أحمد رجب شلتوت - رواية القمع.. "عروس الفرات" نموذجاً

فاجأ المفكر العراقي الدكتور على المؤمن قراءه بإصدار رواية، تشكل الحلقة الإبداعية الوحيدة إلى الآن في سلسلة مؤلفات فكرية تربو على العشرين كتاباْ، وهي رواية "عروس الفرات"، وفيها يرصد جانباً من الواقع العراقي خلال الفترة من 1979 وحتى 1982، لذلك قد يتساءل القارئ عن سبب ورود المفكر لنبع الرواية، فهل يريد التوثيق لتلك الحقبة مستفيداً من إمكانات الفن الروائي؟ أم أن لديه تجربة ما لم يتناولها فكرياً، ويرى أن الرواية هي الوسيط المناسب القادر على توصيل تلك التجربة للقارئ؟

عموماً، ومهما كانت الأسباب؛ فقد مارس حقه في الكتابة، وقدّم نصاً روائياً يمتاز بلغة جزلة رصينة، ويعبر عن تجربة انشغلت بها عشرات الروايات العربية، وهي تجربة القمع والعنف الذي تمارسه السلطات الحاكمة الغشوم ضد معارضيها. وقد اهتمت الرواية العربية إلى حد كبير بتجسيد صور العنف السلطوي المتنوعة والمتمثلة في غياب الحريات وانتهاك حقوق الإنسان، وقد أقر الدارسون بوجود قضيتين داخليتين انعكستا على أغلب إنتاج الأدباء العرب، وهما القهر السياسي والظلم الاجتماعي، لدرجة تشكل تياراً روائياً يمكن أن نطلق عليه "رواية القمع". ويمكن للمتابع أن يسرد عشرات الأمثلة سواء من المدونة الروائية العراقية أم من بين أعمال شهدتها أقطار عربية أخرى، فالقمع وعنف السلطة وغياب الحريات قواسم مشتركة بين الجميع ولا تقتصر على بلد دون آخر، وإن اختلفت درجاتها وتباينت أنواعها. وبالطبع ينعكس ذلك على الأديب، فالأدب لا بد أن ينبع من الواقـع الذي يعيشه، والسياسة جزء منه، إلى جانب غيرها من الجوانب النفسيـــة والاقتصاديـــة وغيرهــــا، فلا بد من تنـــوع الرؤيـــة الأدبيــــة وألّا تكون قاصــرة على الجانب السياسي فقط.
وهذا يحيلنا إلى كلمة الناشر المثبتة على الغلاف الخلفي، حيث يصف الرواية بأنها رواية اجتماعية سياسية ملحمية، لصيقة بالواقع العراقي، تحكي بأسلوب كلاسيكي وقائع "سنوات الجمر" العراقية الأربع، ويحددها بأنها من 79 وحتى 82. ويصف الكاتب بأنه أبدع في تحويل الواقع إلى حكاية مستثمرا معايشته لذلك الواقع، فيحكي قصة عائلة عراقية، مثّلت نموذجاً مصغراً للشريحة الملتزمة الفاعلة من المجتمع العراقي المتنوع، بعاداتها وتقاليدها وانتماءاتها. وهذه الحوادث ليست من نسج خيال كاتبها، بل هو الواقع الذي عاش تفاصيله، ودوّنه كما تلمّسه، فهو إذن يوثق لتجربة، وقد اختار أن يقدم تجربته في شكل فني روائي؛ لمعرفته بقدرة الرواية على هضم الأحداث والتغييرات التي تفرضها بكافة أشكالها، وملامسة نبض الشارع عن قرب، فهناك اعتقاد لدى الكثيرين بأن الإبداع هو عملية نقل الأحداث والتعبير عنها حكائيا أو سرديا، ولكي يتم ذلك؛ فالأمر يحتاج إلى اختمارها في ذهن المبدع وإعادة صياغتها لاحقاً، وربما لذلك؛ انتظر الكاتب لربع قرن بين وقوع الأحداث وبين سرده لها أو استعادتها في روايته.
أما عن رواية "عروس الفرات"، وقد أناب الكاتب عنه راوياً عليما، يعلم متى بدأت الحكاية ومتى انتهت وكيف سارت أحداثها، ويعلم بالشخصيات..ظواهرها وبواطنها، أي سلوكها وأفعالها وأقوالها، وحالاتها النفسية والفكرية والعاطفية، فهو يتيح للكاتب حرية كبيرة في السرد، فضلا عن أنه قد يجد فيها تعويضاً عن حرية أخرى مسلوبة من شخصيات الرواية. الراوي العليم يحكي من الخارج، وكل شخوص الرواية وأحداثها مفرودة أمامه على قماشة السرد، يحركها كيفما يشاء، ويدفع بها لمركز اهتمام القارئ، أو يخفيها. المهم أن وعيه يمتزج بوعي الشخوص وعالم الحكاية. وقد وُفق الروائي حينما عمد إلى تضييق الهوة بين صوت السارد العليم وأحداث وشخوص الرواية، فيظهر مؤمناً بما يؤمنون به.. يفكر مثلهم.. يتكلم بلغتهم بقدر الإمكان، ويقدمهم للقارئ في بناء متجانس.
تتكون الرواية من ثمانية فصول، منح المؤلف كل منها اسماً، الأول اسمه "فرحتان"، ويبدأه الكاتب بتحديد المكان الذي تنطلق منه الأحداث، حيث بيت في "الحويش" بالنجف، يرسم الكاتب تفاصيل المشهد بدقة، فالبيت قديم، سور حديقته تآكل بصدأ الأيام، حجارته امتلأت بالشقوق التي أصبحت أعشاشاً لليمام. وهذه التفاصيل لم تأت عبثاً، بل كانت تحمل إشارات خفية إلى ما سيئول إليه البيت، فالصدأ سيزداد والشروخ ستتسع، بفعل ما سيمر به البيت وسكانه من أحداث.
البيت تسكنه أسرة الدكتور عبد الرزاق الموسوي، الأستاذ الجامعي المتقاعد، ويقوم الراوي العليم بتعريفنا بأجيال العائلة الثلاثة، فكأنه راو شعبي يقدم شخصيات المأساة التي ستقع لهم وتشتت شملهم، ومتخذاً من مشاكلهم نموذجاً لما يحدث في المجتمع كله، فيسلط الضوء على مشاكل هذا المجتمع في الداخل، من خلال النظر إلى شبكة العلاقات الاجتماعية وما آلت إليه، وتسطير الحياة الاجتماعية بكافة مشاكّلها وأسبابها، فالتركيز على الظلم ومحاولة إظهاره إما بالحديث المباشر أو بالصورة الواقعية التي ترسمها الرواية، قد يدلّ على أن التجربة المصورة تهدف إلى إثارة انفعال القراء وتأجيج عواطفهم ضد السلطات الحاكمة المنتجة لكل ما صورته الرواية من قمع وخراب.
ويستشعر القارئ منذ البداية ما ستؤول إليه الأمور، فثمة جمل تتخلل الحديث توحي بالجو العام وما فيه من قمع وكبت، فها هو أبو عادل يحذرهم حينما يخوضون في أحاديث السياسة بقوله "للحيطان آذان"، وفي موضع آخر ينبههم إلى أن الريح توشك أن تبلغ شديد عواصفها. وبالفعل تشتد وتعصف بالأسرة التي تنتظر قدوم شهر رجب لتعقد قران صلاح، إلا أنها لن تر فرحاً، بل ولن يجتمع شملها ثانية.
وهكذا كانت بداية النص موحية بمساراته، قائدة إليه، فلم تكن البداية في حقيقتها إلا نهاية لسلسة طويلة من المشاعر والأحاسيس والمواقف قد تستغرق الحياة كلها. ولكنها وهي تسجل بداية لعمل تكشف أولاً عن عمق الحياة التي سبقتها وولدتها، وعن بداية لحياة العمل الجديدة التي تصبح المسؤولة عن تكامله وتماسكه، وكما يقول الناقد العراقي ياسين النصير "البداية هي الباب الذي ندلف منه إلى عالم النص الرحب، ولكن من الممكن في الوقت نفسه أن تصبح الجدار الذي يصرفنا عن الدخول إلى هذا العالم ويصدنا عن محاولة الولوج إلى ما وراء حائط البداية الأصم".
البداية الموفقة هنا قادت القارئ إلى عالم النص وإلى قضيته الكبرى التي يعبر عنها، فكبير الأسرة عبد الرزاق الموسوي الأستاذ الجامعي يموت كمداً وهو يرى اغتصاب ابنته شيماء، عروس الفرات، التي كانت تدرس الطب لتصير طبيبة تداوي العلل، لكن علل المجتمع وحكامه جعلتها تلقى حتفها مرتين: الأولى معنوياً بالاغتصاب، والثانية فعلياً في ساحة الإعدام. وكان شقيقها صلاح قد سبقها إلى نفس المصير، ومثلهما أكبر أبناء الأسرة الدكتور "عادل"، اعتقلته السلطات مع زوجته وطفليهما في مطار بغداد، وقتلوا جميعاً في المعتقل، في مجزرة كبيرة، والحفيد على الطفل الصغير خنقه الجلاد أمام أمه في غرفة التعذيب، ليحملها على الاعتراف، وهكذا كل أفراد الأسرة باستثناء ياسمين زوجة الابن الثاني "أحمد"، التي كانت شاهدة على كل تلك الوقائع، حتى التقت "أحمد" في مخيم الغربة، بعد أربع سنوات من الفراق، تحكي له ما تفاصيل ما حدث في غيابه، وهو يبث فيها الأمل فهو المقاوم الذي لم يستسلم ولم يسقط، يقول لها أن سيف السيد عبد الرازق سيبقى مشرعاً محمولاً بسواعد أسلافه، وسيبقى السيد حياً بحفيده الذي سيولد من جديد. وهكذا تنتهي الرواية التي تصور واقعاً كابوسياً، لكن تظل متمسكة بالأمل في غد أفضل.
ثمة سمات فنية أخرى نلمسها في رواية "عروس الفرات"، فهي وبحسب انتمائها لتيار رواية القمع تستغرق في اليومي والتسجيلي وكأنها وثيقة حقيقية تكشف مدى معاناة الشخصيات من جهة، وتدين الجلاد من جهة أخرى.
كذلك فهي رواية درامية بامتياز، وذلك ضروري لرواية القمع، وهي درامية بالمعنى الذي قصد إليه "إدوين موير" في كتابه "بناء الرواية"، حيث السجين أو المعتقل هو ذاته الحدث في حالة الفعل أو الحركة، إنه الحياة في ذروة احتدام الصراع حين تجد الضحية نفسها في مواجهة الجلاد، كما نرى في شخصيات أسرة السيد عبد الرازق، وكل منهم مناضل أعزل مسكون بضعفه الإنساني، في مواجهة جلاد مدجج بكل وسائل وأساليب التعذيب.
وتكتسب الرواية دراميتها حين تتوازن فيها قيمة الحدث مع قيمة الشخصية، بحيث يرتبط كل تغيير في تكوين الشخصية بإحداث تغيير مواز في الحدث وفي الحبكة، وفي المقابل فإن كل تغيير في الحدث يقود بالضرورة إلى تغيير في الشخصية، فيبقى التوازن الفني قائما بين الطرفين.
وخير مثال على ذلك شخصية أحمد وما يتعرض له وما تتأثر به شخصيته، لكن هذا التوازن يختل أحياناً، وقد يرجع الخلل إلى كون الكاتب ينطلق أساساً من موقف أيديولوجي أو أخلاقي يريد التعبير عنه، ويبدو ذلك خصوصاً في مشاهد التحقيق، حيث الجلاد دائماً بلا أخلاق يتجرد من أي مشاعر إنسانية، وكل ضحاياه يصورهم النص في صورة مثالية فوق إنسانية.
كذلك فرض انتماء رواية "عروس الفرات" إلى تيار رواية القمع اختيار نوع خاص من الشخصيات، فالشخصية في هذا النوع من الروايات لا تعيش حياة عادية لكنها تحيا واقعاً تراجيدياً تفرضه عليها مواجهة الجلاد ومراوغة الموت، مما يكسبها بعداً درامياً وحيوياً، يتجاذبها دائماً حالات الصمود والضعف والانهيار ثم التماسك ومواصلة الصمود، لكن يعيب الرواية أن هذا الغنى في الشخصيات اقتصر على الشخصيات التي اختارت المقاومة، بينما الشخصيات الممثلة للسلطة جاءت نمطية ذات بعد واحد، فبدت الشخصية وكأنها مجرد آلة من آلات التحقيق أو التعذيب، فأفقدها النص بشريتها.
بقيت ملاحظات أخرى منها أن النص كان يميل أحيانا إلى الاستطراد دون داع أو مبرر، فمثلا في ص 38، يبدأ القسم رقم (5) بقوله: ((في شوارع النجف القديمة، المدينة العريقة الملتصقة بطابعها التراثي، كان الجو ملتهباً ومسلحو السلطة منتشرون في كل مكان)). كان يمكن للكاتب أن يبدأ هذا القسم بجملة " كان الجو ملتهبا" فما ذكره عن النجف لم يكن مهماً بالنسبة للنص الروائي. كذلك كان المكان في الرواية مجرد إطار للأحداث، لم يكن عنصراً فاعلاً، لم يؤثر لا في الشخصيات ولا في الأحداث.
وأخيراً؛ فقد أبدع الكاتب في روايته أو وثيقته الفنية التي تدين القمع، لكنه لم يتجاوز الإدانة، مكتفياً بالإجابة عن أسئلة ما قبل النص ساكتاً عن أسئلة الما بعد، ولو فعل لأغنى نصه برؤى فنية وإنسانية تضعه في مصاف نماذج روائية مميزة تنتمي لتيار رواية القمع كما فعل "يوسف إدريس" في "العسكري الأسود"، و"عبد الرحمن منيف" في "شرق المتوسط"، وغيرهما، وربما يرجع ذلك لكون الكاتب ـــ كما أشرنا ـــ أراد لعمله أن يكون وثيقة إدانة للقمع تتقنع بأقنعة الرواية كجنس أدبي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى