سقط الشيخ . سقط فجأة مثل بيت قديم . سقط الشيخ إبراهيم الذي كان يركض في حارات وشوارع الرياض القديمة حافيا . سقط أمام بيت أبن جمعان .
كان قادما من سوق الحمام في حراج أبن قاسم كما قال رفيقه . افترقا هو ورفيقه في مدخل الحارة قبل المغرب بقليل ، ولا أحد يعرف ما الذي جرى لكي يسقط هكذا فجأة بلا مقدمات ودون علم أحد من عشاق حكايات المليونير الحافي وصاحب أول دكان في العالم يجمع بين البقالة وتأجير وبيع البيوت القديمة في مكان واحد . حملوه الى بيته فنام عدة أيام دون فائدة . بعد ذلك أحضروا الطبيب الذي فحصه وقاس ضغطه ثم حقنه بمصل وسأله بعد ذلك: بماذا تشعر الآن. وكان الطبيب يبتسم، أغمض الشيخ إبراهيم عينيه وقال بصوت له رائحة المـوت:
أشعـر كأني أريد أن أنام…..
وكانت الحارة التي فقدت روحها وناسها تدور في رأسه مثل مسرحية متعددة الشخوص والأحداث. أما شيخ المسجد فقد نزع ثياب الرجل وصب على جسده ماء الزعفران واستمر يقرأ الآيات حتى أصابه الإعياء، لان الرجل المريض لم يكترث لشيء، وكل ما فعله وهو راقد أن ألقى نظرة على وجه الشيخ وكانت نظرة اندهاش، ثم مال بوجهه عنه ونام . حتى ارتفعت رائحة الحزن والغضب في الحارة وأخذت تفوح وتكسي الجدران بأثرها الرمادي الغامض، فقال الناس أشياء كثيرة عن الحياة وغضب الله، أما الشيخ فقد خرج من بيت المريض يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم.
وهكذا ظل الرجل نائما عدة أيام ، وكان كل ما عليه أن يتقدم في العمر. أما أولئك البؤساء زوجته وأطفاله وأقاربه وأصحابه فقد أسلموا أنفسهم الى بكاء صامت، لان الشيء الذي لم يحدث من قبل، وما لم يكن محتمل الحدوث صار يجري الآن أمامهم مثيرا في أنفسهم أسئلة غامضة وحزن.
لا يعلم كيف تحركت البركة الساكنة ، كيف أنها بدأت تنثر مياهها الساخنة، لابد أن خللا كبيرا فيه وهو لا يعرف ما الذي جعله يتوقف عن مسيرته الاعتيادية هكذا عند انبطاحه طويلة ، وقبل ذلك ليقول لنفسه في ذلك المساء الحزين:
-أريد أن أنام فقط.
وهو يعلم انه أفاق للتو، وربما الذي حّركه تلك اللحظة أكبر من أن يعيده كما كان قبل الآن ، تلك الأزمنة الغابرة التي ركض فيها أبوه ، وركض هو من بعده ، ولكن لا يعرفان إلي أين .
استمر فوق فراشه يئن بحلم يقظ تملؤه رائحة الغرفة العالقة منذ زمن بالوسادة ، لم يكن يشعر بأي شيء ، وكان جسده هادئا كما لو أنه يريد أن يلبث هكذا حتى الموت ، ولم يكن أكثر من هذا الشعور المدمر بالخوف وفقدان الحياة عند انبطاحه سهلة مدت جسده ببذخ علي السرير بينما ترتفع من رأسه أصوات خافتة تئن متوازية مع أزيز غامض يدور في جوف رأسه .
تخاطبه زوجته يرد عليها: أريد أن أنام ، فتكتفي بأن تتأمل موته عندما تريد أن تعيش أحزانها وأوهامها باكية دائما ، وهي تذكر ذلك اليوم من ذلك العام القديم عندما بكى علي صدرها: اليوم اكتشفت شيئا ، انظري إلى شعر رأسي .
تذكر أيضا أنها سألته:
-ماذا جري لكم يا رجال.
-سألها: ماذا .
-قالت له: المريض والمتعب والذي لا يترك داره.
-سألها: أين ترين علينا أن نذهب .
-قالت : النساء يملان الشوارع والأسواق وأنتم..
استمر راقدا دون أن يشعر بأي شيء ، سوى حزن ذاكرة انفردت بالتعب الطويل ، وبدا له في تلك اللحظة التي رمي فيها جسده علي السرير أنه بدأ يستعيد نفسه من جديد ، بدا له العالم جديدا وأنه امتلك شيئا ثمينا شيئا طازجا وأليفا ، كان قد قرر أن يقبض عليه منذ زمن طويل دون أن يملك الجرأة ، سكنت فيه الآلام ، وعلي غير العادة امتلأ بفيض غزير من نشوة تملكته بالكامل ، يفتح عينيه بعد أيام من النوم ثم يعاود إغلاقهما وهو مستمر في سكونه بكبرياء ، يحاول أن يطامن رعبا في صدره ، تدهور يركض خلفه بيأس منذ سنين ، وكان في أحيان أخري عندما يفيق من نومة طويلة يرفع رأسه ينظر إلي من حوله كما لو أنه يريد التأكد من حقيقة وجوده ، يسعل أو.. يعود بهدوء إلي الوسادة مصحوبا بالدوار.
لابد أن خللا قد حدث فيه ، وشيء غريب أن يحدث هذا خصوصا وقد تجاوز أزمات كثيرة ، كيف تساقطت أحجاره دفعة واحدة وسقط الجدار العريض ، لابد أن شيئا أكبر مما يتصوره قد حدث ، ولعل الذي يغسله الآن ، ويجعله هامدا بهذا الشكل الحيواني المثير للشفقة أكبر من أن يعيده إلي رشده أو الي وقته الذي كان عليه ، بيته ، وأولاده وزوجته ومدرسته وقصائد شعره .
أما زوجته فقد اهتزت كل الصور في أعماقها وهي تتأمل هذا الرجل بحزن أو وهي تطرح السؤال المعتاد :
-لقد أطلت النوم ..
يرد عليها :
-أنا هنا لأنني أريد أن أنام .
ترفع صوتها :
-ولكنك تنام منذ عدة اشهر ..
لا يستطيع أن يقول شيئا ، تذهب كلماته في أعماق قصية مشلولة ، يردد دائما كلمات مرتبكة عن النوم ، كما لو انه يقول شيئا جديدا ، يتأفف. أو يسعل أو يطالع في الوجوه حوله، ثم يعود الي النوم . الشيء الوحيد الذي يعرفه أن هذه المرأة التي تدور حوله أو التي تضع وجهها قبالة وجهه ، تملك وجها له ملامح مألوفة لديه وهذا يكفي، أما أحاديثها عن مدرسته وطلابه فهو ضمن الأشياء التي تصب في خانة الإزعاج. وهكذا ظل الرجل نائما وغير مكترث وكان كل ما عليه أن يتقدم في العمر ، أما أولئك البؤساء زوجته وأطفاله وأقاربه فقد اسلموا أنفسهم الي أمواج البكاء العارمة ، لان الشيء الذي لم يحدث من قبل ، وما لم يكن محتمل الحدوث صار يجري الآن أمامهم مثيرا في أنفسهم أسئلة غامضة وحزن ، وانهيارات متلاحقة.
قبل ذلك المساء الحزين الذي قرر أن ينام فيه إلى الأبد كان قد نام عشر ساعات متواصلة، وقبل ذلك قال لامرأة ذات وجه اصفر هي زوجته : لكي ارتاح علي أن أنام ولكي أنام علي أن املأ رئتي بالهواء ، ثم انه شرب إبريقا من الشاي ونام ، وحين أفاق وضرب نظره صفحة وجه اصفر لزوجته قال لها : أنا لا أستطيع أن أنهض ، وهو يعلم كما تعلم هي انه أفاق للتو ، وهكذا تواصلت أيامه نائما أو حزينا ، أو طالبا للماء لكي يروي عطشا قديما ، تواصلت الأيام التي لا يعرف عددها وهو نائم ، وكل ما كان يعرفه أن هذه الأشياء التي يزدحم بها رأسه لم تجعله يتقدم خطوة واحدة نحو حالة أخرى اكثر أمانا ، فقد استقر في المنطقة الأكثر خطورة والأكثر عذابا لروحه، ولكنه يقترب من الرغبة الأكيدة والحادة في أن يبكي طويلا ، وكان بين الحين والآخر يدهمه هاجس أمل غامض بأنه سوف ينهض من كونه نائما ويطفئ عطشه الدهري ، سوف يغسل طعم الكبريت في فمه وصدره ويصحو من هذه الغفلة الموحشة ، ثم يقبل رأس زوجته ويذهب الى مدرسته يقرأ علي أسماع طلابه نصوصا عربية.
الرجل الذي اسلم نفسه لسلطان النوم ، بعد ليلة شهيرة شرب إبريقا كاملا من الشاي ، ذلك الرجل الأصفر الذي كان مدرسا لمادة النصوص العربية في مدرسة ثانوية ، شعر في ذلك الفجر المبكر أنه نام أكثر مما يجب ، وهو لا يعرف كم ليلة نام علي وجه التحديد، ولا يعرف أي تاريخ يلبسه هذا اليوم ، لقد شعر بنشاط لم يألفه ورغبة تدهمه بان يطير بجسده عن الأرض ، يرمي به ليطير مرة أخرى ، يعانق الأرض والسماء في احتفالية حلم ، لبس الرجل ثيابه وخرج خلسة فتراءى له المدى المعتم لا نهائي ، واجتاحه شعور مبهم بان ما حدث لم يحدث ولا يمكن أن يحدث ، خرج يردد أبيات شعر عربية انهمرت علي إيقاعاتها خطوات بطيئة تمشي في كل الاتجاهات ، واشتعل حماسه حتى رأى أطيافا تومض من البعد هناك في نهاية الشارع تحت الجدران تتلصص عليه ، مشي الي الشارع الكبير ، مرورا بشوارع فرعية صغيرة وسوداء ، ثم التفت إلى الخلف، ورأى الأطياف المبهمة تدخل في ظلام الشارع الخلفي الآخر ، توقف ليتأكد منها ، وصعق حين رأى وجوها قديمة ، بعضها لأناس أحياء وبعضها لأناس ماتوا منذ زمن أو تركوا الحارة ، وجوه كان يراها دائما في غربة سنوات طويلة من النوم واليقظة السطحية الحالمة ، مشي خطوات صغيرة في اتجاه الشارع الكبير, ثم التفت الى الشوارع الخلفية التفاته سريعة ، ثم أخيرا أطلق ساقيه لريح ما. كان في ركضه الجديد يرى ذلك الرجل الآخر الذي انطلق فجأة من غابة مظلمة في أعماق الرجل الذي كان علية قبل الآن ، ذلك الرجل الذي شعر انه يخرج من بيته بعد نومة عظيمة وباسلة ، وهو لا يزال ممددا في فراشه يتشمم رائحة الغرفة العالقة منذ الأزمنة القديمة بوسادته، ذلك الرجل الذي يركض الآن ، ويفكر بكل ما أوتى من وعي أن هذه المرأة التي ترقد متطامنة الي جواره لها وجه ملائكي مثل القمر. وكان على الناس الذين يعرفونه والذين لا يعرفونه أن يحاولوا عبثا فهم ما جرى.
كان قادما من سوق الحمام في حراج أبن قاسم كما قال رفيقه . افترقا هو ورفيقه في مدخل الحارة قبل المغرب بقليل ، ولا أحد يعرف ما الذي جرى لكي يسقط هكذا فجأة بلا مقدمات ودون علم أحد من عشاق حكايات المليونير الحافي وصاحب أول دكان في العالم يجمع بين البقالة وتأجير وبيع البيوت القديمة في مكان واحد . حملوه الى بيته فنام عدة أيام دون فائدة . بعد ذلك أحضروا الطبيب الذي فحصه وقاس ضغطه ثم حقنه بمصل وسأله بعد ذلك: بماذا تشعر الآن. وكان الطبيب يبتسم، أغمض الشيخ إبراهيم عينيه وقال بصوت له رائحة المـوت:
أشعـر كأني أريد أن أنام…..
وكانت الحارة التي فقدت روحها وناسها تدور في رأسه مثل مسرحية متعددة الشخوص والأحداث. أما شيخ المسجد فقد نزع ثياب الرجل وصب على جسده ماء الزعفران واستمر يقرأ الآيات حتى أصابه الإعياء، لان الرجل المريض لم يكترث لشيء، وكل ما فعله وهو راقد أن ألقى نظرة على وجه الشيخ وكانت نظرة اندهاش، ثم مال بوجهه عنه ونام . حتى ارتفعت رائحة الحزن والغضب في الحارة وأخذت تفوح وتكسي الجدران بأثرها الرمادي الغامض، فقال الناس أشياء كثيرة عن الحياة وغضب الله، أما الشيخ فقد خرج من بيت المريض يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم.
وهكذا ظل الرجل نائما عدة أيام ، وكان كل ما عليه أن يتقدم في العمر. أما أولئك البؤساء زوجته وأطفاله وأقاربه وأصحابه فقد أسلموا أنفسهم الى بكاء صامت، لان الشيء الذي لم يحدث من قبل، وما لم يكن محتمل الحدوث صار يجري الآن أمامهم مثيرا في أنفسهم أسئلة غامضة وحزن.
لا يعلم كيف تحركت البركة الساكنة ، كيف أنها بدأت تنثر مياهها الساخنة، لابد أن خللا كبيرا فيه وهو لا يعرف ما الذي جعله يتوقف عن مسيرته الاعتيادية هكذا عند انبطاحه طويلة ، وقبل ذلك ليقول لنفسه في ذلك المساء الحزين:
-أريد أن أنام فقط.
وهو يعلم انه أفاق للتو، وربما الذي حّركه تلك اللحظة أكبر من أن يعيده كما كان قبل الآن ، تلك الأزمنة الغابرة التي ركض فيها أبوه ، وركض هو من بعده ، ولكن لا يعرفان إلي أين .
استمر فوق فراشه يئن بحلم يقظ تملؤه رائحة الغرفة العالقة منذ زمن بالوسادة ، لم يكن يشعر بأي شيء ، وكان جسده هادئا كما لو أنه يريد أن يلبث هكذا حتى الموت ، ولم يكن أكثر من هذا الشعور المدمر بالخوف وفقدان الحياة عند انبطاحه سهلة مدت جسده ببذخ علي السرير بينما ترتفع من رأسه أصوات خافتة تئن متوازية مع أزيز غامض يدور في جوف رأسه .
تخاطبه زوجته يرد عليها: أريد أن أنام ، فتكتفي بأن تتأمل موته عندما تريد أن تعيش أحزانها وأوهامها باكية دائما ، وهي تذكر ذلك اليوم من ذلك العام القديم عندما بكى علي صدرها: اليوم اكتشفت شيئا ، انظري إلى شعر رأسي .
تذكر أيضا أنها سألته:
-ماذا جري لكم يا رجال.
-سألها: ماذا .
-قالت له: المريض والمتعب والذي لا يترك داره.
-سألها: أين ترين علينا أن نذهب .
-قالت : النساء يملان الشوارع والأسواق وأنتم..
استمر راقدا دون أن يشعر بأي شيء ، سوى حزن ذاكرة انفردت بالتعب الطويل ، وبدا له في تلك اللحظة التي رمي فيها جسده علي السرير أنه بدأ يستعيد نفسه من جديد ، بدا له العالم جديدا وأنه امتلك شيئا ثمينا شيئا طازجا وأليفا ، كان قد قرر أن يقبض عليه منذ زمن طويل دون أن يملك الجرأة ، سكنت فيه الآلام ، وعلي غير العادة امتلأ بفيض غزير من نشوة تملكته بالكامل ، يفتح عينيه بعد أيام من النوم ثم يعاود إغلاقهما وهو مستمر في سكونه بكبرياء ، يحاول أن يطامن رعبا في صدره ، تدهور يركض خلفه بيأس منذ سنين ، وكان في أحيان أخري عندما يفيق من نومة طويلة يرفع رأسه ينظر إلي من حوله كما لو أنه يريد التأكد من حقيقة وجوده ، يسعل أو.. يعود بهدوء إلي الوسادة مصحوبا بالدوار.
لابد أن خللا قد حدث فيه ، وشيء غريب أن يحدث هذا خصوصا وقد تجاوز أزمات كثيرة ، كيف تساقطت أحجاره دفعة واحدة وسقط الجدار العريض ، لابد أن شيئا أكبر مما يتصوره قد حدث ، ولعل الذي يغسله الآن ، ويجعله هامدا بهذا الشكل الحيواني المثير للشفقة أكبر من أن يعيده إلي رشده أو الي وقته الذي كان عليه ، بيته ، وأولاده وزوجته ومدرسته وقصائد شعره .
أما زوجته فقد اهتزت كل الصور في أعماقها وهي تتأمل هذا الرجل بحزن أو وهي تطرح السؤال المعتاد :
-لقد أطلت النوم ..
يرد عليها :
-أنا هنا لأنني أريد أن أنام .
ترفع صوتها :
-ولكنك تنام منذ عدة اشهر ..
لا يستطيع أن يقول شيئا ، تذهب كلماته في أعماق قصية مشلولة ، يردد دائما كلمات مرتبكة عن النوم ، كما لو انه يقول شيئا جديدا ، يتأفف. أو يسعل أو يطالع في الوجوه حوله، ثم يعود الي النوم . الشيء الوحيد الذي يعرفه أن هذه المرأة التي تدور حوله أو التي تضع وجهها قبالة وجهه ، تملك وجها له ملامح مألوفة لديه وهذا يكفي، أما أحاديثها عن مدرسته وطلابه فهو ضمن الأشياء التي تصب في خانة الإزعاج. وهكذا ظل الرجل نائما وغير مكترث وكان كل ما عليه أن يتقدم في العمر ، أما أولئك البؤساء زوجته وأطفاله وأقاربه فقد اسلموا أنفسهم الي أمواج البكاء العارمة ، لان الشيء الذي لم يحدث من قبل ، وما لم يكن محتمل الحدوث صار يجري الآن أمامهم مثيرا في أنفسهم أسئلة غامضة وحزن ، وانهيارات متلاحقة.
قبل ذلك المساء الحزين الذي قرر أن ينام فيه إلى الأبد كان قد نام عشر ساعات متواصلة، وقبل ذلك قال لامرأة ذات وجه اصفر هي زوجته : لكي ارتاح علي أن أنام ولكي أنام علي أن املأ رئتي بالهواء ، ثم انه شرب إبريقا من الشاي ونام ، وحين أفاق وضرب نظره صفحة وجه اصفر لزوجته قال لها : أنا لا أستطيع أن أنهض ، وهو يعلم كما تعلم هي انه أفاق للتو ، وهكذا تواصلت أيامه نائما أو حزينا ، أو طالبا للماء لكي يروي عطشا قديما ، تواصلت الأيام التي لا يعرف عددها وهو نائم ، وكل ما كان يعرفه أن هذه الأشياء التي يزدحم بها رأسه لم تجعله يتقدم خطوة واحدة نحو حالة أخرى اكثر أمانا ، فقد استقر في المنطقة الأكثر خطورة والأكثر عذابا لروحه، ولكنه يقترب من الرغبة الأكيدة والحادة في أن يبكي طويلا ، وكان بين الحين والآخر يدهمه هاجس أمل غامض بأنه سوف ينهض من كونه نائما ويطفئ عطشه الدهري ، سوف يغسل طعم الكبريت في فمه وصدره ويصحو من هذه الغفلة الموحشة ، ثم يقبل رأس زوجته ويذهب الى مدرسته يقرأ علي أسماع طلابه نصوصا عربية.
الرجل الذي اسلم نفسه لسلطان النوم ، بعد ليلة شهيرة شرب إبريقا كاملا من الشاي ، ذلك الرجل الأصفر الذي كان مدرسا لمادة النصوص العربية في مدرسة ثانوية ، شعر في ذلك الفجر المبكر أنه نام أكثر مما يجب ، وهو لا يعرف كم ليلة نام علي وجه التحديد، ولا يعرف أي تاريخ يلبسه هذا اليوم ، لقد شعر بنشاط لم يألفه ورغبة تدهمه بان يطير بجسده عن الأرض ، يرمي به ليطير مرة أخرى ، يعانق الأرض والسماء في احتفالية حلم ، لبس الرجل ثيابه وخرج خلسة فتراءى له المدى المعتم لا نهائي ، واجتاحه شعور مبهم بان ما حدث لم يحدث ولا يمكن أن يحدث ، خرج يردد أبيات شعر عربية انهمرت علي إيقاعاتها خطوات بطيئة تمشي في كل الاتجاهات ، واشتعل حماسه حتى رأى أطيافا تومض من البعد هناك في نهاية الشارع تحت الجدران تتلصص عليه ، مشي الي الشارع الكبير ، مرورا بشوارع فرعية صغيرة وسوداء ، ثم التفت إلى الخلف، ورأى الأطياف المبهمة تدخل في ظلام الشارع الخلفي الآخر ، توقف ليتأكد منها ، وصعق حين رأى وجوها قديمة ، بعضها لأناس أحياء وبعضها لأناس ماتوا منذ زمن أو تركوا الحارة ، وجوه كان يراها دائما في غربة سنوات طويلة من النوم واليقظة السطحية الحالمة ، مشي خطوات صغيرة في اتجاه الشارع الكبير, ثم التفت الى الشوارع الخلفية التفاته سريعة ، ثم أخيرا أطلق ساقيه لريح ما. كان في ركضه الجديد يرى ذلك الرجل الآخر الذي انطلق فجأة من غابة مظلمة في أعماق الرجل الذي كان علية قبل الآن ، ذلك الرجل الذي شعر انه يخرج من بيته بعد نومة عظيمة وباسلة ، وهو لا يزال ممددا في فراشه يتشمم رائحة الغرفة العالقة منذ الأزمنة القديمة بوسادته، ذلك الرجل الذي يركض الآن ، ويفكر بكل ما أوتى من وعي أن هذه المرأة التي ترقد متطامنة الي جواره لها وجه ملائكي مثل القمر. وكان على الناس الذين يعرفونه والذين لا يعرفونه أن يحاولوا عبثا فهم ما جرى.