خيرة جليل -14- اللوحات المِسْمَارية تَعْبُر التاريخ العراقي بسِمْيائية لونية معاصرة بأعمال التشكيلي أزهر داخل

في الفن وفي االحياة عامة ، نستطيع من خلال الفن أن نعيد إلى النفس طاقتها الإبداعية الأولى كما يمكن أن تتحقق من خلال الحسي فيها. ففي البصري، وفي كل المنافذ الحسية أيضا، نضع الذات في مقابل ما يأتيها من خارجها في استقلال عما يمكن أن تقوله اللغة أو توحي به. فالعين تذهب إلى موضوع نظرتها متحررة من كل أغطية الوجود سوى غطاء النظرة فيها. ومع ذلك، لا يمكننا أن نصف هذه التجربة إلا من خلال العودة بها إلى ما يرسم حدودها ضمن شبكة رمزية جديدة تتحقق وتُتداول داخلها. تمكننا هذه الحركة من تقديم تصورات جديدة عن البعد الواقعي في العين، أو إن شئتم، إن معرفتنا بالواقعي تزداد غنى، وتتسع دائرة القواعد الرمزية المنظمة للتجربة الواقعية، اليوم من خلال تجربة الدكتور أزهر داخل التشكيلي العراقي بن مدينة البصرة ، سنحاول قدر الإمكان الوقوف على ما ذكرنا من خلال التأمل و التحليل .فمن هو التشكيلي أزهر داخل ؟ وكيف ينظر إلى العملية الأبداعية بالمجال الفي بحكم انتمائه إلى النخبة المؤطرة له؟ وما هي مرجعيته الفكرية التي طبعت أعماله الفنية؟
كل ما يهمني من سيرة الفنان الدكتور أزهر داخل هو أنه ابن مدينة البصرة ودكتور جامعي بها ، ابن العراق وحامل جنات بلاد الرافدين ووتشكيلي من الطراز الرفيع، شارك بمهرجنات وملتقيات تشكيلية وطنية وعالمية آخرها بالباكستان بمنطقة لاهور، فاعل ومتفاعل بالساحة التشكيلية العراقية ومؤطر لبحوث طلبتها. همه جمع الشتاث السياسي والطائفي في انفعالات وترجمتها للواحات فنية تبث ألأمل في المستقبل وتمتح من عراقة تاريخه السومري والحيثي والبابلي بحكم انتمائه لمهد حضارات ما قبل التاريخ.
من خلا مساره نستشف أن في الحياة ، لا نكتفي بالاستمتاع بالجمالي في الوجود، بل نتعلم من خلاله، بالإضافة إلى ذلك، أشياء جديدة هي ما تكشف عنه التجربة الفنية وتصف حدوده داخل الانفعالات وحدها. فالتشكيلي أزهر يستمد أشكاله من غنى ثقافته السومرية من أواني الفخار والتماثيل الصغيرة ومن بقايا الرسوم على الجدران التاريخية واللوحات المسمارية كشاهد على مضافات الإنسان للطبيعة، محاولا توثيق ذاكرة جماعية لحمايتها بلوحاته الفنية بذائقة مميزة، لا مجرد جزء من وجود الإنسان على الأرض لأن الإنسان هو مجرد مخرب ويجب إعادة تأهيله للعودة إلى الحياة العراقية الطبيعية المحبة للجمال والعاشقة للإبداع ، أي أنه من خلال مهنته الأساسية كمؤطر لطلبة الفنون يسعى للكشف عن حقيقة الفن العراقي محاولا رسم أحاسيس لا يمكن أن تستقيم إلا في حضن عناصر الطبيعة العراقية ذاتها البعيدة عن التخريب تماما كما هو "سحر البيان" و"طاقات الألوان" و"جماليات الأشكال" إنها جميعها مستودعات لحقيقة روحية لا تسلم أسرارها إلا من خلال طاقات التعبير عنها أو داخلها.

إن أعمال التشكيلي أزهر داخل الفنية، استنادا ليست إحالة على ذات منفلتة من وسط صحراوي لا تهتم سوى بما يفرز انفعالات محدودة في الزمان والمكان، إنما هي تجربة إنسانية عامة وكونية ، لا تشكل الذات المبدعة داخله سوى حيزهين هو ما يعود بنا إلى مهارته وقدراته على التنويع ضمن ما تختزنه من أشكال كونية تبلورت ونمت داخل وسط حضاري إنساني لعب أدوارا تاريخية منذ ما قبل التاريخ ببلاد الرافدين إلى الآن، وعلاقاته العالمية المرتبطة بالكينونة وبالكونية في حد ذاتها . وهو ما تُكشف عنه مجموعة من اللوحات الفنية التي استمدت مشروعيتها الفنية وألوانها من الوسط الصحراوي العراقي بما فيه اللون البني والاحمر والأحمر المتدرج زالأخضر الممزوج بكل التجارب الفنية بكل أسنادها التعبيرية التي نشأ وترعرع وسطها الفنان ، لقد تعلم المزج والخلط والدمج داخل عمله الفني باختلاف الألوان والمواد والأحجام ، لكن في الحقيقة ما هي إلا سلوكات فنية استمدها من السلوك الجماعي الذي يمزج ويدمج السلوك الفردي في الجماعي الذي نشا به داخل الوسط العشائري المندمج والمتشبث بعاداته وعروبته دون تمييز أو حيف أو شطط، فأعماله إنعكاس لتجربة عميقة تعكس نماذج سلوكية لم يكن بإمكاننا إدراك فحواها لولا هذه التجربة من خلال تحليلها بلوحاته الفنية . ذلك أن التخيل "يوحي إلينا بأن الرؤية التي نكونها عن العالم الواقعي قد تكون هي الأخرى ناقصة، تماما كنقصان الرؤية التي تملكها شخصيات التخييل عن العالم الذي تتحرك داخله. ولهذا السبب، عادة ما تصبح الشخصيات التخييلية الكبرى ناتج للشرط الإنساني "الواقعي(3)
لقد استغل الفان تغذيته الفكرية والفنية ليجزم أن الفن خبرة قابلة للتعميم إستنادا إلى ما كان يسميه "غادامير" "الحس المشترك"، ذلك الإرث اللامرئي الذي يجمع بين كل الكائنات التي خرجت عن طوع الطبيعة لتكتب تاريخها الخاص. إن محدودية الحياة اليومية للإنسان العراقي اليوم وغنى موروثه التاريخي تجعل الفنان أزهر داخل يرى أن تجربة الفن ضرورة حياتية، لأنها هي ما يمكنه من استيعاب كل التجارب الممكنة من خلال تجربة واحدة. ليقول في أعماله: إننا من خلاله نستعيد حريتنا ونتخلص من إكراهات هي من صلب وجودنا الواقعي. فنحن لا نكترث كثيرا لعبثية المضمون الظاهر للأسطورة، ونحن نتيه داخل وقائعها ونُعجب بصور أبطالها الذين لا يقهرون، ذلك أن المضمون المشخص فيها ليس سوى ممر نحو "حقيقة" تتبلور في الرمز وفي كل التمثلات الاستعارية.
عموما، إن التشكيلي أزهر يخشى هذا التلاشي الحضاري في لحظة تتحقق خارج الزمن المألوف ويحاول إعادة بث الجمال من وسط هذا التشتث ، إنه يضعنا في الفن الحسيَ الذاتي في مقابل الحسي خارج وساطة المفاهيم ليبدع لوحات هي بنات أفكاره وتحمل جيناته الروحية والجسدية، هي إمتدادا لأحاسيسه ومواقفه وتخوفاته وهواجيسه، فكل عمل فني هو في الأصل "خرق للقواعد الرمزية التي تحتكم إليها التجربة الواقعية من حيث هي امتثال لقواعد تفكير عقلي خالص واع بالعملية الإبداعية الفنية . فقوى المخيال تكمن، ظاهريا على الأقل، في استعادة التجربة الواقعية وإعادة صياغتها وفق أشكال لا تكترث للضوابط التي تقيمها العلاقات المنطقية بين الأشياء" (1)، إنها العودة إلى الحسي قبل أن يخضع للتنميط، وعودة إلى الانفعال قبل أن تمسك به اللغة وتحنطه في صيغ محددة ستكون هي الحاجز بيننه وبين الأشياء، كما هي قبل أن تخضع للتحديد الرمزي: " إن المخيال" لديه هو حالة رغبة جامحة لا تعرف موضوعها. إنها تريد كل شيء في الحال وبشكل مباشر لا يقبل التأجيل لأن إرادته نابعة من تحدي إكراهات عصره والسفر في الزمان إلى أيام عز بلده التي نشأ بها بعيدا عن كل المزايدات السياسية أو الطائفية أو تحت أي قناع يمكن أن يطمس الهوية العراقية الضاربة جذورها في التاريخ.

بعض المراجع:
1-Nicole Everaert-Desmedt: Le processus interprétative, Introduction a la sémiotique de c SPeirce, éd Mardaga éditeur,1990,p.104
3-أومبيرتو إيكو : اعترافات روائي ناشئ، ترجمة سعيد بنكراد، المركز الثقافي العربي، 2014، ص 133
سيرورات التأويل، من الهرموسية إلى السميائيات، الدار العربية للعلوم ناشرون، 2012
5-Jean Baudrillard : De la séduction, éd Galié,1979,p.19

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى