قلت في هذه الليلة الممطرة: سوف أدفنه بحب في سطح بيتي، ثم أعود له حين تستقر الأمور. سأحمله بهدوء يليق بتاريخه، سأحمله بيديّ مثل طفل. سأدفنه وسط كومة الرمل الرطبة التي صعدت بها للسطح من أجل زراعة الجوري، سأضع في داخله كل هواجسي، أسئلتي، أحلامي، خيالي، أحزاني الضخمة، أفراحي الصغيرة، كل شيء سوف أضعه في هذا المنديل وأدفنه في الرمل الأحمر.
أذكر منذ سنوات بعيدة أن زميلاً كبيراً، وهو في الواقع ليس كبيراً، قال لي: أنت خيالي، لم أنم تلك الليلة، كنت صغيراً، وكنت أظن أنها تهمة سياسية والعياذ بالله، فيما بعد قرأت كثيراً لأعرف أن الحياة بلا خيال مثل سيارة بلا وقود، ولكن الخيال في بيئة بلا خيال أو قد تعتبره منكراً وبدعة وشطحة ونزوة يصبح عالة على صاحبه، وأنا لست بحاجة لشيء يكون عالة عليّ. لذلك سأدفن الخيال أيضاً لحين أنفض الغبار من روحي. سوف أرمي كل شيء في الرمل الأحمر الرطب بدل الورد، لكي أتحول إلى كائن محايد قليل القلق وقليل الأدب وقليل المشاعر الإنسانية وحر بعض الشيء. كائن قليل التركيز ومسالم بقلب بارد متفرغ لملذاته .
نزلت من السطح بعد عملية دفن بلا مراسم عزاء، قلت وأنا أنزل الدرج مصحوباً بدوار خفيف ومزعج: أنا لا أحب العزاءً. كل شيء إلى زوال، هذه سنّة الحياة، وصلت الصالة بسلام وأنا أتلمس دربي، فتحت إضاءة خافتة ودخلت غرفتي، استلقيت على ظهري، فإذا بي أرى لحظة أن أغمضت عيني، الطفل الذي كنته والرجل الذي ما زلته يلتقيان ويتعاتبان في طريق ضيق ومعتم، وخلفهما وجه نوراني يغويني، تذكرت أنني احتفلت به في وقت قريب، وجه يشتعل بالضوء الأحمر مثل وردة، كنت على وشك أن أزرعها في سطح بيتي، لكني تكاسلت ودفنت فيها أغنياتي وأحلامي.
قلت مات الطفل في داخلي، ماتت الأمكنة القديمة، ماتت ذاكرة وأحلام وخيالات مبدعة، وهذا وقت جديد يفيق على رأسي، والحياة ستكون مضيئة مثل صفحة بيضاء محايدة مثل وجه فتاة مرحة، وثمة ألحان جديدة أراها تهبط إلى روحي، وفي الخارج أرى حنيناً يريد أن يصحبني معه إلى وقتي الجديد، إلى أرضي الجديدة، ذلك الحنين الذي كان منذ زمن طويل، ولم أكن أعرف كيف أقرأ سطوره.
نمت بصعوبة فرأيت أنني أمشي في ذلك الشارع الضيق والمظلم والرطب الذي أسميته في فترة مضت بشارع وجوه النساء، سوف يُفضي بي إلى شارع آخر، شعرت بقلق حين تذكرت أني تركت شيئاً مهماً في سطح بيتي ولم أغلق الباب، شعرت كأن شيئاً ما يسير خلفي، ربما هي تلك الوجوه التي لا أعرفها أو ظلال أرواح هائمة , مع إحساس حاد بأني لست أنا الذي أعرفه، وكان في داخلي رغبة أن أسير إلى ما لا نهاية، أمشي بخطوات رتيبة كأنها موسيقى هادئة أو صامتة، تختلط التأملات بذكريات شوارع تفضي إلى شوارع أخرى مع هواجس أخرى لا تنقطع أحاول أن أوقفها لأنعم بحرية الحياد بلا تفكير، ما زلت أبحث عن وجهي القديم في الأركان والجدران المليئة بكتابات مبعثرة، كل الطرق إليه متلعثمة ومترددة، الطريق ثقيل وطويل ، وقد تركت في المكان خلفي صدى ضعيفاً لصوتي أحاول جاداً اللحاق به، وأنا أشعر أن الحياة الجديدة المحايدة بدأت تترك فيَّ أثراً من روحها، وكنت أحاول أن أتعايش مع هذه المتعة، في حين تنفجر الذاكرة مبتعدة هناك إلى طفولة بعيدة، وإلى تعرية واقع تحول إلى صور سريالية غير معقولة، الأسئلة والأفكار تأتي عشوائية وفوضوية مع أصوات عالية أسمعها من بعيد كأنها تحاكمني، وأنا أردد كلمات دفاع غير واضحة، في وقت بدأت فيه أرى عودة متكررة لوجوه قديمة أعرفها، في عتمة خفيفة أمامي، أشعر بدوار ثقيل أيضاً، وأنا أتأمل وجوهاً بتعابير مختلفة، كل أصحاب هذه الوجوه ماتوا، وكلهم الآن على مسرح غامض تبدو على أطرافه ستارة رمادية غامقة، نساء ورجال فقدتهم منذ أزمنة بعيدة، وكنت أراها بين وقت وآخر تطل علي بوجهها الفاتن الذي بدأ يغيب من ذاكرتي، وكأنها تريد القول أننا ضعنا في عالم قاس فرّقنا، تطل من البعد فأشعر بتأنيب ضمير وألم وغضب، ثم في لحظات أخرى أشعر أنني أعيش حالة هي مزيج الحزن والفرح الموقت، حالة هائمة وغامضة، أقف هناك والناس تدخل وتخرج من أبواب كثيرة ، أقف بعيداً في محاولة أن أكون بلا ذاكرة وبلا حلم، كل الأبواب حائرة، وأنا الحائر أقرأ وقوفي أمام الناس والأصوات والحياة والدروب المغلقة، أقف أمام كل باب مسحوراً خائفاً متردداً. صحوت من غفوة غائمة وثقيلة، أحاول تحريك قدميّ ولا أستطيع، أحاول أن أتكلم فلا أقوى على الكلام، ثم بمفاجأة مرعبة رأيتها تفتح الباب وتدخل، اقتربت وقالت: أنا رفيقتك في حكاية وقعت الواقعة تقاطع طريق الرياض دمشق القاهرة.. هل تذكر صديقك الكردي.
لم أستطع الكلام أنا المحايد الذي يريد أن ينسى، ظللت فقط أسمع أنفاسها اللاهثة، كأنها صدى لقرون طويلة مضت، تقترب مني أكثر كأنها تريد أن تضمني، وأنا أرى بعد عملية الدفن، أنها كانت من خيال انتهى، حاولت الابتعاد عنها قليلاً لكني لم أستطع الحركة، قلت في نفسي: ما زال الخيال يعمل لم أدفنه بالكامل، إنه مثل تيار كهرباء صغير ملتصق بروحي. قلت سوف أبادلها الصداقة وحديث الذكريات حتى لا تكتشف جريمتي، حاولت الاقتراب منها لم أستطع أيضاً، رغبت لو أنها تقترب لكي تعرف أنني ما زلت أنا الذي تعرفه، لكنها في هذه اللحظة العصيبة تركتني وخرجت من الغرفة، ثم سمعت خطواتها تصعد الدرج إلى السطح، فشعرت بخوف عميق، وسمعت دقات قلبي كأنها تهز صدري.
أذكر منذ سنوات بعيدة أن زميلاً كبيراً، وهو في الواقع ليس كبيراً، قال لي: أنت خيالي، لم أنم تلك الليلة، كنت صغيراً، وكنت أظن أنها تهمة سياسية والعياذ بالله، فيما بعد قرأت كثيراً لأعرف أن الحياة بلا خيال مثل سيارة بلا وقود، ولكن الخيال في بيئة بلا خيال أو قد تعتبره منكراً وبدعة وشطحة ونزوة يصبح عالة على صاحبه، وأنا لست بحاجة لشيء يكون عالة عليّ. لذلك سأدفن الخيال أيضاً لحين أنفض الغبار من روحي. سوف أرمي كل شيء في الرمل الأحمر الرطب بدل الورد، لكي أتحول إلى كائن محايد قليل القلق وقليل الأدب وقليل المشاعر الإنسانية وحر بعض الشيء. كائن قليل التركيز ومسالم بقلب بارد متفرغ لملذاته .
نزلت من السطح بعد عملية دفن بلا مراسم عزاء، قلت وأنا أنزل الدرج مصحوباً بدوار خفيف ومزعج: أنا لا أحب العزاءً. كل شيء إلى زوال، هذه سنّة الحياة، وصلت الصالة بسلام وأنا أتلمس دربي، فتحت إضاءة خافتة ودخلت غرفتي، استلقيت على ظهري، فإذا بي أرى لحظة أن أغمضت عيني، الطفل الذي كنته والرجل الذي ما زلته يلتقيان ويتعاتبان في طريق ضيق ومعتم، وخلفهما وجه نوراني يغويني، تذكرت أنني احتفلت به في وقت قريب، وجه يشتعل بالضوء الأحمر مثل وردة، كنت على وشك أن أزرعها في سطح بيتي، لكني تكاسلت ودفنت فيها أغنياتي وأحلامي.
قلت مات الطفل في داخلي، ماتت الأمكنة القديمة، ماتت ذاكرة وأحلام وخيالات مبدعة، وهذا وقت جديد يفيق على رأسي، والحياة ستكون مضيئة مثل صفحة بيضاء محايدة مثل وجه فتاة مرحة، وثمة ألحان جديدة أراها تهبط إلى روحي، وفي الخارج أرى حنيناً يريد أن يصحبني معه إلى وقتي الجديد، إلى أرضي الجديدة، ذلك الحنين الذي كان منذ زمن طويل، ولم أكن أعرف كيف أقرأ سطوره.
نمت بصعوبة فرأيت أنني أمشي في ذلك الشارع الضيق والمظلم والرطب الذي أسميته في فترة مضت بشارع وجوه النساء، سوف يُفضي بي إلى شارع آخر، شعرت بقلق حين تذكرت أني تركت شيئاً مهماً في سطح بيتي ولم أغلق الباب، شعرت كأن شيئاً ما يسير خلفي، ربما هي تلك الوجوه التي لا أعرفها أو ظلال أرواح هائمة , مع إحساس حاد بأني لست أنا الذي أعرفه، وكان في داخلي رغبة أن أسير إلى ما لا نهاية، أمشي بخطوات رتيبة كأنها موسيقى هادئة أو صامتة، تختلط التأملات بذكريات شوارع تفضي إلى شوارع أخرى مع هواجس أخرى لا تنقطع أحاول أن أوقفها لأنعم بحرية الحياد بلا تفكير، ما زلت أبحث عن وجهي القديم في الأركان والجدران المليئة بكتابات مبعثرة، كل الطرق إليه متلعثمة ومترددة، الطريق ثقيل وطويل ، وقد تركت في المكان خلفي صدى ضعيفاً لصوتي أحاول جاداً اللحاق به، وأنا أشعر أن الحياة الجديدة المحايدة بدأت تترك فيَّ أثراً من روحها، وكنت أحاول أن أتعايش مع هذه المتعة، في حين تنفجر الذاكرة مبتعدة هناك إلى طفولة بعيدة، وإلى تعرية واقع تحول إلى صور سريالية غير معقولة، الأسئلة والأفكار تأتي عشوائية وفوضوية مع أصوات عالية أسمعها من بعيد كأنها تحاكمني، وأنا أردد كلمات دفاع غير واضحة، في وقت بدأت فيه أرى عودة متكررة لوجوه قديمة أعرفها، في عتمة خفيفة أمامي، أشعر بدوار ثقيل أيضاً، وأنا أتأمل وجوهاً بتعابير مختلفة، كل أصحاب هذه الوجوه ماتوا، وكلهم الآن على مسرح غامض تبدو على أطرافه ستارة رمادية غامقة، نساء ورجال فقدتهم منذ أزمنة بعيدة، وكنت أراها بين وقت وآخر تطل علي بوجهها الفاتن الذي بدأ يغيب من ذاكرتي، وكأنها تريد القول أننا ضعنا في عالم قاس فرّقنا، تطل من البعد فأشعر بتأنيب ضمير وألم وغضب، ثم في لحظات أخرى أشعر أنني أعيش حالة هي مزيج الحزن والفرح الموقت، حالة هائمة وغامضة، أقف هناك والناس تدخل وتخرج من أبواب كثيرة ، أقف بعيداً في محاولة أن أكون بلا ذاكرة وبلا حلم، كل الأبواب حائرة، وأنا الحائر أقرأ وقوفي أمام الناس والأصوات والحياة والدروب المغلقة، أقف أمام كل باب مسحوراً خائفاً متردداً. صحوت من غفوة غائمة وثقيلة، أحاول تحريك قدميّ ولا أستطيع، أحاول أن أتكلم فلا أقوى على الكلام، ثم بمفاجأة مرعبة رأيتها تفتح الباب وتدخل، اقتربت وقالت: أنا رفيقتك في حكاية وقعت الواقعة تقاطع طريق الرياض دمشق القاهرة.. هل تذكر صديقك الكردي.
لم أستطع الكلام أنا المحايد الذي يريد أن ينسى، ظللت فقط أسمع أنفاسها اللاهثة، كأنها صدى لقرون طويلة مضت، تقترب مني أكثر كأنها تريد أن تضمني، وأنا أرى بعد عملية الدفن، أنها كانت من خيال انتهى، حاولت الابتعاد عنها قليلاً لكني لم أستطع الحركة، قلت في نفسي: ما زال الخيال يعمل لم أدفنه بالكامل، إنه مثل تيار كهرباء صغير ملتصق بروحي. قلت سوف أبادلها الصداقة وحديث الذكريات حتى لا تكتشف جريمتي، حاولت الاقتراب منها لم أستطع أيضاً، رغبت لو أنها تقترب لكي تعرف أنني ما زلت أنا الذي تعرفه، لكنها في هذه اللحظة العصيبة تركتني وخرجت من الغرفة، ثم سمعت خطواتها تصعد الدرج إلى السطح، فشعرت بخوف عميق، وسمعت دقات قلبي كأنها تهز صدري.