عندما دخلت الشقة الصغيرة التي سوف تكون بيتي الجديد شعرت بغربة عميقة ثم حزن ثم رغبة في البكاء أو الهرب . عمارة زجاجية أغلب شققها مكاتب تجارية تفوح منها رائحة الأرقام والحسابات، والناس هنا وجوههم رسمية ولا يحدث بعضهم بعضا.
كان العمال يفرشون أرضية الشقة ويدخلون الأثاث، ولا أدري لماذا شعرت في تلك اللحظة برغبة في الهرب، الهرب من الشقة ومن العمال ومن صاحب العمارة التعيسة. أترك أثاثي وأشيائي والإيجار المدفوع وأهرب إلى أي مكان.
مكثت مع العمال وقتاً أحاور أسئلة كثيرة وهموماً منوعة وروحاً مجروحة، ولكن في لحظة من تلك اللحظات النادرة تركت كل هذا العالم الغريب وخرجت. خرجت لا أعرف إلى أين، وكنت أهجس أن مصيري هو العودة إلى هذه الشقة الملعونة التي تورطت بها. درت في الشوارع، دخلت محلات متجاورة، طالعت مجلات وجرائد كثيرة، وكنت أتساءل: أي جريمة اقترفتها حتى أقع في هذه الحفرة المريبة. كانت الشوارع تبدو أكثر أتساعا وأكثر حميمية والناس تشي وجوههم بالبهجة والرضا، كنت أحسدهم جميعاً على راحة بالهم التي لا يراها إلا أنا. ثم عدت أخيراً.
لا أدري لماذا هربت ولا أدري لماذا عدت، كان كل شيء مرتباً في الشقة الصغيرة المكتومة الأنفاس، أغلقت الباب وأعدت بعض الأشياء إلى أماكنها، دخلت المطبخ ، شربت كأس ماء بارد من الثلاجة البنية الصغيرة ، ثم استلقيت على ظهري في الغرفة وأنا أفكر في إيجار ستة أشهر دفعته بالكامل وجعلني حبيساً في مكان لا أكن له أي نوع من أنواع المودة. فهل عليَّ أن أكمل هذه الأشهر من أجل أنني دفعت قيمتها؟ أم أنني بحاجة فعلا إلى الهرب؟ هل سوف أستطيع التكيف مع هذا المكان الغريب المكتئب. لا أعرف.
وفي لحظة مترددة نزلت إلى مكتب العمارة، وجدت ناساً يتحدثون مع بعضهم وآخرون يضربون بأصابعهم على آلات كاتبة ونزلاء جدد يوقعون عقوداً، حتى تنبه لي أحدهم، وعرفت حين اقترب مني أنه الرجل الذي أخذ قيمة الإيجار مقابل ورقة صغيرة لا أعرف أين هي .
تلعثمت أمامه بادي الأمر. ثم سألته:
-هل مدة الإيجار ستة أشهر .
-لا، عام كامل. ولكنك دفعت نصف الإيجار فقط.
في هذه اللحظة كنت أود له البوح بالرغبة في التراجع عن العقد، ولكن لا أعرف لماذا شكرته وخرجت، ولا أعرف على ماذا شكرته أيضا. وهكذا، ثمانية عشر شهرًا قضيتها في صندوق أسود بدت لي مثل كابوس طويل، كان عليَّ بفعل قوى أجهلها أن أعيشه من أجل تنفيذ حكم لا أعرف ذنبي فيه.
وقبل نهاية المدة بدأت الطائرات تهز سكون هذه الشقة المعتمة. طائرات ضخمة تهز بصوتها كل العمارات المجاورة. كانت تسير في خط واحد وثابت فوق العمارة. كل ثلاث دقائق طائرة لا أراها، ولعدة أيام متواصلة. حتى عرفت أن العراق بقضه وقضيضه دخل الكويت، فهربت من طريق الطائرات إلى طريق آخر أحاول فهم معالمه الأولى.
أفقت من غيبوبة تلك الشقة، وذلك العمر الصغير ودخلت عالمًا آخر. لهذا بدأت أفكر في حفظ الذكريات والحكايات المتناسلة .أضعها في حوض ماء، كما يفعل المصورون بصورهم قبل ظهورها، أفكر بترويض الأيام وأرسم تحت كل يوم لونه واسمه وطول قامته. ربما في يوم من هذه الأيام أكون أكثر مرحاً وجمالاً فأروي حكاياتي لشهرزاد قبل أن تنام.
كان العمال يفرشون أرضية الشقة ويدخلون الأثاث، ولا أدري لماذا شعرت في تلك اللحظة برغبة في الهرب، الهرب من الشقة ومن العمال ومن صاحب العمارة التعيسة. أترك أثاثي وأشيائي والإيجار المدفوع وأهرب إلى أي مكان.
مكثت مع العمال وقتاً أحاور أسئلة كثيرة وهموماً منوعة وروحاً مجروحة، ولكن في لحظة من تلك اللحظات النادرة تركت كل هذا العالم الغريب وخرجت. خرجت لا أعرف إلى أين، وكنت أهجس أن مصيري هو العودة إلى هذه الشقة الملعونة التي تورطت بها. درت في الشوارع، دخلت محلات متجاورة، طالعت مجلات وجرائد كثيرة، وكنت أتساءل: أي جريمة اقترفتها حتى أقع في هذه الحفرة المريبة. كانت الشوارع تبدو أكثر أتساعا وأكثر حميمية والناس تشي وجوههم بالبهجة والرضا، كنت أحسدهم جميعاً على راحة بالهم التي لا يراها إلا أنا. ثم عدت أخيراً.
لا أدري لماذا هربت ولا أدري لماذا عدت، كان كل شيء مرتباً في الشقة الصغيرة المكتومة الأنفاس، أغلقت الباب وأعدت بعض الأشياء إلى أماكنها، دخلت المطبخ ، شربت كأس ماء بارد من الثلاجة البنية الصغيرة ، ثم استلقيت على ظهري في الغرفة وأنا أفكر في إيجار ستة أشهر دفعته بالكامل وجعلني حبيساً في مكان لا أكن له أي نوع من أنواع المودة. فهل عليَّ أن أكمل هذه الأشهر من أجل أنني دفعت قيمتها؟ أم أنني بحاجة فعلا إلى الهرب؟ هل سوف أستطيع التكيف مع هذا المكان الغريب المكتئب. لا أعرف.
وفي لحظة مترددة نزلت إلى مكتب العمارة، وجدت ناساً يتحدثون مع بعضهم وآخرون يضربون بأصابعهم على آلات كاتبة ونزلاء جدد يوقعون عقوداً، حتى تنبه لي أحدهم، وعرفت حين اقترب مني أنه الرجل الذي أخذ قيمة الإيجار مقابل ورقة صغيرة لا أعرف أين هي .
تلعثمت أمامه بادي الأمر. ثم سألته:
-هل مدة الإيجار ستة أشهر .
-لا، عام كامل. ولكنك دفعت نصف الإيجار فقط.
في هذه اللحظة كنت أود له البوح بالرغبة في التراجع عن العقد، ولكن لا أعرف لماذا شكرته وخرجت، ولا أعرف على ماذا شكرته أيضا. وهكذا، ثمانية عشر شهرًا قضيتها في صندوق أسود بدت لي مثل كابوس طويل، كان عليَّ بفعل قوى أجهلها أن أعيشه من أجل تنفيذ حكم لا أعرف ذنبي فيه.
وقبل نهاية المدة بدأت الطائرات تهز سكون هذه الشقة المعتمة. طائرات ضخمة تهز بصوتها كل العمارات المجاورة. كانت تسير في خط واحد وثابت فوق العمارة. كل ثلاث دقائق طائرة لا أراها، ولعدة أيام متواصلة. حتى عرفت أن العراق بقضه وقضيضه دخل الكويت، فهربت من طريق الطائرات إلى طريق آخر أحاول فهم معالمه الأولى.
أفقت من غيبوبة تلك الشقة، وذلك العمر الصغير ودخلت عالمًا آخر. لهذا بدأت أفكر في حفظ الذكريات والحكايات المتناسلة .أضعها في حوض ماء، كما يفعل المصورون بصورهم قبل ظهورها، أفكر بترويض الأيام وأرسم تحت كل يوم لونه واسمه وطول قامته. ربما في يوم من هذه الأيام أكون أكثر مرحاً وجمالاً فأروي حكاياتي لشهرزاد قبل أن تنام.