في هذا الصباح اللذيذ وبعد رحلة مشي طويلة وجدت رأسي راقدا على صخرة كبيرة أعرفها، والأفكار والأحلام والخيالات تسيل منه مثل حليب قديم، فبعد أن دفنته في تلك الليلة الممطرة، مكثت في غرفتي عدة أيام حتى تعبت ومللت، فخرجت أبحث عن الرؤيا وعن روحي، قلت سوف أذهب لتلك المحطة التي كتبت فيها حكاية وقعت الواقعة، في ذلك التقاطع المعتم بين الرياض ودمشق والقاهرة، ربما أجد بعض الأصدقاء هناك، وكنت قد رأيت الأحلام والخيالات تلعب في غرفتي مثل دخان، فأيقنت أنه حدث تسرب في عملية الدفن.
كان الطريق نحو المحطة معتما وأنا أمشي في وقت رهيب، تصحبني جيوش من الأفكار وألعاب الخيال التي تشبه أحلاما تحترق في لحظتها مثل شهب، محطة عربية أقاموها ربما بعد زلزال الثورات العربية قبل عدة سنوات، طريق ترابي طويل وعلى جنباته جدران مليئة بالذكريات والرسومات الملونة الجميلة، وعبارات غزل وسياسة متكررة. في هذا الطريق الملهم نحو هذه المحطة، هجمت الأفكار على رأسي المثقل بأسئلة كثيرة حول حالنا العربي التي لا تسر الآن، فقد هربت من ضياع الوقت في وقت ضائع الى مجهول، من وقت ممل الى طريق غامض وموح، بدأ الخيال يتحرك وبدأت أرى أو أتخيل مدينة عربية صغيرة تنتظرني، بيوت مشرقة وشوارع مخططة وطرق للمشاة ومقاه ومطاعم وأرصفه نظيفة عليها طاولات للزوار، قلت: هل هذه هي الجنة، ثم رأيت أن جيوش الأفكار تحتاج الى فرز وترتيب حتى أعرف طريقي الى أين.
تذكرت أنني في رحلتي السابقة لمحت بجانبي كنوت هامسون يمشي جواري، هذا الذي تسكع طويلا في مدينته النرويجية التي يحبها، كان يريد أن ينشر مقالة لكي يشتري بريالين خبزا وكأس شاي، ظلت مقالته معلقة داخل كيس في وقته الضائع الذي قابل فيه كل أشباهه وتحاور معهم، ظل يدور بها على صحف المدينة حتى جفت أفكارها، كان يسبقني بخطوات صغيرة وأنا أحاول تذكر بعض لحظات روايته الجائعة، ولهذا استطعت أن أرى جسده الموحي يمشي أمامي بلفافته القديمة حتى اختفى، قلت ربما أجده في المحطة ونشرب هناك الشاي بالنعناع.
حين وصلت المحطة وجدت تحت الصخرة سجادة جلوس صغيرة، وصديقتي قريبة منها تعد الشاي، جلست متعبا وهي جاءت ثم جلست وهي تضحك.
قلت لها: لماذا تضحكين.
قالت: وصلتني كوابيسك الحالمة وقصائدك المحترقة.
قلت لها: وإذن تعالي نتكلم عن أوضاعنا العربية التي لا تسر.
قالت: أخشى أن تكون أحلاما داخل حلم.. مثل أكياس داخل كيس كبير.
قلت: نعم.. مللنا من الكلام.
قالت: أين التغيير والتجديد..
قلت: رأيت بالأمس فيلما عن الخيالات والهواجس حين تتحول الى حقيقة على أرض الواقع.
قالت: أحب أفلام الواقع.
قلت: في الواقع مشاهد أكثر خيالا من الخيال نفسه.
قالت: الشعر أفضل.
قلت لها: أن كل مقاطع الشعر أصبحت مؤلمة.
قالت: مثل ماذا..
قلت لها: قصيدة لنوري الجراح عن الشام يقول فيها:
كل ما أسمعه الآن من بعيد.. ضجة جرافات وهي ترفع الحقائق عن أطفالي المكدسين هم والموت.. تحت الانقاض.
قالت وأذكر أيضا: لست منهكة بأعمال المنزل ولا مجبرة على العمل.. مع ذلك أفكر بالانتحار.
قلت لها وقرأت أيضا: لماذا نشعر باليتم، بالرغم من أن لنا أما تطبخ الطعام، وتضربنا.
صبت لي الشاي ثم أخرجت لسانها الصغير وحركته يمينا ويسارا..
ثم قالت: مع ذلك فهو شعر لذيذ.
الآن أشعر أنني مشيت طويلا، والأفكار لازالت متقدة مثل نار صغيرة، حتى واجهني محمد زفزاف وقد أنهى كتابه (الثعلب الذي يظهر ويختفي) وخرج يتمشى كما يقول، حكايته كانت عن مدينته الصويرة التي كالمرأة والمرأة هي القفل والمفتاح معا، حكاية ممتعة عن الزمان وعن الأمكنة التي مر بها وصورها العجيبة.
قلت لمحمد: أين نحن
قال: والله لا أدري
قلت: ربما المحطة قريبة من هنا
قال: توكل على الله
قلت له: سوف أكتب عن محاولة عيش والحي الخلفي والثعلب الذي يظهر ويختفي، كأنها حكاية واحدة.
قال: كما تحب يا صديقي.
ثم دخل مقهى مظلم كأنه مغارة.
واصلت السير أ وأنا فكر كيف أبدأ الكتابة، ثم بمفاجأة سألت نفسي: ماذا سيحدث في حال كنت لست ضائعا ولست مؤجلا، في حال كنت موجودا، في حال كنت مرميا مثل قطعة أثاث في بيتي، ماذا سأفقد، هل سأفقد الاستقرار والملل. لا شيء فعلا، لكن في هذا الطريق لحظات مثيرة تحرض الخيال على الحركة، متعة أن تكون مرتحلا وضائعا في الوقت الضائع وتكون مثل شيء مفقود، مثل متعة أن تكون حرا وجديدا وتبدأ من الصفر بلا ذاكرة وبلا عمل، ولهذا تذكرت الأشياء التي دفنتها في السطح قبل ترك البيت، وشعرت أن كل شيء يتسرب من حولي.
وصلت المحطة في لحظة هبوب عاصفة صغيرة كأنها عمود من التراب . كانت صارمة تركض كأنها امرأة ضائعة تبحث عن حب مفقود ، وصلت سالما إلا من آثار خيالات صغيرة لازالت تعبث في روحي، لم أجد سجادة الجلوس الصغيرة ولم أجد الشاي ولم أجد صديقتي، لكني وجدت رأسي راقدا على صخرة كبيرة أعرفها والأفكار والأحلام والخيالات والذكريات تسيل منه، وكان لها رائحة حليب قديم. قلت في نفسي: سوف أجمع كل هذا وأكتب موجزا عن أيامي القديمة.
كان الطريق نحو المحطة معتما وأنا أمشي في وقت رهيب، تصحبني جيوش من الأفكار وألعاب الخيال التي تشبه أحلاما تحترق في لحظتها مثل شهب، محطة عربية أقاموها ربما بعد زلزال الثورات العربية قبل عدة سنوات، طريق ترابي طويل وعلى جنباته جدران مليئة بالذكريات والرسومات الملونة الجميلة، وعبارات غزل وسياسة متكررة. في هذا الطريق الملهم نحو هذه المحطة، هجمت الأفكار على رأسي المثقل بأسئلة كثيرة حول حالنا العربي التي لا تسر الآن، فقد هربت من ضياع الوقت في وقت ضائع الى مجهول، من وقت ممل الى طريق غامض وموح، بدأ الخيال يتحرك وبدأت أرى أو أتخيل مدينة عربية صغيرة تنتظرني، بيوت مشرقة وشوارع مخططة وطرق للمشاة ومقاه ومطاعم وأرصفه نظيفة عليها طاولات للزوار، قلت: هل هذه هي الجنة، ثم رأيت أن جيوش الأفكار تحتاج الى فرز وترتيب حتى أعرف طريقي الى أين.
تذكرت أنني في رحلتي السابقة لمحت بجانبي كنوت هامسون يمشي جواري، هذا الذي تسكع طويلا في مدينته النرويجية التي يحبها، كان يريد أن ينشر مقالة لكي يشتري بريالين خبزا وكأس شاي، ظلت مقالته معلقة داخل كيس في وقته الضائع الذي قابل فيه كل أشباهه وتحاور معهم، ظل يدور بها على صحف المدينة حتى جفت أفكارها، كان يسبقني بخطوات صغيرة وأنا أحاول تذكر بعض لحظات روايته الجائعة، ولهذا استطعت أن أرى جسده الموحي يمشي أمامي بلفافته القديمة حتى اختفى، قلت ربما أجده في المحطة ونشرب هناك الشاي بالنعناع.
حين وصلت المحطة وجدت تحت الصخرة سجادة جلوس صغيرة، وصديقتي قريبة منها تعد الشاي، جلست متعبا وهي جاءت ثم جلست وهي تضحك.
قلت لها: لماذا تضحكين.
قالت: وصلتني كوابيسك الحالمة وقصائدك المحترقة.
قلت لها: وإذن تعالي نتكلم عن أوضاعنا العربية التي لا تسر.
قالت: أخشى أن تكون أحلاما داخل حلم.. مثل أكياس داخل كيس كبير.
قلت: نعم.. مللنا من الكلام.
قالت: أين التغيير والتجديد..
قلت: رأيت بالأمس فيلما عن الخيالات والهواجس حين تتحول الى حقيقة على أرض الواقع.
قالت: أحب أفلام الواقع.
قلت: في الواقع مشاهد أكثر خيالا من الخيال نفسه.
قالت: الشعر أفضل.
قلت لها: أن كل مقاطع الشعر أصبحت مؤلمة.
قالت: مثل ماذا..
قلت لها: قصيدة لنوري الجراح عن الشام يقول فيها:
كل ما أسمعه الآن من بعيد.. ضجة جرافات وهي ترفع الحقائق عن أطفالي المكدسين هم والموت.. تحت الانقاض.
قالت وأذكر أيضا: لست منهكة بأعمال المنزل ولا مجبرة على العمل.. مع ذلك أفكر بالانتحار.
قلت لها وقرأت أيضا: لماذا نشعر باليتم، بالرغم من أن لنا أما تطبخ الطعام، وتضربنا.
صبت لي الشاي ثم أخرجت لسانها الصغير وحركته يمينا ويسارا..
ثم قالت: مع ذلك فهو شعر لذيذ.
الآن أشعر أنني مشيت طويلا، والأفكار لازالت متقدة مثل نار صغيرة، حتى واجهني محمد زفزاف وقد أنهى كتابه (الثعلب الذي يظهر ويختفي) وخرج يتمشى كما يقول، حكايته كانت عن مدينته الصويرة التي كالمرأة والمرأة هي القفل والمفتاح معا، حكاية ممتعة عن الزمان وعن الأمكنة التي مر بها وصورها العجيبة.
قلت لمحمد: أين نحن
قال: والله لا أدري
قلت: ربما المحطة قريبة من هنا
قال: توكل على الله
قلت له: سوف أكتب عن محاولة عيش والحي الخلفي والثعلب الذي يظهر ويختفي، كأنها حكاية واحدة.
قال: كما تحب يا صديقي.
ثم دخل مقهى مظلم كأنه مغارة.
واصلت السير أ وأنا فكر كيف أبدأ الكتابة، ثم بمفاجأة سألت نفسي: ماذا سيحدث في حال كنت لست ضائعا ولست مؤجلا، في حال كنت موجودا، في حال كنت مرميا مثل قطعة أثاث في بيتي، ماذا سأفقد، هل سأفقد الاستقرار والملل. لا شيء فعلا، لكن في هذا الطريق لحظات مثيرة تحرض الخيال على الحركة، متعة أن تكون مرتحلا وضائعا في الوقت الضائع وتكون مثل شيء مفقود، مثل متعة أن تكون حرا وجديدا وتبدأ من الصفر بلا ذاكرة وبلا عمل، ولهذا تذكرت الأشياء التي دفنتها في السطح قبل ترك البيت، وشعرت أن كل شيء يتسرب من حولي.
وصلت المحطة في لحظة هبوب عاصفة صغيرة كأنها عمود من التراب . كانت صارمة تركض كأنها امرأة ضائعة تبحث عن حب مفقود ، وصلت سالما إلا من آثار خيالات صغيرة لازالت تعبث في روحي، لم أجد سجادة الجلوس الصغيرة ولم أجد الشاي ولم أجد صديقتي، لكني وجدت رأسي راقدا على صخرة كبيرة أعرفها والأفكار والأحلام والخيالات والذكريات تسيل منه، وكان لها رائحة حليب قديم. قلت في نفسي: سوف أجمع كل هذا وأكتب موجزا عن أيامي القديمة.