هنا، هنا حيث أقف في حديقة البيت، وحيدًا، أدخن سيجارتي الألف، انتهى فصل الشتاء، بقايا من البرد الدافئ يلامس جلدي كحرير مبخّر.
قبل قليل عدتُ من العمل و تناولتُ أطيب وجبة غداء من يديّ أمي، بيضٌ وطماطم مقلية. شارفت الساعة على الخامسة عصرًا، وكما قلتُ، وحيدا أستنشق الدخان وأحسّ به يملأ صدري بحرارته المريحة وأتلذذ حين أنفثه بعيدًا عن وجهي.
تمشيت ذهابًا وإيابًا، لم أرد الخروج من البيت عصر هذا اليوم، ولكن سرعان ما ضاق صدري تدريجيًا و اختلفت مع نفسي كثيرًا، أحادثني وأتعارك معي، الشيء الوحيد الذي اتفقت به معي هو أنني أشتاق فتاةً لم أرها منذ زمن بعيد.
وقتها كنت أقلب الصور في الأنستغرام، صادفني فيديو لمغنية فرنسية جميلة، لم أستطع معرفة اسمها لأنني لا أفهم اللغة الفرنسية طبعًا، ظهرت لي كاقتراح من إدارة التطبيق، يبدو أنها مشهورة جدًا، لم أحاول البحث عنها في محرك البحث "كوكل". أثارني _ حقًا_ الشبه الكبير بينها وبين حبيبتي : شقراء، نحيفة، طويلة، يافعة، عينان صفراوان، ابتسامة مراهقة نزقة وشرسة، والأكثر دهشةً كان قميصها القصير المنفتح على نهدين صغيرين سافرًا عن أعلاهما كبرتقالتين من ديالى.
تذكرتُ _ وهي تغني وتضحك في الفيديو _ كيف التقيت بحبيبتي التي أفارقها منذ أربع سنوات، وتذكرت أيضًا اللحظات التي تأملت عينيها فيها بلهفة، ونعومة أصابعها و بياضهما المائل للحمرة، فعدت لزمن أحاول نسيانه.
أشعلت سيجارة أخرى واضعًا يدي على رأسي تارةً ممسدًا شعري تارة أخرى... وقلت في نفسي : أشتاقها كثيرًا.
حسبتُ عدد قطع "الكاشي" في أرضية الباحة، وعدد الأشجار، وألوان الأصباغ على الجدران المتباينة.
بحثت عن رقمها بارتباك لأجده بعد لأيٍ في تطبيق مهمل، اتصلت بها مرارًا وتكرارًا دون جدوى، أعرف أنها قد حظرتني على وسائل التواصل كلها.
فتحت الباب وخرجت لا أقصد مكانًا محددًا، مشيت حتى المقهى، رأيت دخان الأراجيل وسمعت جلبةَ الدومنة الصاخبة، فلم أرغب بالدخول، لذا غيرت وجهتي صوب النهر والبساتين في نهاية المدينة، اتصلتُ بصديقي المهذار الممتع، وعندما رد على مكالمتي أنهيتها بسرعة، لم أشأ أن يطلع على تخبطي وحزني و تشوش ذهني، لأنه سيجبرني على البوح وأنا هارب من الكلام، لن يزعل مني، فهو صديقي الأثير، و سيتفهمني حتما، فلم ألتقِ به.
لم تفارق السيجارة يدي، ولدقائق، وصلت إلى النهر الذي تحفه بساتين الكروم و النخيل، وقت الغروب كان قد حلّ والشمس أفلت إلا قليلًا منها، الصمت يملأ الشطآن عدا صوت عصافير سعيدة و زرازير خائفة تحت شجرة قريبة.
مرّتْ أربع ساعات ولم أنطق كلمة واحدة وسط آلاف الجُمل الصامتة، قررت أن أقول شيئًا أو أصرخ ... أشتاقها. فقط هذه الكلمة التي خرجت ثم عم السكون.
لم أجلس كثيرًا ، تأملت جَريان النهر وشعرت بحريته، فغاظني هذا، لأنه وضّح لي مدى تقيّدي في العالم المنسي الذي أعيشه. ورأيت كيف يأخذ الماء قراره منسابا بين الحشائش على الضفة دون تفكير أو تلكؤ، و احتضان الأوراق والأغصان له دون تريث أو رَوية، والحمام وهو يعود لأعشاشه بعد نهار من الحرية.. أشتاقها .
عدت من حيث وصلت، و كما التقيت بها أول مرة، رجعتُ وحيدًا مثل مفارقتي النهر الآن وصورة المغنية في الفيديو وصورة حبيبتي المنحوتة في صخور ذاكرتي لا تريدان الاختفاء أبدًا.
لم أسمع صوتها منذ أربع سنوات، أتوق للإصغاء له. مرّ صوت ضحكتها على أذني كريح باردة في صيف حارّ، لدرجة أنني أغمضت عيني و رفعتُ وجهي للسماء مستنشقًا _ وبقوة_ نسيم نهايات الشتاء و رائحة أوراق التوت والنبق و الكروم، ولكنني عائد منفردًا إلا من سيجارة.
وصلت الباب بعد أذان المغرب، تأملتُ الجامع المضيء المملوء بالشَّيَبة، لم أندفع مثل كل يوم لولوجه، فأكملت طريقي للبيت. تذكرت _ وأنا أفتح الباب _ الخاتم الذي اشتريته هديةً لها، لم ألتقِ بها في ميلادها حينها لأعطيها إياه، فأردتُ أن أحتفظ به كذكرى، ولكن، و دون سابق إنذار، قررت أن وقته قد انتهى، ولابد من دفنه في مكان بعيد، فقصدتُ غرفتي مسرعًا و أخرجته من خزانة سرية في دُرجٍ مخفي، و كالمجنون، شغّلت سيارتي و انطلقت للطَّمْر الصحي في الجانب الآخر من المدينة، ثم بلا شعورٍ وجدتُني أحاول إحراقه، لكن النار الضئيلة أضعف من صهر معدنه، كنت قد اشتريته من أجرة أيام طوال في البناء، هو أغلى هدية أنفقت عليها في حياتي، تذكرتُ أنني قررت دفنه.
وبين نباح الكلاب و الرائحة الكريهة المنبعثة من الطمر، حفرت قبرًا صغيرًا وألقيته فيه، ثم وقفت ورميت معه عقب سيجارة، ثم طمرتُ القبر بالتراب بقدمي ورجعت للسيارة...
وبعد أن وصلت سيارتي، عدت مهرولًا وبصقتُ على القبر.
بدأ جسمي يرتعش، واستعرت الحرارة في خديّ، وما إن وصلت إلى الطريق العام حتى جذب أسماعي صوت الموسيقى من الراديو، أغنية هادئة، فرفعت الصوت لأعيد تركيزي على الطريق متناسيًا ما جئتُ لأجله.. كُنْ منصفا يا سيدي القاضي.. أغنية كاظم الساهر.
غسلت وجهي عدة مرات و تفحصت الموبايل لأشغل نفسي بشيء من اليوتيوب بعد أن تمددت في سريري، فوجدت مكالمة فائتةً، تأملتُ الاسم، فكان اسمها، هي حبيبتي التي أشتاقها.
________________
* نشرت في جريدة النهار، عدد ٣٣٣٠ ، بتاريخ غدٍ الثلاثاء.
قبل قليل عدتُ من العمل و تناولتُ أطيب وجبة غداء من يديّ أمي، بيضٌ وطماطم مقلية. شارفت الساعة على الخامسة عصرًا، وكما قلتُ، وحيدا أستنشق الدخان وأحسّ به يملأ صدري بحرارته المريحة وأتلذذ حين أنفثه بعيدًا عن وجهي.
تمشيت ذهابًا وإيابًا، لم أرد الخروج من البيت عصر هذا اليوم، ولكن سرعان ما ضاق صدري تدريجيًا و اختلفت مع نفسي كثيرًا، أحادثني وأتعارك معي، الشيء الوحيد الذي اتفقت به معي هو أنني أشتاق فتاةً لم أرها منذ زمن بعيد.
وقتها كنت أقلب الصور في الأنستغرام، صادفني فيديو لمغنية فرنسية جميلة، لم أستطع معرفة اسمها لأنني لا أفهم اللغة الفرنسية طبعًا، ظهرت لي كاقتراح من إدارة التطبيق، يبدو أنها مشهورة جدًا، لم أحاول البحث عنها في محرك البحث "كوكل". أثارني _ حقًا_ الشبه الكبير بينها وبين حبيبتي : شقراء، نحيفة، طويلة، يافعة، عينان صفراوان، ابتسامة مراهقة نزقة وشرسة، والأكثر دهشةً كان قميصها القصير المنفتح على نهدين صغيرين سافرًا عن أعلاهما كبرتقالتين من ديالى.
تذكرتُ _ وهي تغني وتضحك في الفيديو _ كيف التقيت بحبيبتي التي أفارقها منذ أربع سنوات، وتذكرت أيضًا اللحظات التي تأملت عينيها فيها بلهفة، ونعومة أصابعها و بياضهما المائل للحمرة، فعدت لزمن أحاول نسيانه.
أشعلت سيجارة أخرى واضعًا يدي على رأسي تارةً ممسدًا شعري تارة أخرى... وقلت في نفسي : أشتاقها كثيرًا.
حسبتُ عدد قطع "الكاشي" في أرضية الباحة، وعدد الأشجار، وألوان الأصباغ على الجدران المتباينة.
بحثت عن رقمها بارتباك لأجده بعد لأيٍ في تطبيق مهمل، اتصلت بها مرارًا وتكرارًا دون جدوى، أعرف أنها قد حظرتني على وسائل التواصل كلها.
فتحت الباب وخرجت لا أقصد مكانًا محددًا، مشيت حتى المقهى، رأيت دخان الأراجيل وسمعت جلبةَ الدومنة الصاخبة، فلم أرغب بالدخول، لذا غيرت وجهتي صوب النهر والبساتين في نهاية المدينة، اتصلتُ بصديقي المهذار الممتع، وعندما رد على مكالمتي أنهيتها بسرعة، لم أشأ أن يطلع على تخبطي وحزني و تشوش ذهني، لأنه سيجبرني على البوح وأنا هارب من الكلام، لن يزعل مني، فهو صديقي الأثير، و سيتفهمني حتما، فلم ألتقِ به.
لم تفارق السيجارة يدي، ولدقائق، وصلت إلى النهر الذي تحفه بساتين الكروم و النخيل، وقت الغروب كان قد حلّ والشمس أفلت إلا قليلًا منها، الصمت يملأ الشطآن عدا صوت عصافير سعيدة و زرازير خائفة تحت شجرة قريبة.
مرّتْ أربع ساعات ولم أنطق كلمة واحدة وسط آلاف الجُمل الصامتة، قررت أن أقول شيئًا أو أصرخ ... أشتاقها. فقط هذه الكلمة التي خرجت ثم عم السكون.
لم أجلس كثيرًا ، تأملت جَريان النهر وشعرت بحريته، فغاظني هذا، لأنه وضّح لي مدى تقيّدي في العالم المنسي الذي أعيشه. ورأيت كيف يأخذ الماء قراره منسابا بين الحشائش على الضفة دون تفكير أو تلكؤ، و احتضان الأوراق والأغصان له دون تريث أو رَوية، والحمام وهو يعود لأعشاشه بعد نهار من الحرية.. أشتاقها .
عدت من حيث وصلت، و كما التقيت بها أول مرة، رجعتُ وحيدًا مثل مفارقتي النهر الآن وصورة المغنية في الفيديو وصورة حبيبتي المنحوتة في صخور ذاكرتي لا تريدان الاختفاء أبدًا.
لم أسمع صوتها منذ أربع سنوات، أتوق للإصغاء له. مرّ صوت ضحكتها على أذني كريح باردة في صيف حارّ، لدرجة أنني أغمضت عيني و رفعتُ وجهي للسماء مستنشقًا _ وبقوة_ نسيم نهايات الشتاء و رائحة أوراق التوت والنبق و الكروم، ولكنني عائد منفردًا إلا من سيجارة.
وصلت الباب بعد أذان المغرب، تأملتُ الجامع المضيء المملوء بالشَّيَبة، لم أندفع مثل كل يوم لولوجه، فأكملت طريقي للبيت. تذكرت _ وأنا أفتح الباب _ الخاتم الذي اشتريته هديةً لها، لم ألتقِ بها في ميلادها حينها لأعطيها إياه، فأردتُ أن أحتفظ به كذكرى، ولكن، و دون سابق إنذار، قررت أن وقته قد انتهى، ولابد من دفنه في مكان بعيد، فقصدتُ غرفتي مسرعًا و أخرجته من خزانة سرية في دُرجٍ مخفي، و كالمجنون، شغّلت سيارتي و انطلقت للطَّمْر الصحي في الجانب الآخر من المدينة، ثم بلا شعورٍ وجدتُني أحاول إحراقه، لكن النار الضئيلة أضعف من صهر معدنه، كنت قد اشتريته من أجرة أيام طوال في البناء، هو أغلى هدية أنفقت عليها في حياتي، تذكرتُ أنني قررت دفنه.
وبين نباح الكلاب و الرائحة الكريهة المنبعثة من الطمر، حفرت قبرًا صغيرًا وألقيته فيه، ثم وقفت ورميت معه عقب سيجارة، ثم طمرتُ القبر بالتراب بقدمي ورجعت للسيارة...
وبعد أن وصلت سيارتي، عدت مهرولًا وبصقتُ على القبر.
بدأ جسمي يرتعش، واستعرت الحرارة في خديّ، وما إن وصلت إلى الطريق العام حتى جذب أسماعي صوت الموسيقى من الراديو، أغنية هادئة، فرفعت الصوت لأعيد تركيزي على الطريق متناسيًا ما جئتُ لأجله.. كُنْ منصفا يا سيدي القاضي.. أغنية كاظم الساهر.
غسلت وجهي عدة مرات و تفحصت الموبايل لأشغل نفسي بشيء من اليوتيوب بعد أن تمددت في سريري، فوجدت مكالمة فائتةً، تأملتُ الاسم، فكان اسمها، هي حبيبتي التي أشتاقها.
________________
* نشرت في جريدة النهار، عدد ٣٣٣٠ ، بتاريخ غدٍ الثلاثاء.