د. رنه يحيى - الشعرية مبنى ومعنى ورؤى في نصوص جبار الكواز

القراءة:
يقول الشاعر اللبناني "مارون أبو شقرا": القصيدة توأم الذات ومرآتها وأفقها وملعبها ولسان حالها الناطق باسمها.هي الخمرة الغير منفصلة عن عنقود الدالية. ومن هنا نبدأ السؤال.
فمن هو الشاعر جبار الكواز من خلال نصوصه؟
سندباد جاب بلاد الأدب حاملاً عصارة سنين من الإبداع والتجاوز والحداثة. يدرك حدوده وينسج من قصائده نسجاً حداثوياً.هو شاعر غير مرغم على الهروب، بل يقف في صف المواجهة الأول. لا يمنعه شيء من إطلاق أفكاره وآماله والتعبير عن هواجسه رغم قائمة الممنوعات التي يعبر عنها في كتاباته (ممنوع من رمي القمامة –ممنوع العبور-ممنوع الحب-ممنوع القراءة-ممنوع التدخين-ممنوع الكلام( اغتال الملائكة الكاتبون ولم تصدر حكومة ولي العهد شهادة وفاء لآخر القراء). فهو سعيد بقفصه يمشي على مخاوفه ، مغترب ووحيد في وطنه ،لا يعرف الضفاف. تعبره الغيوم ، فلا يرضع من ثدييها. وتمر به الأنهار ولا يستقي من فراتها. هو المتمرد العاصي المسروق كهواء ، والمشروب كماء، والمحروق كتراب.إنه التائه المنكسر، الأبكم ،الأصم، الأعمى، المشلول الذي يبحث عن مخلص يأخذ بيده للوقوف على قدميه مجدداً في وجه الحزن والخذلان والألم. جبار الكواز المتفائل بتقمصه صورة الشجرة سيصير غابة نكاية بالحطابين .
لا ورقة تختص بوهم فراغه، إذ يعلن أنه الغريق بمحبوبته (هذا أنا غريق بك لا عشبة أمسك بها لأحاور الماء ) ،والمجنون بها حد التخمة. الحي الزائل قبل اندثار أسوار بابل واحتراق بغداد. الخائف من الغد (مازلت أخشى الغد المجهول الواقف في الطرف الآخر من المتوسط). هوالشاعر المجنون الذي ينحت من خطواته سبيل خلاص سائلاً عمن يسمع طرقات قلبه معلناً( سأرسم نهراً وأتعرى لأخوض وأصاحب سمكات عذراوات). هذا الغريق هو نفسه الظمآن في العشق، يسأل حاملات الجرار من سيسقيه الليل ليشرق عاشقاً خالياً من خطاياه ،ويسأل أين حروفه فاللعبة زائفة حين نركب المعنى.
ومن هي حبيبة الشاعر ونصفه الآخر التي أفصح عنها في قصائده؟
تلبس نصوص الشاعر ثوباً وجدانياً صادقاً لغة وإحساساً. إذ يعبر عن حب مختلط بالانتظار وبالألم وبالحزن وبالعتب.وحبيبته ككل الحبيبات لا تكبر، تلتحف السكون بالدموع .غريبة هي وهو القريب منها بغربته. هي حارقة حواسه ولاغية قواميسه وخلاصة صبره وملهمة أشعاره (نامي مطمئنة لا أحد سواك في مصيدة النصوص). حبيبة جبارة تغزو قلبه وعقله وأوراقه (جبارة تغزين سماواتي بأصابع من لوز وترثين الأرض كزلزال). بالمقابل هي اليتيمة والمخذولة كوصايا لقمان. والحبيبة في نصوص الشاعر هي العراق وهي الأم وهي المعشوقة وهي الحرف. فهي ليست بالعاهرة الأولى ولا بالقديسة لكنها شظية منزوعة من صفحات كتاب مقدس . فكيف لهذه العاقلة بأن تعلم الشاعر المجنون الجنون ( رأيتك في السماوات العلى آلهة من عسجد وعسل ويمام)؟
وما الوطن الذي ينتمي إليه الشاعر المختلف؟
الوطن حزين في حروف الشاعر. وطيف العراق يحوم في قصائده . العراق الذي يعجز القلم والمداد عن وصفه والحديث عن جماله الذي بتر أطرافه الإنكشاريون ليلة تاسوعاء الطف، وأحرق أنهار بلاده ملثمون رتلوا سورة الروم ،ليغرسوا الشوك على ضفافه. فنراه بمداده يأخذنا إلى مدن جغرافية إنسانية .فمدينة الشاعر ثكلى تتشح بالسواد رغم اتقانها صنع البياض ، فلم يبق من أعشابها غير احتراقات. وهو ما زال يرسم فجرها ويصوغ من قلبه لمشرقها دماً رغم أنها باتت ساحة حرب (مدننا سرقها الرجال الجوف من بين أيدينا). فالحروب حية في نصوصه ولا سبيل لإيقافها إلا بالحرب الداخلية حرب الذات مع التبعية والرضوخ .ويعرفنا على العراق بأربعة حروف لا يعرفها الورق الأبيض ولا القلم ولا المداد ( تغني كدلو في بئر أيتام). العراق الذي هام فيه عرس الدم ،هو الذبيح الأبيض المسور بأكفان الشهداء، المبلل بدموع الأمهات وصرخات اليتامى وجوعهم(بستان قريش ما زالت تصرخ بالسبايا وتلهث باليتم). حتى ليلى في العراق مريضة (هذه البلاد التي نهبها صيادي الغفالة فبات الموت فيها رأسمال الدروب).
وكيف يعرف المفاهيم والقيم والزمن والإنسان والوجود والعدم ؟
فإذا بدأنا بالصداقة، فهو يناجي صديقه (أين تمضي جاءك الصلب).ويخبرنا بأن خلانه ادخروا من كبتهم رئة للبيوت. والصديق الذي شاطره صفحة الرؤيا سرق منه دليل التراب . فالشاعر لا يصاحب أصدقاء أنجلو الصائمين في المتاحف، ولا يبحث عن أذن فان كوخ المستنسخة رسائله بسرية مراهقة ،ولن يزرع في أذن بيتهوفن إحدى غيماته، ولن يهاتف دافنشي ليهجر موناليزا في معركته نكاية بالعقل. بل سيحصن صداقته لجواد سليم وعلي الشرقي وجان دمو.أما العاشق فهو يئن في نصوصه ويقنص قنابل الدخان بقصائده وأغانيه(آخر العشاق أبى أن يرسم جسراً جديداً لعيني حبيبته ).وآخر العقلاء يشاهد حرائق روحه بيتاً لقابيل وهابيل . فهو لم يزر يوماً أور وسومر وبابل وآكد ولم يتسامر مع آشور. في المقابل فالخيانات طريق أبكم يفضى إلى نشور زائف.
ويعرف الشاعرالوقت بأنه جغرافيا وأيامنا رماد وظنون لا يطفئها نور ولا تنيرها ظلمة .فهي دوما ًتعاندنا (تمسك ظلال خيباتنا) . كذلك فالأيام القادمات ماعادت أياماً بل حجارة من سجيل ،والغد عمره قصير نراه واقفاً في انتظارنا ، فيناديه الشاعر(ابق واقفاً حتى تهرم ابتسامتك)، فالتأجيل وثاق الأيام. وللموت مساحة كبيرة في رؤى جبار الكواز .فهو رأسمال الدروب. والحرب فائض قيمة السكارى البكائين عند باب عشتار، والشهداء الذين جاءوا من المحاق لم يعرفوا من يقتلهم أمس ليجددوا قاماتهم بملامح النخيل.
وما نصيب الطبيعة في كنز الكواز؟
يرسم الشاعر صوراً حسية من الطبيعة الحية والجامدة. فنراه يتقمص في شجرة ويخاطب البشر على لسانها وكأنه يكلم ذاته المخضرة دوماً، وينسب لها صفاتها وأحوالها . فهو لا يخشى أحد كما الشجرة لا تخشى الريح . وهو يكلم الفصول فيحضر بشعره وبفكره وبروحه حضور الشجرة في دورة الحياة . إذ يقول بلسان الشجرة( أنا لست شجرة لكنني سأصير غابة ) دلالة على الإصرار والتحدي والأمل في غد أفضل. ويسمع غابات العرجاء تغني(أنا تفاحة أنا الإنسان –أنا القصائد نسيني المحرر في كيس قمامة ).
ومن المضمون والمعنى والرؤى نغوص في عمق اللغة والشكل والمبنى والأسلوب. فبدءاً من العناوين التي اختارها بإتقان، نشهد رؤى وأفكاراً جوهرية تساعدنا للولوج إلى مكنونات النصوص . فينشأ في العناوين توتراً داخلياً يشكل إيقاعاً مميزاً يشدنا نحو سبر أكبر للأغوار.وفي كتاباته عامة نلمس لغة بلورية تمثل أفق الشاعر ووعياً جمالياً وإبداعياً . فيبهرنا توظيف جميل للخيال بإبداع صورعميقة ومدهشة عمق تطلعاته، تحمل أبعاداً دلالية ورمزية ووجودية متعددة تشير إلى وحدة الموضوع وتعدد مراياه وروافده، فمن خلالها يرسل دفقاً ينفذ سريعاً إلى عقل المتلقي ووجدانه. شاعر يعرف كيف يوظف اللغة ،فيعكس جمالاً في التشكيل مولداً صوراً شعرية وصوراً تجريدية فنية رائعة. فلغة جبار الكواز لغة معيارية وإيحائية تحمل ثنائيات تتآلف وتختلف. هو يشكل نصوصه بحروف تجمع في أعماقها سحر المجاز، وبمعجم مخضب الحزن مكرر المعاني لغاية التوكيد . بشكل عام ، نشهد إتقاناً في التراكيب والحروف ، وجملاً توزعت بين الخبر والإنشاء وعبارات بعيدة المرامي تثبت حرفية في اختيار المعاني. فيبني الشاعر قصوره بتشظي المفردات ، تشظياً نفسياً وفكرياً.فينقل المفردات من المستوى اللفظي إلى المستوى الدلالي بمهارة.
ومن ناحية الأساليب ، فثمة طرق انزياحية مبهجة وتمظهرات أسلوبية كلوحة الأزهار الربيعية. فوردت أساليب التضاد والنداء مما يشير إلى تناغم إيقاعي أحدثته التوازيات النحوية ، وأسلوبية النافية والناهية لتوكيد الفكرة، وأسلوبية التساؤل والسؤال التي لا تكاد تخلو قصيدة منها( من سيرمم ما ضاع منا في آبار الرؤيا وفي مكائد الأيام ؟ألغد ؟أم اليوم؟ أم الأمس؟ ما الفقد؟ ما الهجر؟ ما من قلم يكتب تاريخنا إلا بنقيع تمر ودم؟ ). إضافة إلى أسلوب الرمزية والتي هي بوصلة الشاعر. وللزمن رمز مختلف في نصوص الشاعر ناهيك عن ترميز بديع خيالي على امتداد النصوص. كما هناك حضور قوي لأسلوب الوصف . فتنعكس تصاعدية في الوصف في أكثر من زاوية في النص الواحد .فالشاعر يصف جمال بلاده بصور نثرية متناسقة مزينة بأزهار اللغة الحية.
وإذا ما عدنا إلى قول الشاعر والناقد "عبدالله السمطي": أن الشعر هو فاكهة الحدث. نجد ذلك جلياً في نصوص الشاعر. فمجمل نصوصه تحتضن المسار التاريخي والإجتماعي، وتعكس خلفية ثقافية مكتنزة بالأحداث التاريخية والتراث والفلسفات.فالشاعرمهموم بمؤثرية سرديات الزمن في الإنسان والمكان والأشياء ووحدتها وصراعها. فهي تزخر بالإشارات إلى: أرض الرافدين والحضارات الكبيرة وعصره والملاحم والتراث الإسلامي . إضافة إلى ورود أوجه للتناص مع الكتب السماوية زاخرة بالمفاهيم والقيم. وللصوفية أيضاً مكانها القيم في كتابات الشاعر.فله نظرة إلى الخلق الأول، فالضحكة الأولى بين آدم وحواء كانت أول سيماء الزنا. كما أنه يناجي الله أن يسيج داره بمداد من ضياء ويزرع معناه في الأرض كي يمسك بأقدامه الزوال. وإلى جانب ذلك تتجلى الأسطورة في أبهى صورها كمكون ثقافي أصيل استخدمه لخدمة طموحاته. ولا يمكننا إغفال ارتباط المشاعر بالفلسفة عنده . فالشاعر معلقاً بحبال أفكاره، ونرى ذلك من خلال تزاوج مبهر بين الشعور والرؤيا والواقع. وفلسفته يجسدها الصراع بين الموت والحياة وبين الفكرة والأسلوب.
كما تتلون صور النصوص بالحزن والتمرد والفرح مما يجعلها أشد تأثيراً وجمالاً.فهي مفتوحة على كل الأجناس الأدبية . اذ استطاع الشاعر التخلص من هيمنة الوزن الشعري، ليشيد قصائده على دعائم عدة أهمها الصور الشعرية والإيقاع الموسيقي النفسي. وهذا ما أشار إليه الشاعر والناقد "حسين مردان" في قوله: بترك الوزن نصل إلى الأعماق ونفرك التراب وتشع المعادن الكامنة فيه. فهناك تناغم وانسجام في الإيقاع الموسيقي، و لغة شعرية قائمة على إيقاعات حزينة ومفردات شفافة وترابط لغوي منسكب بتوالي المعنى لصالح الفكرة العامة.
الشاعر جبار الكواز يثبت هويته بنهجه المتميز البعيد عن النمطية، يعزف أوتار الحياة ويشي بالكثير من الأرق ويحاكي الواقع بعمق وسطحية متوازيين عبر إطالة لا تشير إلى الملل بل تسرع الخطى نحو اكتشاف أسرار الواقع . فهو يندب راهننا الرث بطريقته الفذة. وللبيئة هنا تأثيراً مباشراً على نصوصه المتطابقة مع عالمه والعالم الخارجي. فهي مرآة للذات تختزل الوجع التراجيدي للناس. فقد تغلغل في تفاصيل الشعور والأحداث وعبرعن ذاته وأحلامه وهواجسه ورؤياه، ناقداً لمجتمعه والسلطة والسياسة، ينزف بجرأة السخط والأمل في آن . أوليس أدب الحداثة هو أدب اللاسلطة ،أدب رفض السلطة كما قال الشاعر والناقد "كمال أبو ديب"؟ فالشاعر يظهرهادئاً تارة ومنتفضاً ثائراً أحياناً أخرى، عاكساً القلق من المستقبل فبعد أن يبني المستقبل يعود ليهدمه قبل ولادته ، فيولد إبداعاً مصبوغاً بالوعي واللاوعي معنى، ورقة فنية وتصويراً مرهفاً مبنى.
إن تلك النصوص هي قبس نور هزنا دون سابق إنذار ، فشعت قلوبنا وعقولنا به ومنه.



د. رنه يحيى - مسؤولة الدراسات النقدية في نادي وتريات قصيدة النثر د.رنه يحيى

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى