خليل حمد - فالج لا تعالج: فضفضة وتأوهات حرب الكورونا

ربما يلاحظ المتابع لصفحتي انني دأبت منذ هجوم الكورونا للتحذير من خطورة الإصابة بهذا الفايروس اللعين، وانني كثيرا ما استخدم عبارات قاسية قد تستفز المتلقي ويعتبرها البعض تهويل وتخويف ورسم صورة قاتمة سوداوية للوضع، واعتبرها انا عاجزة عن رسم صورة حقيقة لتبعات الإصابة بالجائحة اللعينة. حتى ان البعض يطالبني بأن ابشر ولا انفر، وقد احتج اليوم الدكتور محمود زغيري مثلا على استخدام عبارات تصف الحال بأنه كارثي وطامة كبرى كونه يعتبرها مبالغات غير مناسبة وغير لائقة، لكن بعد سماعي لمكنونات صدر صديقي التي دونتها ادناه اجد باننا لم نستوعب حجم المصيبة التي نحن بصددها. وقد يكون افضل وصف لها من واقع المعطيات بحرب دمار شامل .

وقد لجأت منذ مدة لتدوين حكايات عن إصابات أصدقاء لي، وحاولت ان أقدم وصف موجع تصويري وتفصيلي لإصاباتهم وذلك بهدف تقريب صورة الألم التي يشعر به مصاب الكورونا للناس، لعل ذلك يخدم في ردع المستهترين والمنكرين، وبالتالي يخفف من الم الناس ويساهم في كسر حدة انتشار الوباء.
لكن واضح ان كل ما يقال مهما احتوى على عبارات رنانة وتخويف وتهويل، فانه لا يكاد يكون له أدني تأثير على الناس، وصدق من قال ان "الذي يده في النار ليس كمن يتفرج عليها". وللأسف الطريقة الوحيدة لمعرفة معنى ان يصاب الانسان بالعدوى هي ان يختبر الانسان بنفسه تلك التجربة المؤلمة والمميتة أحيانا.
اليوم اريد ان تصحبوني في رحلة في ثنايا عقل وقلب صديقي العزيز اياد دويكات، وهو أستاذ وانسان واسع الثقافة، وشجاع، ويدرك تماما الابعاد الجسدية والاجتماعية والنفسية للإصابة. وقد ابّتُلي هو ومجموعة من احبته بالعدوى منذ مدة، وقد تطوع للحديث بصراحة وعمق، لأنه يدرك من ناحية أهمية ان يفضفض المصاب وصاحب المصيبة بما يجول في صدره من الم ومشاعر مصاحبة للإصابة وثانيا لأنه يرغب في نقل تجربته والمه للآخرين محذرا ورافعا علما احمرا للتحذير لعل حديثه يلقى اذان صاغية، رغم قناعته بأن الوصول الى الوعي بمخاطر المرض لا يتم الا بالمرور بالتجربة شخصيا والاكتواء بالمها ونارها.
سألته عن حاله وعن الوضع وطلبت منه ان يقترح على موضوع من واقع تجربته لأستخدمه كمادة لحديثي التوعوي شبه اليومي حول الجائحة، فأرسل لي رسائل نصية مسجلة قمت على تفريغها بأمانه دون تحريف او تعديل في النص الا لمقتضيات اللغة والتعبير بالفصحى.
وجاء في رده:
- الصورة يا أبو احمد سوداء، سوداء، سوداء. عنوانها الكورونا حرب. هذا ليس وباء. هذه حرب حقيقية، حرب مخيفه، حرب دموية، تأكل الأخضر واليابس، الي موش واصله لعنده النار طبيعي ما يقتنع، لكن عندما تصل النار لمنطقته تدب النار في الهشيم، كيف في الهشيم؟ بتبلش تحصد مرضى، آلام، قتلى، علل دائمة، الشعور أسوأ من شعور الحرب. جربنا انتفاضات، جربنا احتجاجات جربنا الدبابات على البيوت، لكن الوضع لم يصل ابدا الى هذه السوداوية.
- الوضع يا أبو احمد ينذر بكارثة حقيقية، ورح اتشوف الناس على أبواب المستشفيات يتقاتلوا على سرير، وإذا ما تقاتلوا رايحين يقبلوا الموت بصمت، يدفنوا موتاهم بصمت، يقولوا للمريض تألم الى ان تأتي الرحمة. الوباء سيء جدا، الي عنده شوية اعراض ما بنام الليل، فكيف الى عنده اعراض قوية؟! وكيف الإصابات التي تحتاج الى تنفس، الالام التي لا توصف.
- الوباء رح يدخل على كل بيت، نعم كل بيت، الكل رح يجرب. الناس الي مش مقتنعين طبيعي، معذورين، ولكن لما يجربوا، لما يصل عندهم ويجربوا الم الصدر، والقحة الناشفة، الاختناق، آلام المفاصل، النوم المتواصل مع الم شديد، فقدان شهية، القحة، المراجعة...وهذه اعراض الناس الذين يتعافون فما بالك في الأشخاص الذين لا يتعافون؟
- تكون كمصاب مسكون بمشاعر قاتله، نعم قاتله، يعني تشبه الموت، ويلك حزنك على الي ماتوا ولا على الي بعانوا، ولا على الي في حالة مخطرة، ولا على المصابين ويتألموا، ولا على الي بدهم ينصابوا. الألم مركب وشديد، واشي غير مختبر من قبل، هذا النوع من الشعور ما اختبرناه.
- احكيلك اشي في السيكولوجي، في صديق الي طبيب فلسطيني من مخيم اليرموك في سوريا، راح السويد، هرب من الموت، اتشتت عائلته في عدة دول. بعد اربع سنوات من حصوله على جنسية سويدية، حصلوا هو وزوجته على فيزا لزيارة أقاربهم في ال48، واجاوا زارونا. خلاصة الحكي لما زارونا في السنة الماضية قالت لي زوجته احنا في الحرب ما عرفنا نحزن، ما اعرفنا نحزن، ظل الحزن غصة في قلوبنا، لأنه الموت كان متتالي، ماتت امي، وماتت حماتي، ومات ابوي، ومات حماي، وما تعد كم واحد مات. كنا لما نروح على المقابر ما نعرف نبكي، لأنه ما كان عندنا وقت نبكي لما ندفن الموتى، الموتى يتلاحقوا وراء بعض. هذا الشعور، وهذا الوصف انه ما عرفناش نحزن يعني كلام ما قدرت افهمه في حينها، وإذا به من كثر الحزن ما بتلاقي وقت تحزن وتعبر عن حزنك لان الحزن متتالي والفقدان متتالي.
- وإذا به يا أبو احمد انت لازم تعبر عن حزنك اول بأول، تعترف فيه، توعى عليه، لأنه إذا انت ما عبرت عن حزنك اول بأول رح تكبته في صدرك، رح يتحول الى سواد والم ما بطلع الا في وقته. كل وقت إله المه الخاص به، كل وقت إله آذانه، ما بزبط اذآنين في وقت واحد. انا مات خالي ما حزنت عليه، وما اعرفت اشعر انه مات، مات ابن خالتي من جيلي كمان نفس الشيء، وما بتعرف شو الي بستنا كمان.
- الشعور بانك مش عارف تحزن لأنه في اشي أكبر منه، يعني بتعرفش تحزن على اشي لانك بتستنى في اشي أكبر منه، مشغول بالك على الي بعده، هذا الشعور في حياتي ما جربته، هذا شعور حروب، هذا شعور من مشاعر الحرب.
- يا ريت ، يا ريت لو الناس تعرف، يا ريت لو الناس الي ما عندهاش إصابات باي ثمن يحبسوا حالهم يوكلوا خبز وزيت وملح. يكلوا ورق شجر، يوكلوا أي اشي متوفر، بس ما ينصابوا بالفايروس.
- الي عنده فرصة انه يتجنب لو بوكل ورق الشجر لو بوكل اعشاب، لو بوكل خبز لحاله، لو أي اشي، يعني يعيش على قطعتين خبز في اليوم ومعلقة زيت يكفي، المهم لا ينصاب العدوى.
- الوضع اقسم بالله، اقسم بالله، انه الم فوق الوصف وشعور يعني لا يمكن يستطيع الواحد يصفه، لانه فعلا لا يتكرر، ولا يعرف هذا الشعور الا بالاختبار. الى ما اختبر الإصابة ما بعرف، مهما وصفته إله. هلا الي بسألني شو يعني كورونا؟ بقوله شعور قاتل شيء، ما حدا بعرفه، ما حدا جربه. على الفاضي لازم يجربه- ان شاء الله ما بتجربوه.
- انا أحيانا بقول انه ربما لو كانت إصابتي قوية بجوز ان كان انشغلت عن الي حوالي في نفسي، ان كان الألم أخف، لانه قوتك الجسدية وسيطرتك على الفايروس بتعطيك فرصة إنك تصحى على إصابة الى حواليك، لما توعى على إصابة الي حواليك إذا كانوا عزيزين، المك رح يكون مضاعف.
- اخر ما بتوصله يا أبو احمد الاستسلام. تستسلم للموت. تستسلم وانت ترى اعز الناس عليك يفلت من بين ايديك. بروح بهدوء.
- هذا هو الشعور بالعجز، احنا عاجزين.
- وللأسف يا أبو احمد بدي اخبرك اليوم انصابت خالتي، ست كبيرة ومريضه وانا اطلاقا مش متفائل، رغم اني قديش اتصلت فيها، وأكدت عليها تحبس حالها في غرفة بس فيها اكل وشرب، وما حدا يدخل عليها، بس للأسف أصيبت.
- وسكت اياد عن الكلام الموجع، والذي دفعني للبكاء وانا الذي قلما ابكي.
- يا لها من كارثة، يا لها من طامة كبرى، وتلك هي عدم إدراك الناس بان حربا قاتلة شرسة مؤلمة تشن عليهم من عدو مجهول وفايروس حقير لكنه قاتل وقد يتسبب في النهاية بفناء البشرية.
- يا الهي.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى