فهد العتيق - أنفاس الليل.. قصة قصيرة

في هذا الليل البري البارد والهادئ والمخيف والممطر بهدوء، كنت أسمعه يأتي خفيفاً من بعيد ، كأنه صوت طائر محبوس ، أو صوت لكائن آخر لا أعرفه ، لكنه صوت أنيس يشبه الموسيقى أحياناً، وأحياناً يشبه الرنين البعيد . أسمعه الآن وأنا أرتجف برداً بعد أن ترجلت من سيارتي التي هوت في منحدر صغير وسط براري المدينة القريبة ، حين كنت أبحث عن مخيم غامض الملامح.

أغلقت أبواب السيارة بعد أن أضأت نورها القصير ثم مضيت تجاه ضوء بعيد وشاحب، يظهر أحياناً ويغيب فجأة ، ظللت أسير وسط الظلام ، على أرض مظلمة ورطبة لازالت تستقبل مطرها الخفيف ، وحولي ذلك الصوت الذي يأتي من كل الجهات موسيقياً وعذباً، يرن في أذني الآن بقوة ، صوت أليف ومميز وسط هذا الضياع الغريب ، حتى أنني لا أعرف اتجاه المدينة ، رغم الأضواء البعيدة والباهتة التي أراها تنبعث أحيانا من كل اتجاه ، و تختفي فجأة وكأنها شهب دخلت في لعبة مسرحية مع خوفي الذي لم يبلغ منتهاه ، لكنه لازال ممتعا ومُنتظراً أو متحفزاً أو مندهشاً. مشيت مسافة نصف ساعة تقريباً ، حتى أضعت أنوار سيارتي ، ولازال الصوت الخفي يتبعني، مع صوت المطر على الأرض الرطبة ، والهواء البارد يضرب صدري ضربات متتالية، حتى بدأت أشعر أن حلقي صار أكثر جفافاً وخشونة ، مع إحساسي بالدوار، وخطواتي أصبحت أقل اتزانا و بدأت أتحدث مع نفسي وأنا اضرب الأرض الممطورة بقدمي الرخوتين ، حتى عاد صوت الطائر المحبوس ، قادماً، ربما من البعد ، يضئ ظلام الوقت والمكان والروح والأسئلة والخوف.

كنت أفكر وسط هذه الحالة بأشياء صغيرة ، أحياناً أمشي يأسا وعيناي على الأرض، استرجع شريط حياتي القريبة ، وأخذت موقفاً من بعض الأشياء والممارسات، بدأت أحاكم الرجل الذي كنته قبل هذا الضياع ، وكنت أتساءل : كيف تسنى لي ، أنا المغرور بذاتي أن أتجاهل أشياء مهمة ، كيف أضعت الوقت والفرص و..

بدأت البحث في الكثير من الأفكار وإعادة تصوير الكثير من المواقف ، بدأت الأشياء والأفكار والصور واضحة وجلية أكثر من أي وقت مضى، ورأيت كيف تتداخل الصور المتناقضة والصحيحة مع بعضها البعض ، وكيف في ظل الانشغالات نقبل بكل شيء، كنت أرى عالمنا مثل جزر معزولة ، وأرى المسرحية بكامل فصولها ، مع صوت ذلك الصفير البري أو الطائر المحبوس . كنت أعود إلى الطفل في داخلي ، وأشعر أن هذا المكان البعيد بدأ يترك فيَّ أثراً من روحه برائحة جديدة ونفاذة لم ألفها بعد ، وكنت أحاول أن أتعايش مع هذا الألم بسرية ووقار ، في حين تتحرك الذاكرة والحكايات مبتعدة هناك إلى الطفولة القصوى ، وإلى تعرية الواقع الذي كان واقعاً ضخماً ومسيطراً بضبابه قبل هذا الموقف.

لقد أحبب صوت الطائر الذي يسير معي الآن، لكني بدأت أشعر بالمسئولية أكبر بعد أن فقدت إضاءة سيارتي ، ثم تنبهت أنني قطعت الآن أكثر من ساعة ، فآن للمحارب أن يستريح قليلاً على ظهر حصاة مبلولة على إيقاع أنفاس الليل ، وصفير ذلك الطائر الذي ربما لا يكون طيراً.

على ظهر الحصاة الممطورة ، مكثت نحو عشر دقائق ، كأني أنتظر أحداً وسط هذا الضياع في البراري المظلمة والممطرة ، لا يمكن أن تحدد بماذا تفكر، لقد شعرت أنني لا ابحث عن حل بقدر ما أنتظر دليلاً ما لاتجاه المدينة الصحيح ، أو عابر سبيل أو نور لا يبتعد حين أمشي إليه. الخواطر والأفكار تأتي عشوائية على نحو مثير، وفي وسطها تبرز صور غير معقولة، تحاول الاقتراب من هذه الحالة الغامضة التي أمر بها ، كنت أشعر أن قدمي المبلولتين أكثر ضعفاً ، وبدأ وجع جديد عند المفصلين ، أما ثيابي فقد أصبحت منذ فترة طويلة تقطر ماء السماء . كان صفير الطائر المحبوس لا يزال يرن في أذني بقوة ، يحدثني عن أشياء كثيرة يثير الكثير من الشجن ويعيد ذكريات قديمة.

الآن بدأت أرى وجوها قديمة أعرفها ، في عتمة خفيفة أمامي ، بدأت أشعر بدوار ثقيل أيضاً، وأنا أتأمل وجوهاً اصطفت بجانب بعضها بتعابير مختلفة ، كل أصحاب هذه الوجوه ماتوا، وكلهم الآن بدأوا في الحركة ، يتقدمهم وجه والدي الذي فقدته منذ أكثر من ثلاثين عاماً ، كان أكثرهم وضوحاً بشعر وجهه الأبيض ، تقدم أكثر ويده اليمنى أمامه حتى لامست خدي فصحوت من خدري اللذيذ ، وبقى بعض الدوار الذي سمح لي بتوديعه وداعاً يليق بحجم الفقد ، وفي كل وقت كانت تظهر وجوها متفرقة وتغيب، نساء ورجال فقدتهم منذ أزمنة بعيدة في حوادث أو أمراض مختلفة ، وجوه تظهر ووجوه تغيب وأنا في حال إرهاق شديد ، أرى نفسي في وجه أبي ، أرى أسئلتنا المعلقة وأحلامنا المنكسرة ومتاعب وجوهنا جميعاً, وكانت بين وقت واخر تطل علي بوجهها الفاتن ، تطل من البعد وأنا مشغول بوجوه كثيرة حولي، تطل من البعد فأشعر بتأنيب ضمير وندم وبكاء ، ثم في لحظات أخرى أشعر أنني أعيش حياة تائهة في عالم غير واضح وكثير الاحلام المؤجلة ، عالم لم أشارك في صنعه وليس لي في واقعه رأي.

تركت ظهر الحصاة التي استرحت عليها قليلاً ، واتجهت نحو ذلك اللون الفضي البعيد الذي يشبه قبة في نهاية الأفق ، قلت : تلك هي إضاءة مدينة الرياض ، أما سيارتي التي فَقدتُ إضاءة نورها القصير ، فلم يعد بالإمكان العودة لها بأي طريقة ، ظللت أمشي حتى وجدت أن الساعة قاربت الواحدة بعد منتصف الليل ولم أصل بعد إلى طريق يهديني إلى الشارع الرئيسي المؤدي إلى المدينة ، السماء مازالت تمطر بهدوء والليل يتنفس مطرها بهدوء أيضا . ظللت أسير باتجاه الضوء الفضي الواسع في قبة السماء ، وفي رأسي تدور حكايات كثيرة عن أولئك الذين خرجوا من بيوتهم ولم يعودوا، صاروا في عداد المفقودين ، وبدأت أهذي بكلمات غير واضحة ، صوت يخرج من داخلي يشعرني بالهزيمة واليأس.

لو أن يداً ضخمة تقلني الآن إلى حضن كفها الدافئ، ثم ترمي بي على سطح بيتنا، لو أن نهاراً يعجل بصباحه ، الآن ، لكي أعرف من أنا ، أين أنا ، أين الطريق. مازال المطر خفيفاً ومازالت الأصوات المختلفة القادمة من بعيد تتداخل، وبدون أسباب بدأت أشعر ، بعد عشر دقائق من المشي السريع المتواصل، أشعر أنني قريب من مكان ما ، كانت هناك مناظر سوداء بعيدة كأنها جبال ، وأحياناً تبدو كأنها جدران عالية مظلمة ، وحين اقترب منها تبتعد ، حتى بدأت أسمع أصوات سيارات شحن بعيدة ، بالتأكيد أنها تسير على الخط السريع لطريق الرياض القصيم ، وبعد لحظات قليلة من المشي والانتباه المركز ، اصطدمت بجدار حقيقي ، درت حول المبنى الصامت فوجدت به باباً مغلقاً ، ركضت إلى الطريق الترابي المؤدي إلى الطريق العام، مكثت دقائق حتى توقفت شاحنة ، ركبت بجوار السائق الهندي وأنا ألهث ، ولم أفق إلا وأنا مدثر بغطاء ثقيل في بيتي ، وقبل أن أسكن في نومي العميق ، تذكرت حواري مع الطائر المحبوس، حين كنت ضائعاً وسط البراري :

- قال الطائر المحبوس : عد إلى سيارتك ..

- قلت : كيف وأنا فقدتها منذ وقت طويل .

- قال : من خلال الطريق الذي سلكته سوف تصل إليها.

- قلت : هل أسير ساعة أخرى ؟

- قال : أفضل من المجهول الذي تذهب إليه ، الآن ، بقدميك.

- قلت : وماذا أفعل بسيارة في حفرة ممطورة ؟

- قال : تنام بداخلها حتى الصباح.

- قلت : بلا غطاء ولا ماء ؟

- قال : أفضل من المجهول الذي تذهب اليه.

كانت أنفاس ليل البراري تضيئ بصخب في نومي المتطامن قليلا .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى