الحر لا يطاق! الكهرباء منقطعة منذ ساعات، والهواء فاسد وراكد، قد أصابه الكثير من الخمول الذي أصاب كل أهل هذه المدينة المتعبة. “ما الغداء اليوم؟” سمعت سؤال أخي وهو يقرب رأسه من المطبخ الذي تحول إلى حمام تركي لطالما سمعت عنه من الفتيات الباحثات عن عريس المستقبل! توجهت صامتة نحو الفرن وأنا أغالب خفقان قلبي، فقد داهمني الوقت مبكرًا اليوم. أو لأكون أكثر دقة، تأخرت في الاستيقاظ ومازال هذا الصداع يشج رأسي كمطرقة.
أمسكت بالكبريت ويدي ترتجف، وحاولت إشعال عين الغاز. لا شيء! حاولت مرة أخرى، فأدركت بأن الإناء الذي حشدت فيه معظم المكونات لن يتجسد كطعام صالح للاستخدام البشري كما تخيلت. سمعت أخي وقد احتدت نبرة صوته: “لم تطبخي الغداء حتى الآن؟! فتاة لا فائدة منها!”.
لا غاز!
عن أي غاز تتحدثين؟! ألم أقل لكِ بأن الاسطوانة قد أصبحت بثمانية آلاف ريـال!
حسنًا، وماذا أفعل الآن؟!
اطبخي بالحطب! دبري نفسكِ!
أطبخ بالحطب؟! هل عدنا إلى القرية حتى أطبخ بالحطب والفحم؟! تصبب العرق من جبهتي، فشعرت بالقرف من نفسي. متى تمضي الساعات حتى أتخلص من هذا المنزل ولو لساعة؟ سمعت أخي يقول بعدها وهو يبتعد عن المطبخ: “فتاة غبية!”. استشطت غضبًا، فتعليقاته زادت من ضيق هذا الهجير، ولكنني أعلم بأن قسوته ستتلاشى مساءً حين يشعر بالذنب على كل ما قاله لي. هذه عادته كل يوم!
منذ أن توفيت والدتي قبل عامين، أصبحت أمًا مصغرة لهذا المنزل الذي لم أعد أطيقه! أعود من الجامعة لأطهو الطعام، ثم أنظفه شبرًا فشبرًا. أتأكد بأن جميع إخوتي بخير، وبأن أبي وأخي قد أحبا ما قمت بطبخه اليوم. أمر مضحك لأنهم لا يتلذذون بما آكله، يأكلون كالمفاجيع فحسب، فأشعر بأني أتفنن لهم عبثًا. سيأكلون كل شيء على نفس الوتيرة وسيعلقون بنفس التعليقات، فعلامَ كل هذا التعب؟!
أكملت عملي بسرعة، وتجاهلت كل شيء. كانت رائحتي مقرفة للغاية، ولكن غسلة باردة تامة تخلصت من آثار هذا اليوم الأسود. عطلة قالوا عنه! حشدت هاتفي النقال -الذي كان ينازع-والكتاب الذي ينام على فراشي كل ليلة من هذا الأسبوع في حقيبتي الصغيرة، ثم ذهبت إلى البقعة الوحيدة التي تحتويني في هذا الكون: شاطئ كود النمر، حيث تلتقي السماء بالماء، بالبحر الذي يرمي نحونا نسمات ترحمنا من انطفاء الكهرباء المتكرر. هناك يصبح الهواء الراكد متحركًا من جديد، فأغفر لهذه المدينة أساها وأنينها، وأبكي مع كل موجة تأتي نحوي لتثبت جبروتها وحضورها رغم كل هذا الوجع. أراقب الجبال المتفرقة البعيدة وأتمنى لو أني استطعت السباحة إليها هربًا من هذا العالم، فأصطدم باستحالة أمنيتي جسديًا.
أخرجت الكتاب الذي كنت أقرأه وشغلت الموسيقى على هاتفي شبه الميت، ثم غرقت في عالمي. كانت الرواية تتحدث عن جزيرة في اليونان. عن بساطة هذه الجزيرة، عن تواضع كل شيء فيها، عن العفوية والجنون اللذان جعلاني أستغرب بأن اليونانيين يمتون لأوروبا بأية صلة! هل تتحدث هذه البطلة عن اليونان أم عن عدن؟! كنت ألتهم الأوراق التهامًا، وأشعر بصدري يثقل أكثر فأكثر. هل هذه البطلة معتوهة لتترك حياتها في أمريكا وتعود إلى جزيرتها النائية؟! كيف تعود إلى واقع تعيس كهذا؟! كان دمي يغلي بالغضب، وأنفاسي تتسارع في إيقاعها غير المنتظم. لم تهدأ الثورة في جسدي إلا حين سمعت من هاتفي قبل أن ينطفئ برفق: “أنا برتاح لا شفت شمسان”.
أمسكت بالكبريت ويدي ترتجف، وحاولت إشعال عين الغاز. لا شيء! حاولت مرة أخرى، فأدركت بأن الإناء الذي حشدت فيه معظم المكونات لن يتجسد كطعام صالح للاستخدام البشري كما تخيلت. سمعت أخي وقد احتدت نبرة صوته: “لم تطبخي الغداء حتى الآن؟! فتاة لا فائدة منها!”.
لا غاز!
عن أي غاز تتحدثين؟! ألم أقل لكِ بأن الاسطوانة قد أصبحت بثمانية آلاف ريـال!
حسنًا، وماذا أفعل الآن؟!
اطبخي بالحطب! دبري نفسكِ!
أطبخ بالحطب؟! هل عدنا إلى القرية حتى أطبخ بالحطب والفحم؟! تصبب العرق من جبهتي، فشعرت بالقرف من نفسي. متى تمضي الساعات حتى أتخلص من هذا المنزل ولو لساعة؟ سمعت أخي يقول بعدها وهو يبتعد عن المطبخ: “فتاة غبية!”. استشطت غضبًا، فتعليقاته زادت من ضيق هذا الهجير، ولكنني أعلم بأن قسوته ستتلاشى مساءً حين يشعر بالذنب على كل ما قاله لي. هذه عادته كل يوم!
منذ أن توفيت والدتي قبل عامين، أصبحت أمًا مصغرة لهذا المنزل الذي لم أعد أطيقه! أعود من الجامعة لأطهو الطعام، ثم أنظفه شبرًا فشبرًا. أتأكد بأن جميع إخوتي بخير، وبأن أبي وأخي قد أحبا ما قمت بطبخه اليوم. أمر مضحك لأنهم لا يتلذذون بما آكله، يأكلون كالمفاجيع فحسب، فأشعر بأني أتفنن لهم عبثًا. سيأكلون كل شيء على نفس الوتيرة وسيعلقون بنفس التعليقات، فعلامَ كل هذا التعب؟!
أكملت عملي بسرعة، وتجاهلت كل شيء. كانت رائحتي مقرفة للغاية، ولكن غسلة باردة تامة تخلصت من آثار هذا اليوم الأسود. عطلة قالوا عنه! حشدت هاتفي النقال -الذي كان ينازع-والكتاب الذي ينام على فراشي كل ليلة من هذا الأسبوع في حقيبتي الصغيرة، ثم ذهبت إلى البقعة الوحيدة التي تحتويني في هذا الكون: شاطئ كود النمر، حيث تلتقي السماء بالماء، بالبحر الذي يرمي نحونا نسمات ترحمنا من انطفاء الكهرباء المتكرر. هناك يصبح الهواء الراكد متحركًا من جديد، فأغفر لهذه المدينة أساها وأنينها، وأبكي مع كل موجة تأتي نحوي لتثبت جبروتها وحضورها رغم كل هذا الوجع. أراقب الجبال المتفرقة البعيدة وأتمنى لو أني استطعت السباحة إليها هربًا من هذا العالم، فأصطدم باستحالة أمنيتي جسديًا.
أخرجت الكتاب الذي كنت أقرأه وشغلت الموسيقى على هاتفي شبه الميت، ثم غرقت في عالمي. كانت الرواية تتحدث عن جزيرة في اليونان. عن بساطة هذه الجزيرة، عن تواضع كل شيء فيها، عن العفوية والجنون اللذان جعلاني أستغرب بأن اليونانيين يمتون لأوروبا بأية صلة! هل تتحدث هذه البطلة عن اليونان أم عن عدن؟! كنت ألتهم الأوراق التهامًا، وأشعر بصدري يثقل أكثر فأكثر. هل هذه البطلة معتوهة لتترك حياتها في أمريكا وتعود إلى جزيرتها النائية؟! كيف تعود إلى واقع تعيس كهذا؟! كان دمي يغلي بالغضب، وأنفاسي تتسارع في إيقاعها غير المنتظم. لم تهدأ الثورة في جسدي إلا حين سمعت من هاتفي قبل أن ينطفئ برفق: “أنا برتاح لا شفت شمسان”.
