كريم مرزة الأسدي - لغتنا الجميلة بين الشعر والشعراء،والتمرد والتجديد

اللغة :
اللغة هي أهم صلات الترابط واستمرارية التواصل ، ولا تعني اللغة بهذا المفهوم أنّها رباط مصلحي للتعبير عن حاجاتنا ومصالحنا فقط ، بل هي كياننا ووجودنا ...حاضرنا العتيد وماضينا المجيد ، وإن لكلّ مفردة إيحاءات تمتد الى عصور ٍ مختلفة ، وتشغل حيزاً في عقولنا تعجز عشرات الصفحات عن توضيح مدلولها وتفسير رمزها ...فكلمة (فرس ) لا تعني هذا الحيوان الماثل أمام أعيننا بأذنيه وعينيه وذيله وأقدامه الأربعة ...كلا ّوألف كلاّ فهو يشخص لنا عنفوان الفرسان ، وسنابك الخيول ،وقرقعة السلاح ...انتصارات الأمة وحروبها ، فتوحاتها وانتكاساتها ..وتترآى لنا من خلاله حارات دمشق وحواريها ، وأزقة بغداد وسقّائيها ..مواكب الخلفاء ، وقوافل الحجيج ، فروسية عنترة وإصرار طارق وفتح عمورية ، والسيف أصدق أنباء ً من الكتب ...!!
فحبّنا للغتنا الجميلة ، وعشقنا للذاذة شعرنا الرائع ليس بدافع العبث وقتل الفراغ - حالنا كما هو حال الآخرين وحبّهم للغاتهم - بل تمنحنا اللغة عمر الأمة كلّه على أمتداد التاريخ ، وتاريخ الأمم بكينونة ومض عمرنا الشخصي الضئيل العابر كلمح البصر ، وبعبارة أدق : إنَّ اللغة أداة تكثيف الزمان والمكان وما يضمان ، فحقّ لها آن نشمخ بها .
وإنَّ الشعرّ منبعهُ عمودي :

الشعر والشاعر والحداثة :
ومن اللغة الشعر بشكله ومضمونه ، لأنّ لا مضمون بدون تشكيل ... ولا تشكيل بدون لغة ، ومن هنا يأتي التمايز بين لغة النثر ولغة الشعر ، وتذهب دائرة المعارف الإنكليزية في تعريفها للشعر ، بأنه الطريقة الأخرى لاستعمال اللغة .
وشرعنا بكتابة الشعر العمودي لأنّه هو الأساس الذي يجب أنْ يُبنى عليه الشعر العربي ، وإلاّ سيكون الشعرهش البناء ، عديم الذوق والطعم ، لا يمتّ ُبصلةٍ إلى الأصالة والنفس القومي الموروث عن تراث الأمّة ووجدانها ، ويفتقد الشاعر لأهم المقومات الأساسية للموهبة الشعرية الصادقة ، ويبقى نتاجه مجرد إرهاصات نثرية عقيمة لا تقوم لها قائمة ، سيبتلعها الزمن مع عصرها . ولا أعني بطبيعة الحال الشعر الحر الموزون ( شعر التفعيلة ) الذي جُدّد على أيدي الروّاد ، فالشعر ليس بمفرداته ومضمونه ومعناه وصوره فقط ، بل بموسيقاه وانسيابه وأشجانه وألحانه ، تقرأه بنغماته الشجيه الصادرة من أعماق قلوبٍ متأججة شاعرة لتطرب إليه ، وتتغنى به ، فهو ليس مجموعة لحبات ٍمن العنب متكتلة متراكمة بترتيبٍ معين ، وتنظيم دقيق لتمنحك صوراً جميلة ، وتشكيلاتٍ بديعة لمعان ٍعميقة على أحسن الأحوال ... وإنما هو تحول نوعي تام من حالٍ الى حال ، ليصبح في صيرورة جديدة ... كأس مُدامةٍ وكرعة راح ٍ " وإنَ في الخمر معنى ليس في العنب ِ" .
يقول أبو العباس الناشىء الأكبر عن شعره :
يتحيرُ الشعراءُ إنْ سمعوا بهِ ***في حُسن ِ صنعتهِ وفي تأليفــهِ
شجرٌ بدا للعين ِحُســـنُ نباتهِ ***ونأى عن الأيدي جنى مقطوفهِ
وللشعر ركنان أساسيان لابدَّ منهما في كلّ شعر ٍ ، وهما النظم الجيد ونعني به الشكل والوزن أولاً (ويخضع كما هو معلوم لعلوم النحو والصرف والبلاغة والعروض ) ، ثم المحتوى الجميل أو المضمون الذي ينفذ إلى أعماق وجدانك ، وتنتشي به نفسك دون أن تعرف سره ، وتفقه كنهه ، فهو الشعاع الغامض المنبعث من النفس الشاعرة .
الشاعر:
وتسأل عن الناس ، فالناس أجناس ، فمنهم - كما تصنف نازك الملائكة بما معناه وكما هو معروف - مَنْ يتذوق الشعر ولا يستطيع أنْ يدرك الموزون من المختل ، وينطبق هذا على أكثر الناس ، ومن الأقلية مَنْ تجده يستطيع أن ينظم الشعر بشكل ٍمتقن ٍ ، ولكن لا تحسُّ بشعره نبض الحياة ونشوة الإبداع ، وهذا هو الناظم ، أمّا الشاعر فهو الذي يجيد النظم إجادة تامة ، وتتأجج جذوته ليحترق ، ويمنحك سرّ الإبداع ، ولذاذة الشعر ، تتحسّس بجماله ، ولا تدرك أسراره - كما أسلفنا - والشاعر الحساس يرتكز لحظة إبداعه الإلهامية على مظاهر التأثيرات الوراثية التي تسمى بعلم النفس ( الهو ) ، وما يختزنه في وعيه واللاوعي من معلومات وتجارب وعقد , ولك أن تقول ما في عقليه الباطن والظاهر (الأنا العليا ) ، ومن البديهي أن ثقافة المبدع بكل أبعادها الإيحائية واللغوية والمعرفية والسلوكية والفلسفية والتجريبية - والعلمية الى حد ما - تؤثر على القصيدة أو النص الأدبي .
ومِنْ الشعراء المتميزين مَنْ يتمرد على التراث الشعري وهؤلاء من عباقرته الذين يمتلكون حقّ التجديد و التحديث ، ومن الناس من يرفض القديم بحجة المعاصرة والتقليد ، وهؤلاء يلجون عالم الشعر ، وهم ليسوا بأهل ٍله ، لأن ّ ما لا يكون لا يمكن أن يكون ! فالقدرة على الصياغة النغمية تكمن مع صيرورتها - وبدرجات مختلفة - الانفعال الشديد ، والإحساس المرهف ، والخيال الخصب ، والإلهام الفطري ، وهذه بذور الإبداع متكاملة مندمجة بماهية واحدة ، وبدونها لا تنبت النبتة الصالحة لتعطي ثمارها و أُكلها .
فذلكة الأقوال نقول : نعم للتشكيل اللغوي المحكم ، والتصوير الفني البديع ، والتنظيم الواعي الدقيق دور كبير في بناء القصيدة ، ولكنه دور مكمل يحتاج الى قدرات عقلية كبيرة ، وثقافة موسوعية عالية ورفيعة ( على قدر أهل العزم تأتي العزائم ُ ) ، ولكن - مرّة أخرى - الأعتماد على العقل وحده دون الغريزة الفنية و القدرة الموروثة إصالة أو طفرة (1) ، لتتفاعل هذه كلـّها حيوياً لحظة الإبداع وصناعة القصيدة ، وبكلمة أدق ولادتها ( وخلها حرّة تأتي بما تلدُ ) ، كما يقول الجواهري . لهذا يبدو لي أن (نور ثروب فراي) لا يميل إلى قول العرب قديما ( جرير يغرف من بحر ، والفرزدق ينحت بالصخر) ، ويذهب الى ما ذهب اليه الجواهري ، فكلّ عباقرة الشعر يغرفون من بحر وتولد القصائد عندهم ولادة , ثم يجرون بعض التعديلات اللازمة عليها ، فمن المفيد أن أنقل إليك - أيّها القارىء الكريم - هذه الفقرة من كتابه ( الماهية والخرافة ) ( 2 ) " القصائد كالشعراء , تولد ولا تصنع , ومهمة الشاعر هي أن يجعلها تولد وهي أقرب ما يكون إلى السلامة ، وإّذا كانت القصيدة حية فأنها تكون تواقة مثله الى التخلص منه وتصرخ ملء صوتها بغية التحرر من ذكرياته الخاصة ، تداعياته ، رغبته في التعبير عن الذات وكلك تتخلص من حبال سرته وأنابيب التغذية المتعلقة بذاته جميعا .
يتولى الناقد العمل حيث يتوقف الشاعر ، ولا يستطيع النقد العمل دون نوع من علم النقس الأدبي الذي يربط الشاعر بالقصيدة . وقد يكون جزءا من ذلك العلم دراسة نفسية الشاعر مع أن هذه الدراسة مفيدة بشكل رئيسي في تحليل الاخفاقات في تعبيره ..." وأنا مع الناقد نور ثروب في هذا التحليل .
وأشرت الى ذلك في هذه المقالة الموجزة من قبل ، فالعقل وحده دون الغريزة الفنية لا يمكن أن يوّلد شاعرا كبيرا ، ولا عبقرياً عظيماً في مجال الشعر ، بل والفنون ، والحديث شجون ، ولله في خلقه شؤون !
التمرد والتجديد قديماً :
وذكرت التمرد...وذكرت الرفض ، وانا بطبيعة الحال مع تمرد عباقرة الشعر ، لأنّ التمرد ولود وهو ثورة في عالم الشعر , ولستُ مع الرفض لأنّ الرفض عقيم عاجز لا ينفذ الى طريق ٍ مفتوح .
وأول من تمرد على بحور الخليل - حسب علمي -هو أبو العتاهية ، لقد سُئل " هل تعرف العروض ؟" ، فأجاب : " انا أكبر من العروض " (3 ) ، وجاء بوزن ٍشعري لم يكن معروفاً من قبل ، وذلك عندما قال يهجو أحد القضاة :
همّ ُ القاضي بيتٌ يطرب ْ ***قال القاضي لما عوتبْ
ما في الدنيا الاّمذنــــــبْ **هذا عذر القاضي وأقلبْ
وسمّي هذا الوزن من بعد ( دق الناقوس ) (4) ، و الحقيقة أن الفراهيدي نفسه فاته هذا البحر ، واستدركه من بعده تلميذه الأخفش ، وسمّاه ( المتدارك) (فعلن فعلن فعلن فعلن ) ، و (فعلن ) هو زحاف طرأ على ( فاعلن ) كما هو معرؤف .
وإنّ عبد الله بن هارون السّميدع ، وهو تلميذ الفراهيدي أيضا " كان يقول أوزاناً من العروض غريبه في شعره ، ثم أخذ ذلك عنه ، ونحا نحوه فيه رزين العروضي ، فأتى فيه ببدائع جمّة " ، كما يقول الأصفهاني صاحب الأغاني ، وهي أوزان مهملة لم تشع على ألسنة العباسيين ، فأوجدها المولدون عقبى امتزاج الحضارات ثم انقرضت , كعكس تفعيلات (الطويل) مثلاً الذي يسمى بـ ( المستطيل ) ، فتفعيلات الطويل (فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن ) مرتين ، كقول امرىء القيس :
قفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزل ِ***بسقطِ اللوى بين الدخول فحومل ِ
أمّا المستطيل فتفعيلاته ( مفاعيلن فعولن مفاعيلن فعولن ) مرتين ، كقول القائل :
لقدْ هاجَ اشتياقي غرير ُ الطرف أحورْ ** أُدِيرَالصدغ ُمنه على مسكٍ وعنبرْ
وهكذا تفعيلات ( الممتدّ ) عكس (المديد) ، وأجزاء ( المتئد) مقلوب ( المجتث) ، و(المتوافر ) محرّف ( الرمل ) , وللمضارع (مفاعيلن فاعلاتن) مرتين مثل :
ألا منْ يبيعُ نوماً ***لمنْ قط ُّ لاينامُ (5)
أقول للمضارع مقلوبان وهما ( المنسرد) وتفعيلاته (مفاعيلن مفاعيلن فاعلاتن ) مرتين , و (المُطرد ) وتفعيلاته (فاعلاتن مفاعيلن مفاعيلن ) مرتين ، وإليك من الأخير :
ما على مستهام ٍ ريع بالصدِّ *** فاشتكى ثمّ أبكاني من الوجدِ
والله المستعان , لما في الوجدان .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)هنالك دراسات وبحوث تشير الى أن بعض خصائص العبقرية ومظاهرها تنتقل وراثيا من الأباء الى الأبناء خصوصا على مستوى الفنون ومنها الشعر ، وخصوصا إذا صقلت فيما بعد ، ولكن ربما تحدث طفرة وراثية في الطور الاستوائي للانقسام الاختزالي في المراحل الجنينية للفرد ، تؤدي في أحيان نادرة إلى صالحه ، وتؤدي إلى عبقريته .
(2) ( الماهية و الخرافة دراسات في الميثولوجيا الشعرية ) ترجمة هيفاء هاشم / دمشق1992 ص 19
(3) لقد نظم أبو العتاهية على أوزان لا توافق ما استنبطه الخليل , ويقال إنّه جلس يوماً عند قصّار، فسمع صوت المدق , فحكى وزنه في شعره قائلا :
للمنون ِ دائرا *** تٌ يُدرنَ صرفها
فتراها تنتقينا *** واحداً فواحـــدا
فلمّا أنتقد في هذا قال : أنا أكبر من العروض ....وهذه رواية أخرى .
(4) يسمي بعضهم (المتدارك ) الخبب أو ( ركض الخيل ) ، لأنّه يحاكي وقع حافر الفرس ، أويحاكي (دق الناقوس) , يذكر السيد أحمد الهاشمي في (ميزان الذهب )/ طبعة دار الكتب العلمية / بيروت 1990م ص97 مايلي :" وليس أدل ّعلى تعليل ذلك إلا ّقول سيدنا علي في تأويل "دقّة الناقوس" حين مرّ براهب وهو يضربه فقال لجابر بن عبد الله أتدري ما يقول هذا الناقوس ؟ فقال الله ورسوله أعلم قال : هو يقول :
حقاً حقاً حقّاً حقّاً **** صدقاً صدقاً صدقاً صدقاً
....." ينقل المؤلف أربعة أبيات ، كلها من البحر المتدارك (دق الناقوس ) ، ولم يذكر الهاشمي أي سند أو مصدر للرواية ، فأن ْ صدقت الرواية فهذا يعني ان البحر كان معروفاً منذ عهد الامام علي(ع)(ت 40 هجرية ) , على حين الفراهيدي (ت 174هجرية) , بينما تلميذه الأخفش الأوسط الذي استدركه عليه (ت 211هجرية ) ، وأنا لم أتحقق من صحة الرواية ، ولكن على أغلب الظن الفراهيدي يعرفه وأهمله .
(5) كما لا يخفى جاءت التفعيلة الأولى لكل من الصدر والعجز ( مفاعيل ) ، وهي من جوازات (مفاعيلن ) للبحر المضارع .




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى