشرية من جراء ذالك بفراغ روحي لم تعهده من قبل.
و قد أدى هذا الفراغ الروحي العميق إلى تعطش الناس لأي قطرة إنقاذ. فانتهز كثير من الكتاب و الفلاسفة و العلماء _ بعد أن أصبحت العلوم مجزأة كل علم قائم بذاته _هذا الفراغ، و وجدوا الفرصة سانحة لطرح أي جديد على البشرية، و بدأوا بإرسال مذاهبهم على هواها، وفلسفاتهم على نزواتها وعلومهم على علاتها، بلا أي وازع من ضمير، أو أي حرص على مستقبل البشرية الحضاري.
و التفت الناس، فوجدوا أنفسهم حائرين بأي المذاهب يأخذون، وتعقدت عليهم الأمور بنفس التعقيد الذي أحدثته الثورة التكنولوجية من الناحية المادية. فلم يسعهم الأخذ من المبادئ إلا ما يوافق ميولهم و أهوائهم، فانقسمت البشرية إلى كثير من الكتل المتنافرة، و بدأ التناحر و انتشر الحقد، وعمت الفوضى و استولى على مجامع القلوب حب السيطرة، فاشتعلت الحروب و أهدرت كرامة الإنسان، وأصبح كما كان سابقا في بدائيته، مفلسا من كل القيم، وخال من كل المثل. إلا قيم الدمار، و مثل السيطرة. فكان نتيجة ذلك، أن تقوضت أركان الحضارة.
هذه _ باختصار شديد _ نبذه عن الحضارة، مفذلكة فلسفيا بأسلوب مؤدب يسهل تناوله على القارئ، وان لم يكن قد قرأ شيئا عن موضوع الحضارة، أثبتناه ليسهل عليه وعي النقد الذي سنطرحه كما قلنا لكتاب "فلسفة الحضارة" راجيا الله جل شأنه أن يوفقني في ذلك.
فلسفة الحضارة
الفصل الأول
يبدأ الكاتب بعرض تحليلي منطقي لمفهوم الفلسفة و دورها بين القديم والحديث، و يبين كيف أن الفلسفة بمفهومها القديم استطاعت أن تمنح الحضارة شيئا من القوى الباطنة الدافعة و المحركة. و كيف أن تطور المفهوم الفلسفي المعاكس للمفهوم السابق قد لعب دورا فعالا في هدم كثير من أسس البنيان الحضاري الشامخ، فيقول " لقد كانت الفلسفة هي التي تقود الأفكار وترشدنا خلال القرن الثامن عشر والشطر الأول من القرن التاسع عشر، كانت تهتم بالمسائل التي تتبدى للإنسانية في كل فترة، و تحمل فكر الإنسان المتمدين على إدامة النظر فيها.و كانت الفلسفة في ذلك العصر تتضمن في داخلها تفلسفا أوليا عن الإنسان و المجتمع و الجنس و الإنسانية و الحضارة،أنتج بطريقة طبيعية تماما نوعا من الفلسفة الشعبية الحية تهيمن على التفكير العام و تحافظ على الحماسة للحضارة.
لكن هذه النظرة الأخلاقية المتفائلة إلى الأشياء، والتي وضع أصحاب الكشف العقلي فيها تلك الأسس لتلك الفلسفة الشعبية السلمية، نقول أن هذه النظرة كانت عاجزة مع مضي الزمن عن مواجهة النقد الذي وجهه إليها الفكر المجرد".ص(13_14).
يتضح لنا مما سبق أن الفلسفة كانت تضطلع بدور كبير، سواء على نطاق إيجاد الصيغ الخاصة بالمعتقدات و القيم التي يجب أن تسود روح العصر، أو على نطاق إيجاد مقومات أساسية لنظرتها المتفائلة للحضارة، فهي إذن حسب تحديد أشفيتسر من أشد العلوم تأثيرا في القيم الحضارية آنذاك، لأنها علم العلوم- وأي علم_كان ذلك سابقا_لابد له من الانضواء تحت اللواء الفلسفي أن أراد أن يكتب له نجاحا أو حياة.
ولكن، لماذا وقع اختيار اشفيتزر على الفلسفة بداية لبحثه؟ لقد اختارها لأنها كانت زمن عزها واستعلائها تمتاز بنظرتها الشمولية الكلية لأي أمر من الأمور، فهي تسعى دائما لمعرفة حقيقة وكنه الأشياء، واصلها ومصيرها، والهدف من وجودها، ولم يكن الظاهر سوى أداة تستغلها الفلسفة للوصول إلى بواطن الأشياء وسرائرها، وليس المحسوس شيئا سوى سبيل للارتقاء إلى عوالم اللامحسوس، واستطاعت بفضل ذلك أن تضع نظرية خاصة بالكون. إلا أن هذه النظرية بقيت غبر متماسكة، لأنها – إي الفلسفة- لم تكن بعد قد حصلت على معرفة شاملة كلية عن هذا الكون. من أين أتى؟ وماذا كان قبل أن يتكون بصورته الحالية؟ وما الذي كان قبل أن يكون؟ وكيف تتطور لشكله الحالي؟ أوجد صدفة؟ أم هناك موجد له؟ ومن هذا الموجد؟ وما هي صفاته؟ وما الغاية من إيجاده لهذا الكون؟ كل هذه الأسئلة وغيرها استطاعت أن تفت الكثير من عزيمة الفلسفة أثناء وضعها لنظرية تتعلق بالكون. مما أدى إلى فجاجة النظرية وهزالها.
ثم اتجهت لتبحث في الإنسان من حيث طبيعته، وعقله، وخلاله، وسلوكياته، وكيف يحدث العقل اهتزازات التفكير؟ وهل يستطيع العقل أن يصل للمطلقية غير المحدودة؟
ولم تلبث أن تحولت للعلوم فحطمت كل مقاييسها التقليدية، وضمتها تحت رايتها لأنها الأشمل في النظرة، والكلية في التطبيق، ولم تكن لتكتفي كالعلوم بدراسة الظواهر الكونية والنظم التي تتحكم بها، بل بحثت وبكل عمق بأصل تلك الظواهر الكونية وهذه النظم، ولم ترض كذلك بنظرية العلم نحو الإنسان، فبحثت فيه على انه أمر مستغلق، يجب فك كل طلاسمه حتى يسهل فهمه، فحاولت دراسة العقل والإدراك، والوعي، وارتباط كل هذه الأمور بحقائق المجودات التي تحيط به.
وقد ظهر فلاسفة عديدون منذ الزمن القديم- وخاصة باليونان- أخذوا بجوامع الأمور، ووضعوا نصب أعينهم وجوب البحث الكامل الشامل عن فلسفة خاصة بهذا الكون الغريب، فوضع "طاليس " نظرية " العقدة الكاذبة "، ثم جاء "انكسيمنس"، وجاء " انكسيمندر " وتبعه "ديموقريطس " ثم "أناكساغورس ". وقد حاول كل واحد من هؤلاء أن يضع نظريته الكونية الخاصة به وفق ما لديه من معلومات وتصورات. فمنهم من نجح في الوصول إلى حقيقة القوة الكبرى التي تسيطر على الكون، بحكم إيجادها له. ومنهم من عزا كونية الوجود إلى الصدفة العمياء، ومنهم من اختلط عليه الأمر في شأن القوة الكبرى المبدعة لهذا الكون. وهنا أمر لا يستحق إغفاله، وهو " المدينة الفاضلة " التي دعا لإقامتها الفيلسوف اليوناني " أفلاطون ". فهي دليل أكيد على اتجاه الفكر الفلسفي نحو إيجاد مجتمع حضاري خال من كل الشوائب والعوالق، وان كان لا بد من دراسة مفاهيم هذه المدينة، فالأولى أن تدرس من هذا الاتجاه.
إلا إننا لا نسعى لنتيجة الفكر الفلسفي، بقدر ما نسعى لإثبات دور الفلسفة الفعال في تدعيم عجلة التقدم الحضاري بقوى باطنية حيوية على ارض الممارسة العقلية والتطبيق الأصيل. فشمولية الفلسفة استطاعت أن تحول المفاهيم الخاصة بالكون والإنسان إلى مبادئ بسيطة، كونت فيما بعد "فلسفة شعبية " على نطاق عام. وهذا بالذات ما دعا المؤلف للاهتمام بتقديم الفلسفة على غيرها كعامل من العوامل المسئولة عن انهيار الحضارة. فنراه يؤكد ذلك حين يقول: " وأخيرا فان قيمة أي فلسفة هي في النهاية أن تقاس بقدرتها، أو عجزها، عن أن تتحول بنفسها إلى فلسفة حية للشعب ". ص (18).
وقد أدى دور الفلسفة هذا إلى ازدهار الحضارة ازدهارا واسعا، لأن الفلسفة زودتها بقوى داخلية مكنتها من السير السريع بثبات، وليس تلك القوى شيئا غير تحويل الفلسفة من نطاق خاص إلى" فلسفة شعبية " عامة.
وظلت الفلسفة كذلك صاحبة الشأن الأكبر، والكلمة الأولى، إلى أن ظهر مذهب الفكر المجرد الذي نظر إلى الفلسفة من ناحية غير الناحية التي نظر منها أصحاب الكشف العقلي. فتبدت لهم هفوات خطيرة، وفجوات واسعة في البنيان الفلسفي. فوجهوا إليها النقد اللاذع، وحطموا كثيرا من أسسها دون أن يزودوها بأسس جديدة بدلا من تلك التي حطموها. وظلت هي عاجزة عن التغيير السريع الشامل بخصوص بنيانها بسبب اعتمادها على توكيديتها الساذجة لإثبات نفسها وفرض مبادئها. فزاد هذا من ثورة المذهب الفكري المجرد نحوها، واستبد أصحاب هذا المبدأ وتسابقوا للإطاحة بصرحها الشامخ. وكان " كانط " احد أصحاب هذا المبدأ، ولكنه أحس بالخطر الذي سيؤول إليه أمر الحضارة لو تداعت قيم الفلسفة الأخلاقية وحل محلها الفكر المجرد، فحاول تزويدها بقوى جديدة من عنده، إلا انه فشل لأنه لم يدرك الخطر إلا بعد فوات الأوان.
ثم جاءت النظرة الميتافيزيقية للوجود المجرد متمثلة " بفشته، وهيجل " وغيرهما، فنقدوا الفلسفة عن طريق المخادعة، واستمروا بخداعهم لأنفسهم ولغيرهم طوال ثلاث عقود من السنين، وظل أمرهم قائما إلى جاءت العلوم الطبيعية لتنسف مبادئهم من أصولها، وأثبتت عدم قدرة هذه المبادئ على خلق" فلسفة شعبية " للمجتمع، وبالتالي عدم قدرتها على حل مشكلات الحضارة إلا عن طريق هدم الحضارة ذاتها.
ومنذ ذلك الحين، بدأ الانسلاخ المتواصل للعلوم عن جسد الحضارة ليشكل كل موضوع علما قائما بذاته. مما أدى إلى إصابة المبادئ الفلسفية الأخلاقية الخاصة بالحضارة بالوهن والإعياء. لأنها لم تقف أمام تلك النظريات موقفا صامدا صريحا. بل فضلت لنفسها التقنع، واعتمدت على توكيديتها الساذجة أمام فكر مجرد- ميتافيزيقي- لا يقيم وزنا للتوكيد، فانعدم التواد والتعاطف الذي كان قائما بين المثل الأخلاقية والحقيقة الواقعية. مما أدى دون أدنى شك إلى انهيار الحضارة.
وتحولت الفلسفة من قائد للفكر، وأب للعلوم، إلى إقامة نوع جديد من الفلسفة لا يمت للفلسفة القديمة بأصل. نوع يجعلها فكرا ثانويا لا حاجة له، وأصبحت تعتمد على نتائج العلم بعد أن كانت تمنحه الأصول الثابتة والنتائج المتينة. وقد سجل اشفيتزر ذلك حين قال: " لقد كانت الفلسفة ذات يوم عاملا فعالا في إنتاج معتقدات عامة عن الحضارة. أما الآن، وبعد الانهيار الذي حصل في منتصف القرن التاسع عشر، أصبحت هذه الفلسفة نفسها مجرد ساحب لأرباح الأسهم، مركزة كل نشاطها على ما استطاعت ادخاره بعيدا عن هذا العالم الواقعي. لقد أصبحت مجرد علم يستخلص النتائج التي وصلت إليها العلوم الطبيعية والعلوم التاريخية، ويستمد منها المادة اللازمة لوضع نظرية في الكون مقبلة. وبذلت نشاطها في مختلف فروع المعرفة واضعة هذا الهدف نصب عينيها. وفي نفس الوقت استغرقت شيئا فشيئا في دراسة ماضيها، حتى أصبحت الفلسفة عمليا هي تاريخ الفلسفة. لقد غادرتها الروح المبدعة وأصبحت خاوية من التفكير الحقيقي. لقد راحت تتأمل في النتائج التي وصلت إليها العلوم الجزئية ولكنها فقدت القدرة على التفكير الأصيل ". ص (16-17)
فلا جرم بعد كل هذا التحليل على المؤلف حين يقول: "إن العامل الحاسم في إحداث هذه النتيجة- قصد انهيار الحضارة- هو انحراف الفلسفة عن القيام بواجبها". ص (13)
فلسفة الحضارة
الفصل الثاني
يبحث المؤلف في هذا الفصل، عوائق الحضارة الروحية والاقتصادية في حياتنا، ويركز على ضرورة الجمع بين كليهما، لأن هناك تبادلا فعالا وفعليا بينهما فيقول، " وتطور الحضارة إنما يقوم به عامة أفراد من الناس يفكرون في المثل التي تهدف إلى تقدم المجموع، ويكيفونها مع وقائع الحياة على نحو يجعلها قادرة على التأثير الأقوى في ظروف العصر، ولهذا فان مقدرة الإنسان على أن يكون رائدا للتقدم، أعني أن يفهم ماهية الحضارة وأن يعمل لها، تتوقف على كونه مفكرا وعلى كونه حرا. إذ ينبغي أن يكون مفكرا ليكون قادرا على فهم مثله وتصويرها، وينبغي أن يكون حرا ليكون في وضع يتهيأ له منه أن يدفع بمثله في الحياة العامة. وكلما ازداد نشاطه في الكفاح من اجل الوجود، ازداد عنده الدافع إلى إصلاح أحواله طلبا لنصيبه من مثل هذا الفكر. وحينئذ تختلط مثل المصلحة الذاتية مع مثل الحضارة وتفسدها.
والحرية المادية ترتبط بالحرية الروحية ارتباطا وثيقا. فالحضارة تفترض أناسا أحرارا، لأنه بالأحرار وحدهم تتحقق الحضارة وتصنع ". ص(20-21)
ولكن ما هي الحرية التي قصدها المؤلف؟ إنها حرية الإنسان في العمل والتفكير والإبداع التي كانت تسود المجتمعات القديمة. والتي سلبت من الإنسان قسرا بفعل طوارئ الحياة الجديدة المعتمدة على الناحية المادية دون الناحية الروحية أو الإنسانية. فالحضارة المادية التي حققها الإنسان لنفسه أنتجت بشكل طبيعي نوعا من السلبيات الخطيرة في مفاهيم الحضارة، وممارسة الإنسان للوصول إليها. فقد استطاع التقدم المادي أن يمنح قشورا من حضارة زائفة، ولكنه لم يستطع دعم الجوهر الأخلاقي للحضارة بشيء، بل عمل –عن قصد أو غير قصد – على تفكيك الشعور الأخلاقي الإنساني حين حول الإنسان من سيد للعمل، إلى أداة لا تختلف عن أي أداة وسط التعقيدات الصناعية الهائلة. كل هذا أدى إلى ضياع الحرية السابقة، واظهر الدلائل على ذلك، المدن الصناعية الواسعة. فان تلك المدن لا تملك رافدا فكريا أخلاقيا، لأنها فقدت الصلة التي كانت قائمة بينها وبين الإبداع العملي والفكري الناشئ عن ارتباط الإنسان بالأرض والطبيعة الواصلة به مع مثل الحضارة الخلقية، ولهذا أحدث غياب الحرية هوة واسعة بين المجتمع وأحداثه أدت إلى أضرار نفسية خطيرة في عالم الإنسان.
والفقر الناتج عن فقدان الحرية، أنتج نوعا من الإرهاق لكثير من الناس، لأنهم لم يكونوا في وضع جيد من الناحية الاقتصادية. فاضطروا للعمل ساعات طويلة طوال سنوات عديدة. فكانت حياتهم خالية من كل القيم الفكرية والروحية، نتيجة لعدم اتساع الوقت لتنشئة تلك القيم بأنفسهم. فأصبحوا آلات تتحرك وفق معايير وأوقات خاصة نفس التحرك كل يوم. مما أدى إلى خروج أجيال كاملة للمجتمع من أبناء هذه الطبقة مغسولين بكل المطهرات من أي قيمة حضارية أو أخلاقية. فالوقت وضع الإنسان في قيود ثقيلة شلت كثيرا من أطراف حريته. فأفقدته صلته بالفكر والحضارة ودفعته بكل ما في سواعدها من قوة داخل عمل ميكانيكي آلي قيمه الرتابة ومثله التكرار الممل.
وبذلك ضعف التفكير، وغاب الإبداع الفكري، وأصبح الإنسان لا يهمه أمر الحضارة بقدر ما يهمه إهدار الوقت في التسلية التي لا تطلب منه شيئا من طاقة فكرية كانت أو روحية، وأصبحت السطحية شعار المجتمع الأول، وانزوى التفكير المبدع إلى مرتبة ثانوية بعيدة عن المجتمع، يقول اشفيتزر: " والدليل على أن هذا الافتقار إلى القوة المفكرة قد أصبح طبيعة ثانية في الناس الآن نجده في نوع التجمع الذي يحدثه. فانه إذا اجتمع شخصان للمناقشة، يحرص كل منهم على أن يرى أن حديثيهما لا يتجاوز نطاق العموميات أو لا يتحول إلى تبادل فعلي للأفكار. فليس عند احدهم ما يعرضه، وكل إنسان يتسلط عليه نوع من الخوف حتى لا يطلب منه شيء أصيل مبتكر ". ص(23).
ويتابع اشفيتزر واضعا عائقا آخر في سبيل تحقيق الحضارة. وهو تقصي التطور والنمو للإنسان الحديث بسبب الازدياد الهائل بالمعرفة الإنسانية امتدادا وعمقا. فالمعرفة الحديثة لم تعط الإنسان القيمة الخاصة به كانسان. بل وجهت النظر إلى انه ليس سوى كفاءات خاصة في إنسان خاص، وهذه النظرة تتسم بالمادية اللاإنسانية لأنها خاوية من المعنى الروحي الشامل للإنسان. وبذلك ضاعت القوى المبدعة والأصيلة من جوهر التكامل الإنساني ككل، وأوضح ما يكون هذا العائق في تحصيل العلم. يقول اشفيتزر: " يمكن أن نتعرف على الخطر الروحي الناجم عن التخصص، مما يهدد ليس فقط الأفراد بل وأيضا الحياة الروحية للجماعة، ولقد لوحظ من قبل أن التربية أصبح يقوم بها الآن معلمون ليس لديهم من سعة الأفق ما يجعل تلاميذهم يفهمون ما هنالك من روابط وثيقة متبادلة بين العلوم الجزئية، وليسوا أكفاء ليبثوا فيهم أفقا عقليا واسعا كما يجب أن يكون الاتساع ". ص (25).
وبفعل تلك العوائق اخرج التقدم العلمي المادي للمجتمع نوعا من الإهمال بالناحية الإنسانية في الإنسان. وأصبح خطر زوال الإنسانية من الأمور الطبيعية. فتحسن وسائل الاتصال والمواصلات إلى ما هو عليه الآن أدى إلى خلق طبع جديد وهو السباق مع الزمن ومحاولة اللحاق بالتطورات السريعة في المجتمع. مما يذهب بذور التفكير بمثل الحضارة وقيمها، لأنه لا وقت أصلا لمثل هذا التفكير. فأبعد بذلك الإنسان عن الإنسان، وأصبح كل واحد غريبا عن الآخر، فساد شعور المصلحة الذاتية على مصلحة الجماعة. ولذلك انعدم الترابط الإنساني أو غاب عن واقع الحياة العملية. يقول اشفيتزر: " فان كلا منا يقابل الآخر باستمرار وفي مختلف أنواع المناسبات، يقابله كأنه غريب عنه. فان الظروف الراهنة لا تسمح بان يلقى بعضنا بعضا لقاء الإنسان لأخيه الإنسان، لان القيود المفروضة على نشاط الإنسان العادي أصبحت من العموم والوثوق بحيث اعتدنا عليها، فلم نعد نشعر بعد بان الاتصال الآلي اللاشخصي القائم بيننا هو أمر غير طبيعي، ولم نعد نشعر بالضيق لأننا في كثير من المواقف لا نكون أناسا بين أناس، بل إننا كففنا عن محاولة أن نكون كذلك حتى لو كان ذلك ممكنا أو مندوبا ". ص(26).
ويظهر العائق الأخير في هذا الفصل بصورة تدل على دقة الكاتب التحليلية، وتفهمه الناضج للأسباب الحقيقية للانهيار الحضاري. وهو عائق الخلط في التنظيم الذي حدث في المجتمع. ذلك التنظيم الذي لم يكن يتجه بنفسه نحو وجهة حضارية، بل كان يتجه بشكل خارجي غير جوهري ليتطور على حساب الاتجاه الروحي والإنساني. فاتساع التنظيم الشكلي يزيد من كبت القوة الإبداعية المنتجة. ويعمل على نقل القوة الإبداعية الفردية كذلك لدى الإنسان كفرد، مما يؤدي إلى فقدان الإنسان لذاته وانصهاره في الجماعة ومعتقداتها. واخذ " الرأي العام بنشر الفكرة القائلة بان أعمال الجماعة ينبغي ألا تقاس بمعايير الأخلاق، بل بمعايير الفائدة العلمية ". ص(32).
وبذلك ضاعت قيم الأخلاق وطفت المادة على الروح، وساعد الوضع الاقتصادي بتحويل الإنسان، من إنسان تمتلكه مشاعر خلاقة حضارية إلى فرد في مجموع فقد إنسانيته وضاع في معتقدات خاوية جماعية شوهاء. وبذلك انفصل الإنسان عن ذاته انفصالا تاما. ولو شاء إعادة بناء الحضارة، فانه سيحتاج لزمن طويل ليبدأ بناء ذاته كفرد مستقل ضمن مجموعة مستقلة قائمة على أساس أخلاقي لا مادي. وهو أمر أوصل الإنسان نفسه بنفسه إليه، فهل يستطيع إخراج نفسه منه بنفسه؟!
فلسفة الحضارة
الفصل الثالث
يبحث هذا الفصل أهم الأمور المتعلقة بالحضارة وأخطرها على حد سواء. بوضع تعريف خاص بالحضارة، ثم ينطلق باحثا في مقوماتها، كاشفا عن ماهية العمل الحضاري والغاية القصوى منه، وكل هذه الأمور تشكل محاورا أساسية في سبيل فهم الإفلاس الحضاري كما تضع تصورات تمهيدية خاصة لمحاولة الدخول بالفصل الرابع الذي يبحث كيفية إعادة البناء الحضاري وفق مبادئ وخطوات مدروسة وسليمة.
فالحضارة كما يعرفها اشفيتزر: " هي التقدم الروحي والمادي للأفراد والجماهير على السواء".(34) وتعريف الحضارة هذا فيه كثير من دقة النظر والوعي الخالصين. لأنه ربط التقدم المادي الذي يمكن أن يحدثه الإنسان بضرورة تقدم روحي مواز له، كي يتم التوافق بين مظهر الإنسان والتقدم، وجوهر الإنسان والتقدم. فالتقدم المادي هو الأثر والانعكاس الذي يتجلى على مرآة الواقع الشكلي للتقدم الروحي الذي يشكل الجوهر لدى الإنسان. وأي اعتبار آخر لا يستطيع الصمود أمام الحقيقة. لان التقدم المادي مهما علا شانه واتسع نطاقه امتدادا وعمقا. فانه لا يستطيع أن يفرز أثناء رحلته التقدمية شيئا من التقدم الروحي، لذلك فان ضرورة التقدم الروحي أولا هي الأساس الأول الذي يجب أن يقام عليه البنيان الحضاري الشامخ. وليس هناك شيئا غيره يملك من الطاقة الضخمة التي تؤهله للارتفاع دوما بهذا البنيان. فالضرورة حتمية، والخيار واضح. إما تقدم روحي أولا فحضارة، وإما تقدم مادي خال من قيم الروح والحضارة.
ثم يستطرد اشفيتزر كاشفا عن مقومات الحضارة وغاياتها القصوى فيقول: " أول مقوماتها – قصد الحضارة – أنها تقلل الأعباء المفروضة على الأفراد والجماهير والناشئة عن الكفاح في الوجود. وإيجاد الظروف المواتية للجميع في الحياة قدر الإمكان مطلب يطلب لنفسه من ناحية، ومن ناحية أخرى يطلب من اجل كمال الأفراد روحيا وأخلاقيا وهو الغاية القصوى من الحضارة.
والكفاح في الوجود مزدوج: فيجب أن يؤكد الإنسان نفسه في الطبيعة وضد الطبيعة، وكذلك بين إخوانه في الإنسانية وضدهم.
وتحقيق الكفاح يتم بتقوية سيادة العقل على الطبيعة الخارجية والطبيعة الإنسانية، وجعله يخدم الأهداف المطلوبة بكل دقة ممكنة.
ولهذا فان الحضارة مزدوجة الطبعية: فهي تحقق نفسها في سيادة العقل أولا على قوى الطبيعة، وثانيا على نوازع الإنسان".ص(34-35)
إن إثبات الكاتب لمقومات الحضارة على هذا الأساس يبين الجوهر الإنساني أو الجوهر الأخلاقي الذي يعتبره الكاتب بكل حماس أساسا للحضارة. فمهمة الحضارة انتشال الإنسان من وسط مستنقع الأعباء والهموم والمشكلات المتراكم إلى حيث الحياة الفضلى. وإتاحة فرصة العيش الكريم لجميع ( الإنسان) لا لشعب من الشعوب دون غيره، ولا لفئة من الشعب دون غيرها. لان الحضارة ليست خاصة بشعب من الشعوب، ولا بفئة من الشعب دون غيرها، بل هي ملك الإنسان أولا كفرد، ثم كمجتمع، ثم ( كانسان كل )، وإلا فإنها ليست حضارة، بل نظام من الطبقية الظالمة التي يختص بها أناس لهم من أنوع السلطان والجاه ما يؤهلهم لامتلاكها. وأما من لا سلطان له ولا جاه فهو ولا شك لا يستطيع اخذ شيء من ثمار تلك الخصوصية الحضارية الظالمة، وهذا لا يتنافى مع الحضارة فقط، بل هو ليس من الحضارة بشيء.
وشمول الحضارة لجميع فئات البشرية قادر على السمو بالأفراد نحو نوع من الكمال الروحي والأخلاقي الذي سيقيم بدوره بنيانا حضاريا شامخا على أساس روحي وأخلاقي من نفس نوع الكمال الذي توصلوا إليه.
والكفاح المزدوج في الوجود الذي عناه الكاتب، هو ضرورة تنشد لا لذاتها بالأصل، وإنما لما تقدمه للإنسانية من ثمار صالحة. فإثبات وجود الإنسان في الطبيعة وضدها أمر طبيعي حتى أثناء غياب الحضارة. وقد كان ذلك شعورا دافعا للإنسان البدائي ليتحول من فرديته إلى تجمعات من جنسه، ثم مجتمعات لها تقاليد ونظم وقوانين خاصة بها. ولكنه يصاغ بمفهوم آخر حين يشترك وجوده بوجود الحضارة، وهدفه يمتزج بهدف الروح والأخلاق. فالأول لا يحتاج إلى التفكير بالمبادئ التي قد تنجم من جراء سيطرته على الطبيعة والقوى الكامنة فيها ضد الانساننية بمفهومها الشامل، لان محدودية نظرته نحو الإنسان تقتصر على نفسه وأبناء مجتمعه، وبالتالي فان ما يحدث لغير هؤلاء فهو ليس بمسئول عنه، أو لا يهمه أصلا وجودهم أو عدمه. لذلك فان تلك النظرة المحدودة سوف تحول الإنسان إلى حيوان يملك نوازع أثيمة لا تقيم للإنسانية وزنا في معتقداتها. وهي بذلك تقذف بالإنسان إلى حياة أشد ترويعا ورعبا من حياة الإنسان البدائي وسط حيوانات الغابة المفترسة.
أما الثاني فان الهدف من سيطرته على الطبيعة وقواها الكامنة يكون في سبيل التقدم الإنساني نحو الأمام. لأن مفهومه الروحي الأخلاقي للحضارة ينفي عنه صفة البربرية والهمجية والذاتية العمياء، ويعمل من أجل استخلاص القوى الطبيعية التي من شانها أن تصنع الخير للإنسان أكثر من إمكانية تهديدها للبشرية جمعاء بالفناء والزوال. وبين الفئتين بون شاسع لا يقاس بمقياس غير مقياس الروح وأخلاقية العمل الحضاري.
وتوكيد الإنسان لنفسه بين إخوانه في الإنسانية وضدهم، لا يحتاج أن نقول ما قلناه عن الطبيعة لأنه نفس المفهوم تماما. ولكن الجديد فيه هو وجوب توحيد الطاقات البشرية في العالم اجمع من أجل إحراز تقدم حضاري متكامل، ووضع كل ما تتوصل إليه الأمم متشاركة من اجل هذا الهدف. وليس عيبا على الحضارة الروحية الأخلاقية أن تكون هناك أساسيات لكل امة تمتلكها من اجل دفع الضرر عن نفسها لو واجهت عدوانا من إحدى الأمم الأخرى، فإثبات وجود الأمة بين الأمم الأخرى لا يمنعها من إثبات نفسها ضدهم.
أما الخطأ الذي أوقع اشفيتزر نفسه به، فهو دعوته بسيادة العقل على الطبيعة والقوى المستخرجة منها، وعلى نوازع الإنسان وأهوائه. لان العقل لا ينفي السلبية في بعض الأحيان، بل ويؤكدها من وجهة نظر خاصة بمنظاره. وهو بذلك معرضا للخطأ بين الحين والآخر. لذلك يجب أن يكون هناك شيء آخر يتولى السيادة المطلقة على كل شيء وعلى العقل أيضا. وهذا لا يتأتى إلا للعقيدة الدينية أو المبدأ الرباني. لأن العقيدة لها أسلوب خاص ومتميز في توجيه النوازع الإنسانية نحو الخير. وكذلك كبتها لو أرادت أن تحيد عن ذلك التوجه. وقد استمدت خاصيتها وتميزها من كونها آتية من حيث القوة الكبرى التي لا قوة بعدها ولا قبلها. والحق الأعظم الذي لاحق قبله ولا بعده، والكمال المطلق حيث لا خطأ في صغير أو كبير من الأمور. وقد أثبتت الأيام أن سيادة العقل في المجتمع الإنساني قد دهورت خطى الحضارة وهدمت كثيرا من أسسها، وقوضت معظم أركانها. ودليل ذلك ما تعانيه البشرية اليوم من ماسي مختلفة الصور في الوقت الذي يسود فيه العقل العالم كما لم يسده من قبل. ولكن العكس كان واضحا يوم تسلمت العقيدة زمام الأمور وسادت على كل شيء، حتى العقل. واصدق الصور وأوضحها ظاهرة في فترة حكم الإسلام للكون من مشارقه حتى مغاربه.
إذن فالعقيدة هي الموجه الأول والأساسي للعقل الإنساني، وهي المتحكمة الوحيدة بتحديد سلوكيات الإنسان ونوازعه وأهوائه، وتوجيهها نحو ما تراه سليما، وليس العقل بقادر على ذلك، لان النوازع قد تغلب العقل أحيانا، أما أن تغلب العقيدة، فذاك المستحيل بعينه.
ويستمر اشفيتزر ليقرر أن التعصب القومي كان سببا من أسباب الانهيار الحضاري، فيقول: " ومن هذين، اعني الإحساس بالواقع، والإحساس التاريخي ينشا التعصب القومي الذي ترجع اله الكارثة الخارجية التي يتم بها انحلال حضارتنا ".ص(43). وهذا أيضا ما نختلف فيه مع الكاتب اختلافا كاملا، لأن التعصب القومي ليس سببا من أسباب الإفلاس الحضاري، بل هو مظهر من مظاهره. فوجود الأمم والقوميات المتباينة الآراء والمعتقدات والمذاهب والمبادئ سيؤدي بالضرورة إلى وجود حضارات متعددة خاصة مختلفة تمام الاختلاف عن بعضها في الجوهر، أو المظهر، وستتخذ كل حضارة من تلك الحضارات طابعا قوميا متميزا عن أي حضارة أخرى مما سيسوق البشرية إلى تنازع وتناحر مذهبي وحضاري. وبالتالي إلى نشوء حرب طاحنة من اجل الحفاظ على كل حضارة بتميزها للأمة التي أنشأتها. وهذا دليل واضح على أن التعصب القومي مظهر من مظاهر الإفلاس الحضاري، وليس سببا من أسبابه. والصحيح انه يجب أن يكون هناك معايير وقوانين ومبادئ ومثل خالصة، لا دخل للعقل البشري فيها سوى الزيادة المستنبطة من قواعد تلك العقيدة لمواءمة روح العصر وتقلبات الأحداث التقدمية المادية والفكرية الجديدة على البشرية، وهذا الأمر حقق قبل الآن في رسالة الإسلام الخالدة، وبذلك فان حقيقة تحقيقه السالف يؤكد إمكانية تحقيقه بهذا العصر أيضا لو أرادت البشرية أن تتخلص من عوالق حضارتها الزائفة وإرهاقها الروحي واضطرابها النفسي.
فلسفة الحضارة
الفصل الرابع
يتخصص هذا الفصل في إيجاد القواعد والأصول التي من شانها إعادة البنيان الحضاري المتهدم، كما يبحث في الصعوبات التي تواجه هذه الإعادة الجديدة.
يقول اشفيتزر: " وأولى هذه الصعوبات عجز هذا الجيل عن أن يدرك ما هو قائم وما يجب أن يكون. فرجال عصر النهضة ورجال التنوير في القرن الثامن عشر استمدوا الشجاعة للرغبة في تجديد العالم بواسطة الأفكار، استمدوها من كون الظروف التي عاشوا فيها ماديا وروحيا كانت ظروفا لا يمكن الدفاع عنها. كذلك بالنسبة إلينا نحن، إن لم تصل الكثرة لمثل هذا الاقتناع، فإننا سنظل عاجزين عن القيام بهذا العمل على مثال ما فعلوه، لكن الغالبية ترفض أن ترى الأمور على حقيقتها، ويتمسكون بكل قواهم بنظرة متفائلة كأشد ما يكون التفاؤل. على أن للتشاؤم نصيبا في المسؤولية عن هذه القدرة على تمجيد الواقع بمثل منحطة مع الشعور بان هذا الواقع نفسه لا يرضي. ذلك أن هذا الجيل على الرغم من افتخاره بما أنجز من أعمال، فانه لم يعد يؤمن بالأمر الجوهري كل الجوهرية، اعني بذلك التقدم الروحي للإنسانية. ولما تخلت عن ذلك استطاعت أن تتحمل العصر الحاضر دون أن تشعر بالألم الذي يحملها على نشدان عصر جديد، فيا لها من مهمة شاقة. مهمة تحطيم التفاؤل غير المبني على تفكير سليم، والتشاؤم غير المبني أيضا على تفكير سليم، تحطيما يمهد الطريق لتجديد الحضارة " ص(56-57).
وهذه الصعوبة التي أثبتها الكاتب ميزان في الدقة المتناهية، رغم اقتضابها وعدم وضوحها. فهو حين ينفي عن هذا الجيل القدرة على الرؤية الشفافة وسط الأجواء الضبابية المحيطة بمفهوم الحضارة، لتحديد الصالح من الأمور ووضعه كأساس لتكوين نظرة مستقبلية شاملة عن مصير الحضارة الآتي لا يتجاوز حدود المنطق والمعقول. لأن الجيل الحاضر مصاب بأزمات نفسية خطيرة حولته من إنسان ينشد السعادة والطمأنينة والهدوء، إلى حيوان مفترس تتحكم فيه نوازع الشهوة، شهوة السيطرة والاستعلاء على الأمم الأخرى التي لا تمت له بصلة سلالية مشابهة.
والمتأمل بالحضارة الحالية تأمل منصف، فانه سيجد أن السباق الحضاري الحادث هو سباق مادي صرف يحرص على إظهار القوة كحضارة، مبتعدا بذلك عن القيم الروحية الأخلاقية للحضارة ابتعادا كاملا. وانخرط الجيل الحالي في حالة من عدم التوازن لتقدير نفسه كانسان. وتقدير الأمة البشرية ككل، كصانعة للحضارة الحقة. واندلث الجيل وراء التيار التفاؤلي " المبني على أساس غير سليم " ملحقا بنفسه وبالحضارة كل الضرر والانهدام. وغابت النظرة الواقعية عن ساحة الصراع النفسي الذي تحياه البشرية، فازدادت عوارض من أمراض جديدة في جسد الحضارة، فأصيب الجسد بالإعياء حين هوى العامل الأساسي للصعود بالحضارة، ألا وهو سيادة العقيدة الربانية على كل مفاهيم الإنسان والكون والحضارة. ويستطرد اشفيتزر قائلا: " وثمة صعوبة كبرى في تجديد حضارتنا ناشئة من كونه أن يكون عملية باطنة، لا خارجة، ولهذا فلا مكان للتعاون السليم بين ما هو مادي وما هو روحي. ومن عصر النهضة وحتى منتصف القرن التاسع عشر كان القائمون على إنشاء الحضارة يتوقعون المساعدة للتقدم الروحي من إنجازات في نطاق التنظيم الخارجي والمطالب في كل دائرة من هذه الدوائر كانت قائمة جنبا إلى جنب في برامجها وكانت تدفع في نفس الوقت. وكانوا موقنين أنهم بينما يعملون لتحويل نظم الحياة العامة فإنهم كانوا يأتون بنتائج تؤدي إلى تنمية الحياة الروحية الجديدة ".ص(60)
وهنا يعود الكاتب للخطأ مرة أخرى، حين يطالب بالفصل بين القيم الروحية وبين التنظيم الخارجي محتجا بان عملية التغيير الحضاري يجب أن تكون جوهرية وليس شكلية. ولذلك فإننا في غنى عن مساعدة التقدم المادي للجانب الروحي. والحقيقة هي أن التقدم الروحي هو الأساس الذي تنبثق منه الحضارة المادية. وكلا الجانبين ضروريان لتكميل بعضيهما، لأن هدف الحضارة هو إقامة حياة فضلى للإنسان مما هو عليه في غياب الحضارة. ونحن لا ننفي النظرة القائلة بان التقدم المادي اثر تأثيرا كبيرا وسلبيا في قيم الحضارة الأصلية. وهذا التأثر ليس ناتجا عن التقدم المادي ذاته، بل ناتج عن سوء استخدام العقل البشري للتقدم المادي لغياب السيادة التي يجب أن تتمتع بها العقيدة الإلهية على العقل البشري. وهذا يؤكد للمرة الثانية خطا الكاتب حين يطالب بسيادة العقل على الطبيعة ونوازع الإنسان.
إن التقدم المادي جزء لا يتجزأ من التقدم الروحي والفكري من اجل القيام بحضارة سليمة ذات طابع خالص من كل شوائب الزيف والتجمل الكاذب. والشرط الوحيد لحدوث هذا هو سيادة العقيدة الربانية على طبيعة التقدم المادي والروحي للإنسان، ليستطيع توجيههما من نفس الوجهة الروحية الأخلاقية التي تتحلى بها العقيدة الربانية ذاتها، وأي نقص في أي جانب سيؤدي بالضرورة إلى ضياع أو بتر عضو من الأعضاء التي تنهض عليها الحضارة، مما سيصل بالحضارة إلى حالة الشلل والهبوط.
ويكمل اشفيتزر قائلا: " كذلك يعترض تجديد الحضارة أمرا آخر وهو أن الشخصية الفردية وحدها هي التي يجب أن ينظر إليها على إنها الفاعل في الحركة الجديدة.
إن تجديد الحضارة لا شان له بالحركات التي تحمل طابع تجارب المجموع، فهذه التجارب ليست إلا ردود فعل تجاه الأحداث الخارجية. لكن الحضارة لا يمكن أن تتجدد إلا إذا نشأت في عدد من الأفراد نزعة عقلية جديدة مستقلة عن تلك السائدة بين الجمهور وفي تعارض وإياه، نزعة عقلية تكتسب التأثير تدريجيا على النزعة الجماعية. وفي النهاية تطبعها بطابعها، ولا سبيل إلى النجاة من الهمجية إلا بحركة أخلاقية، ولا وجود للأخلاقية إلا في الأفراد ". ص(62).
وفي هذا خطأ ليس باليسير علينا إهماله، لأن عملية تحييد الفرد عن الجماعة، والجماعة عن الفرد، لا يؤدي بأي شكل من الأشكال إلى إحداث حضارة، لأن الفرد هو أصل الجماعة، والجماعة هي أصل المجتمع. والمجتمع السليم هو المجتمع الذي يستطيع أن ينهض بالإبداع الفردي على أساس سليم، وبنفس الوقت يستطيع أن ينهض بالإبداع الجماعي على أساس آخر سليم أيضا، ودمج الإبداعين الفردي والجماعي ببوتقة القوى العقيدية الدافعة بالحضارة إلى القمة والسموق.
أما تحييد العمل الجماعي عن الواقع العملي والممارسة الفعلية في المجتمع فليس بمؤد إلى إظهار أي نتيجة ايجابية خلاقة من شأنها دفع الحضارة للأمام. بل إن الآثار السلبية التي ستنشأ عن هذا الأمر هي التي ستغطي الواقع العملي في المجتمع، لأن وضع الإبداع كخصوصية في فئة من المجتمع (الكل) وحصرها بهم سيخلق داخل المجتمع نوعا من الطبقية الفكرية الخاصة وبذلك سيتحول الفكر من اثر عام ( فلسفة شعبية ) ليس ملكا لأحد دون احد، إلى جماعة معينة تتصرف وفق ما يتفق وطبيعتها وأحاسيسها ومصالحها الذاتية. وسيفقد الجزء الأعظم من المجتمع نفسه كعامل مشارك وفعال في الحياة العملية، ويبدأ بالانطواء والتحوصل على نفسه حتى يغيب عن الساحة العملية والفكرية في آن واحد. وستعجز تلك الفئة عندئذ عن إيصال مبادئ تفكيرها إلى غالبية الناس، وبذلك ستقضي على نفسها بالموت الذاتي. بالإضافة إلى هذا فان تحييد الجماعة سينشئ دون شك وبصورة تدريجية لا تلاحظ إلا بعد فوات الأوان نوعا من الدكتاتورية المستبدة في الفكر بين فئتها الضئيلة. وهذا بحد ذاته عيب وحاجز يقف في طريق التقدم الحضاري الذي ننشده كما كان سببا في تقويض الكثير الكثير من أركان الحضارة وأسسها.
وليس ضروريا ولا حتميا على العلماء أو الفلاسفة أو المصلحين حين يطرحون أفكارا خاصة بشان إصلاح الحضارة، أن تكون هذه الأفكار معارضة للرأي العام في المجتمع الذي يعيشون فيه، ولا أن تناقض المفاهيم السائدة من اجل أن تكون وليدة الصحيح والمعقول والمنطق، ولو كان هذا التعارض والتناقض دليل صحة في جسد الحضارة، فهو أيضا دليل الإعياء والإرهاق الكبيرين في العقلية التي تفهم الحضارة على هذا الأساس. ومرض العقلية الحضارية يعود بمؤشره وبسرعة رهيبة ليشير نحو الحضارة الزائفة التي تعتمد على الفهم الخاطئ.
فهناك كثير من المفاهيم والعادات والقيم تسود روح المجتمعات، وهي بحد ذاتها ركائز حضارية متينة يمكن من خلالها استئناف العمل واستكمال الدرب من اجل الارتفاع بحضارة تحمل طابع التكامل المنشود. وليس في التاريخ دليل يثبت أن الأمم القائمة إنما أقامت حضارتها سواء الروحية أو المادية من اللاشيء، ولكن كل الأدلة الآتية من التاريخ تشير أن الحضارة قامت على أساس الأخذ والزيادة والعطاء. فهي تأخذ من تجارب الأمم السابقة وتزيد عليها من اجل التحسين لتعطيها الصورة المطلوبة والأقرب للكمال. وأي حضارة تفقد شيئا من هذا فأنها ليست بحضارة، بل هي متقنعة بقناع حضاري لتخفي تحته ما تخفي من عيوب.
فطريق الحضارة بالتأكيد، ليس سلخ العمل الجماعي عن واقع الحياة العملية وإحلال الإبداع الفردي مكانه، ولا سلخ الماضي عن الحاضر السائد أو ما سيسود. بل هو تفاعل الفرد مع الجماعة، والجماعة مع الفرد بطريقة منسقة منطقية، تقوم على أساس روحي أخلاقي يستمد من خبرات الأجيال الماضية أسس تجاربها ليحسنها ويصوغها بشكل يناسب العصر الذي يحياه. وإلا فان قيام الحضارة في يوم من الأيام سيظل مطلبا عسيرا عزيزا على البشرية جمعاء.
فلسفة الحضارة
الفصل الخامس
يبحث هذا الفصل في موضوع النظرة الحضارية للعالم، ويأتي بحث هذه النظرة من جوانب متعددة مختلفة. وهذا بحد ذاته دليل أكيد على أن الحضارة لا تستطيع أن تنمو أو تتطور إذا فقدت جزءا من أجزاء مفاهيمها الكاملة، لأن الحضارة كالجسد إذا بتر منه عضو ظهر النقص فيه واضحا. وليس المبتور بقادر على صياغة الكمال.
يقول اشفيتزر: " إن أعظم الواجبات الملقاة على عاتق الروح هو إيجاد نظرة إلى العالم. فيها جذور كل الأفكار والمعتقدات وألوان النشاط المتصلة بالعصر، ولا نستطيع الوصول إلى الأفكار والمعتقدات التي هي أسس الحضارة عامة إلا بالحصول على نظرة إلى العالم تتفق مع الحضارة.
فما المقصود بالنظرة إلى العالم؟ إنها مضمون أفكار المجتمع والأفراد الذين يؤلفونه، أفكارهم عن الطبيعة وعن موضوع العالم الذي يعيشون فيه، وعن مكانة الإنسانية ومصيرها. ما معنى المجتمع الذي أعيش فيه؟ وما معنى ذاتي أنا نفسي في هذا العالم؟ وماذا نريد أن نفعل في العالم؟ وماذا نؤمل أن نحصل عليه منه؟ وما هو واجبنا تجاهه؟ ".ص(67)
وفي هذه التساؤلات القيمة الكبرى التي يجب على الإنسان أن يعمل من اجل إيجادها، إذا أراد النهوض من مستنقع الحضارة الزائف إلى ذروة الحضارة الحقه.
ولان إيجاد نظرة خاصة بالكون وما عليه، من صميم أمور الحضارة. ولأنه لا يمكن للإنسان أن يفهم ذاته إن لم يفهم الكثير المخفي عن ذاته وعما حوله. لأن طاقة البشرية في أي عصر تختلف عن طاقتها في عصر آخر. ولأن ماضي البشرية السحيق ليس سهلا علينا تحليله تحليلا دقيقا وافيا من جميع جوانب وجوهه وأشكاله.
فنظرة الإنسان للكون تستطيع تحديد طبيعة العلاقة التي يجب أن تسود الروح الإنسانية تجاه الكون. كما أنها تخلق نوعا من التعامل المباشر الاستغلالي للكون من أجل صالح الإنسان، وبذلك ترتفع كل الحواجز النفسية والعقلية التي يمكن أن تحد من نشاط الإنسان وانطلاقته العلمية الباحثة.
ونظرة الإنسان للكون يجب أن تبرز من جوانب عديدة أهمها: ما أصل هذا الكون؟ كيف وجد؟ أبالصدفة؟ أم أن هناك موجد له؟ وما الهدف من إيجاده؟ وما هي طبيعة العلاقة بين الإنسان والكون؟ كل هذه الأسئلة وغيرها يجب أن توضع بالحسبان أثناء وضع نظرية خاصة بالكون، لأنها إن لم تدخل حيز النظرية المعدة، فان النظرية دون شك ستكون قاصرة عن النهوض على أقدام ثابتة مما سيؤدي إلى شلل كبير في خطى الحضارة التقدمية.
وعلى النظرية بعد ذلك أن تأخذ بالحسبان أن هناك عاملا مشتركا بين الإنسان والكون من حيث الوجوه جميعها، لأنه لا يعقل أصلا فصل الإنسان عن الكون، أو فصل الكون عن الإنسان، واعتبار احدهما أتيا من مجهول دون أن يكون بينهما بالأصل أي ترابط. وإنما الصلة القائمة بينهما هي صلة إجبارية مفروضة على الكون والإنسان حين وجد احدهما مع الآخر عنوة ودونما إرادة منه. وبسبب الفصل بين علاقة الإنسان بالكون، باءت جميع النظريات العلمية بالفشل، لأنها جاءت خاوية من كل قيمة تؤهله لشق طريقها في أصول التفكير الحضاري أو الإنساني وان كان قد كتب لها الظهور ذات يوم. فقد كتب لها دخول النسيان من بابه الواسع.
ولنأخذ على سبيل المثال بعض هذه النظريات العلمية لنرى القيمة التي تمتلكها أي واحدة منهن. فنظرية انفصال القمر عن الأرض التي نادى بها جورج داروين عام 1878 م والقائلة: بان القمر بدا بالانفصال عن الأرض في حين التكوين الأولي للقشرة الأرضية، ومما ساعد على هذا الانفصال، هو أن الشمس كانت تشكل آنذاك قوة الجذب الرئيسية للأرض، ونتيجة لهذا الجذب قد نشأت قمم الجبال على الأرض.. وحين اشتد الجذب فقد انفصل جزء من الأرض مكونا القمر الذي ظل تابعا لها.
وهناك نظرية أخرى، وهي نظرية الضغط الجوي التي ادعاها سولاس 1913 م والقائلة: بان القارات والمحيطات نشأت نتيجة الضغط الجوي على الأرض في الوقت الذي كانت الأرض لا تزال في حالة السيولة، ونتيجة للأعاصير فان المناطق التي وقع عليها ضغط الهواء ارتفعت مشكلة القارات، والمناطق التي كانت بعيدة عن تأثير الأعاصير وضغط الهواء فقد شكلت أحواض المحيطات.
وهناك نظريات عديدة ظهرت في هذا الصدد، إلا أنها جميعا كانت مفرغة من كل قيمة مثالية، كما كانت بعيدة عن التفكير بالرابطة العميقة القائمة بين وجود الإنسان بصورته وطاقاته، وبين الكون وثباته وخلوه من الطاقات. كما أهملت جميع النظريات تبيان الأصول التي ارتكزت عليها لتظهر كنظرية كونية تستحق الاهتمام والتأمل.
فجورج داروين لم يبين أولا أصل الوجود لكل من الشمس والأرض، وكذلك سولاس لم يبين أصل الو جود الأرضي قبل تكوينه بالصورة التي تم عليها حسب النظرية، وكذلك نسيت النظريتان - وغيرهما -العلاقة القائمة بين الكون والإنسان. وبذلك جاءت كل النظريات خاوية من القيمة الإنسانية التي تقيمها تلك العلاقة مما أدى إلى فشل جميع النظريات الغربية القديمة منها والحديثة على إيجاد صيغة خاصة تحمل بعض مفاهيم القيم الإنسانية لإيجاد نوع من التوازن الحضاري بين الإنسان والكون.
ثم تأتي النظرة الخاصة بالإنسان إلى ذاته وغيره في المجتمع، فالبشرية كلها، هي نظرة تتسم بأصول الدقة الشديدة والصعوبة البالغة، لأن الإنسان بحاجة قبل التعرف على أصله وماضيه، أصله الأول، وماضيه السحيق الجذور.
فهو بحاجة أن يعرف اصل الإنسان منذ بداية نشأته، كيف وجد؟ ومن أي شيء تكون؟ ومن أوجده؟ والهدف من وجوده؟ وما هي طبيعة العلاقة بينه وبين نفسه؟ وما هي طبيعة العلاقة بينه وبين غيره؟ كيف نما وتطور إلى صورته الحالية-اقصد النمو والتطور النفسي-؟ وما هي صلته بما هو فيه؟ كل هذه الأسئلة يجب أن تأخذ حيزا واضحا في تفكير الإنسان إذا ود مخلصا وضع أسس حضارية يحيا بكنفها.
فمعرفة الإنسان لأصله تمنحه شعورا بالطمأنينة، ومعرفته كيفية وجوده وخاصية تكوينه، يمنحانه رابطا مشتركا بينه وبين أبناء جنسه، لأنهم موحدوا الكيفية والتكوين والأصل، وحين يتعرف إلى موجده، فانه سيحس بان الموجد أقوى من الموجود، وان الموجد هو صاحب الفضل على موجوداته. وبذلك يتم التعامل بين الموجد والموجود على أساس تفاوت القدرة والعمل والقوة. وحين يتعرف على الهدف من إيجاده، فان طاقاته كلها، الروحية والنفسية والعقلية والمادية سوف تتحد لشق الطريق واقتلاع الصعاب من اجل نفس الهدف المرسوم للإنسان ككل. وعندئذ فان السلوك الإنساني الواضح الحقيقي سوف يسود العلاقة بين الإنسان وذاته، والإنسان وأخيه الإنسان. وبهذا يصبح الطريق مفتوحا أمام الحضارة بلا أي عوائق أو حواجز.
ويكمل اشفيتزر موضحا طبيعة النظرة الكونية قائلا: " لكن ماذا يجب أن يكون عليه طابع النظرية إذا كانت الأفكار والمعتقدات المتعلقة بالحضارة قائمة على أساسها؟ إنها يجب أن تكون متفائلة وأخلاقية.
والنظرية في الكون تكون متفائلة إذا كانت تفضل الوجود على اللاوجود، وتؤكد الحياة بوصفها شيئا له قيمة في ذاته. ومن هذا الموقف في الكون والحياة ينشأ الدافع إلى رفع الوجود إلى أعلى مستويات القيمة بالقدر الذي يكون لنا تأثير في تحقيق ذلك. ومن هنا ينشأ النشاط الموجه إلى إصلاح أحوال الفرد الحية، وأحوال المجتمع والدولة والإنسانية، ومنه تنبثق أعمال الحضارة الخارجية، وسيطرة الروح على قوى الطبيعة والتنظيم الاجتماعي الأعلى.
والأخلاق هي نشاط الإنسان الموجه إلى كفالة الكمال الباطن لشخصيته. وهي في ذاتها بمعزل عن كون النظرة إلى العالم متشائمة أو متفائلة. ولكن مجالها في العمل يضيق أو يتسع وفقا لكونها على ارتباط بنظرة من النوع الأول أو الثاني ". ص"77"
وهنا يقع اشفيتزر في خطأ صارخ وذلك حين يفسر النظرة المتفائلة بأنها تفضيل الوجود على اللاوجود باعتبار مجرد لا يرفع من الأمر شيئا، ولكن اختيار الوجود الأسمى المنبثق من عقيدة ثابتة توجه الإنسان نحو العمل وفق مطلب الإنسانية الشفافة المتوافقة مع فطرته من اجل التفاؤل هو الأمر المنطقي والمطلوب. لان العقيدة أو المبدأ المصاغ من القوة الكبرى التي تتحكم بهذا الكون، هي الوحيدة القادرة على كبت النوازع والأهواء اللاإنسانية وتوجيهها نحو الصالح العام للبشرية ككل. وأما التفاؤل كأمر مجرد فهو قائم في جميع دول العالم، ولكنه مع ذلك لم يستطع إثبات جدارته كأمر أساسي وقادر على خلق نوع من الخلق الحضاري بين جميع الأمم والشعوب، منذ بداية الحياة وحتى يومنا هذا. ولكن العقيدة استطاعت بسنوات قليلة خلال رسالة الإسلام الخالدة أن تصنع مجتمعا حضاريا من جميع نواحيه وجوانبه، وبالتالي كانت قادرة على زرع روح التفاؤل الحق في نفوس الأفراد والجماعات من صانعي تلك الحضارة.
والخطأ الثاني: هو اعتبار توكيد الحياة على أساس أنها قيمة يجب أن تنشد لذاتها وليس هذا بالصحيح. لان نشدان الحياة وتوكيدها لذاتها سيؤدي إلى تصادمات عنيفة بين الفكر السائد المختلف في وجهاته، وبين الطبيعة الإنسانية كأمر ثابت لا يتغير، وبالتالي إلى إيجاد نوع من التعلق الشديد بالحياة قد يصل إلى حد الهوس بها. وليس هذا مطلبا حضاريا بالمعنى الصحيح. ولكن ذلك لا يعني بتاتا نفي وجود توكيد الحياة، ولكننا نرفض توكيدها لذاتها. لأننا واثقون أن الطبيعة البشرية لن تستطيع السيطرة على الحياة إلى حد البقاء. لذلك يجب أن يكون هناك هدف مشترك تحيا البشرية جمعاء من اجل العمل المتواصل له جيلا بعد جيل حتى تستطيع تحقيقه. وهذا ما لا يمكن أن يتسنى للبشرية صنعه بأي شكل من الأشكال، وتحت أي ظرف من الظروف، لان تباين الطبائع والنزعات قائم بين الأمم بما لا يقبل الشك أو الجدل. وهذا يؤكد من جديد وجوب التشريع الإلهي البعيد عن تباين النزعات واختلاف الطباع. تشريع تدين البشرية به كأمر مسلم لا شك فيه، لأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه أو من خلفه.
وبهذا فقط تستطيع البشرية أن تتوجه للعمل من اجل الحياة، لا من منطلق تقديسها، والفرق بين الأمرين لا يحتاج لجلاء أكثر من أن نقول: بان تقديس الحياة عامل من عوامل شل الطاقات الإنسانية وتوجيهها إلى زاوية غير إنسانية وغير حضارية، أما العمل من اجل الحياة وفق المبادىء المنبثقة من العقيدة الإلهية، فانه سيؤدي إلى فتح هائل في تحرير الطاقات البشرية من جانب الأنانية وحب الذات إلى جانب المشاركة بين البشرية كأفراد وجماعات وأمم، وهذا فقط هو الأمر الذي يستطيع أن يصل بالبشرية إلى درجة قريبة من الكمال والتنظيم الاجتماعي دون أي جهد أو تعب يذكر.
ويسترسل اشفيتزر بالخطأ حين يعلن أن الأخلاق هي الموجه إلى كفالة الكمال الباطن للإنسان. لان الأخلاق لا وجود لها إذا كانت مسنونة من قبل الإنسان نفسه. وذلك عائد لصعوبة تلقي الإنسان الأوامر والنواهي من إنسان مثله أولا، ولاختلاف النظرة من إنسان لآخر فيما هو أخلاقي وغير أخلاقي ثانيا. فالأمور الأخلاقية الخاصة بالأمم الغربية، معظمها بالعرف الشرقي نواقص تعيب الشخصية وتقلل من أهميتها في الزمنين الجاهلي والإسلامي على حد سواء.
ومثال ذلك اعتبار الغرب المرأة على أنها تملك من الحرية ما يملك الرجل، وفهم تلك الحرية على أنها انحلال كامل من الأخلاق. فالإنسان الغربي لا يشعر بالنقص من خروج ابنته حيث يحتشد الرجال وتتحاك الأجساد، كما انه لا يشعر بأي شيء من الحرج لو قضت ابنته أو أخته أو أمه ليلتها بأحضان عشيق خال من أي قيم إنسانية وأخلاقية. أما بالنسبة للرجل الشرقي المتميز بعروبته وحميته الأصيلتين، فانه على استعداد للموت ليحول دون وقوع مثل هذا الأمر.
فالأخلاق ليست قادرة إذن على تحقيق شيء من الكمال الباطني للإنسان، إلا إذا اشتقت من اصل واحد تشترك البشرية على الأيمان به ككل. وهذا لا يتأتى للإنسان صوغه بنفسه، وانما يأتي من عقيدة إلهية خالصة من كل ما يمس الطبيعة البشرية بأحاسيسها وأفكارها ومشاعرها ومبادئها الإنسانية الحقة، والتي تتفق بالنهاية مع الفطرة الإنسانية السليمة الصافية من كل أدران الذاتية والأنانية.
وهذا بدوره يعود ليؤكد بان الروح هي المصدر الأساسي لصنع حضارة، وليس الأخلاق أو النظرة المتفائلة سوى مظهر من مظاهر وثمار من تلك العقيدة التي تمثل الأصل والجذر الراسخين بأرض التعالي والسمو بالإنسان إلى قمة الإنسانية الحقة.
وأخيرا...
إلى هنا أقف في نقد الكتاب، لان الأساسيات التي طرحها الكاتب للمفهوم الحضاري إلى هنا تقف. وما البقية من الصفحات الأخرى إلا تفصيل وتبيان للأصول التي حللناها سابقا. لذلك فليس من الضروري إعادة ما كتب مرة أخرى، لان التكرار لن يجدي نفعا، بل سيعكس نوعا من السلبية في الملل الذي سيصيب القارىء إذا ما استرسلنا بالنقد لنعود ونوضح ما وضحناه سابقا ولو بأسلوب مغاير لأسلوب الصفحات الأولى.
وقد أخذنا هذا الكتاب دون غيره من الكتب الخاصة بموضوع الحضارة، لأنه قد يكون أفضلها في التصورات الحقيقة للحضارة من مفهوم غربي حديث. ومع أن الكاتب استطاع أن يجد عللا كثيرة تحول دون سير الحضارة في طريقها الصحيح، إلا انه لم يتمكن رغم ذلك استكشاف علل العلل نفسها، فردها دون تفكير إلى علل أخرى، وبذلك تراكمت علل فوق علل حتى أصبح السبب في وجود العلة هو العلة نفسها.
وقد أدى هذا إلى قصور النظرة التي أتى بها اشفيتزر حين وضع الحلول من اجل النهوض بالحضارة. ولو استطاع اشفيتزر أن يوجد الأسباب ويحللها لتمكن من الاستدلال المباشر وغير المضني إلى الطريق الصحيح نحو إعادة بناء الأسس الحضارية.
ولا يعني هذا أن اشفيتزر لم يأت بالخير في بحثه هذا، لا، بل استطاع وبقدرة فائقة أن يصور المعاناة التي يحياها الإنسان الغربي وسط ضجيج المادة والانحلال وفقدان التوازن النفسي، والتبرؤ من القيم والمثل العليا. فنقله إلينا مخلوقا بصورة إنسان تائه في صحراء العدم والفناء. يبحث عن شيء يوصله إلى الإنسانية الحقة التي تتوافق ومظهره ليستطيع الخروج من تلك الظلمات التي تلف صحراء عدمه القابع فيها، فلا يتمكن، (لماذا )؟
إلى هنا فقط استطاع اشفيتزر أن يكون دقيقا كل الدقة في التصوير الحقيقي الناطق للإنسان الغربي، ولكنه بعد ( لماذا ) لم يستطع أن يأتي بشيء يذكر أو يستحق الاهتمام الكبير، لأنه اتجه بنظره نحو المظاهر الشكلية للحضارة، وهذه بدورها ليست أساسا من أسسها. وإنما العقيدة الإلهية والتشريع الإلهي هما الأساس الصلب لصرح الحضارة الحقة، وما الأخلاق والتفاؤل سوى نقش جميل يظهر على جسد تلك العقيدة الربانية وذلك التشريع الإلهي.
وهذا ما لم يستطع اشفيتزر تبينه بوضوح وجلاء، ليتمكن بعد ذلك من صوغ أسباب الانهيار الحضاري على أساس تخلي الحضارة عن هذه الحقيقة، وصوغ طريق عودة الحضارة بضرورة العودة إلى الحقيقة الكبرى...
حقيقة العقيدة الإلهية والتشريع الإلهي.
مأمون احمد مصطفى
فلسطين – مخيم طول كرم- 1976