توطئة:
" وأنا بعد مدحي في النبي وصحبه
أنشد وأغني عن عرب أخيار
لما وصل أبو زيد الى تونس البلد
ومعاه ثلاثة يشبهوا الأقمار
وجدُوا الأمير علّام على ظهر أدهمٍ.."
نسيتُ نفسي وأنفار "فرقة الدودة"، ونحن نتابع "أبو أمين"ـ خولينا ـ بانبهار، وهو يتمايل مترنمًا بالإنشاد الجميل، متماهيًّا مع الفنّان الشعبي "حوّاس" حركة وصوتًا، والسيرة الهلالية حدثا يشوقنا لحدث، حتى خلتُ أن الفنّان الكبير، ترك منصته الغنائية هناك، وفرقته الموسيقية، وجاء حقل "الطعايمة" وراء "فرقة الدودة"، وتلبَّس كيان الخولي. يتمايل بقوامه الرّبع، وجلبابه البلدي السابغ، وطربوشه الأحمر المائل تحت وهج الشمس الأبيض. يترقص صوته مع الإيقاع المنتظم. فنتمايل نحن الصغار مثلما يتمايل برشاقة يمينًا ويسارًا، فينتفي شقاء العمل..
" ضحك الأمير وقال أنا أشكرك
أهل الفصاحة يريّحُوا المحتار
تسمح تسير ويّايا لداخل الشجر
خلّي الرفاقه برّه في استنظار.."
قفلت الجملة الموسيقية الحوّاسيّة، بدقّة إيقاع أخيرة،وهو يخاطبنا بتصميم:
"قال الراوي يا سادة يا كرام.."
وسكت الراوي فجأة عن الكلام، لم يقل شيئا للسادة الكرام بالحقل. أفصح الصمت عن وجوده عندما تنبّه أن أنفار الفرقة نسوا شجيرات القطن، وانتصبوا يتابعونه بعيون شاخصة، منبهرة. انسلّ "حوّاس" من مشهد الحقل مختفيًّا، آخذا معه فرسان بني هلال وأميراتهم الجميلات. هبّ الخولي "أبو أمين" من موضعه صارخًا، رافعا عصاه الطويلة، يطرق ظهور الجميع. تنتظم الفرقة في ثوان على الخطوط، صف واحد منتظم، ظهر واحد منحني، أياد تقلب أوراق شجيرات القطن بجدّة، بحثًا عن لطع الدودة اللعينة.
الحكاية:
[1]
الوقت يدنو من ظهيرة قاسية كعادة منتصف الصيف. حقول شاسعة لنباتات القطن تحيط بأرض "الطعايمة"، نقلب نباتاتها كل ثلاثة أيام مرّة، حسب جدول الجمعية الزراعية بدفتر الفرقة، الدفتر الذي خصّني به الخولي أحمله في جيبي بحرص، أدوّن به أسماء الأنفار من أطفال الفرقة كل صباح. نفارق بيوتنا بالقرية قبل شروق الشمس، ونفتقد جدرانها الطينية الحنونة. نتجمع جانب أشجار جنينة الخواجات، حيث النسمات المنعشة التي تهب بين الحين والآخر، وضجيج طيور لا تكف عن الطيران ما بين الأفرع وماء الترعة الجاري.
صف متعرج ملول، ضجر، لأطفال متفاوتي الأعمار، الأكف الصغيرة بانحناءة الظهر لا تكف عن تقليب النباتات بعناية، أعين الصغار تقتنص لطع البيض المائلة للإصفرار، أو التي أفلتت من قبل، ولم نرها، وقد فقستْ لديدان صغيرة جدًا، لا تلبث أن تنتشر على الشجيرة وتجردها من ثوبها الأخضر. بالإضافة لحمل الدفتر، كنت مكلفا مع اثنين آخرين، للتفتيش وراء خطوط الفرقة، عن اللطع الفالتة التي تجاوزتها عين ساهية، لنفر مهمل. ويل لمن يُضبط في خطأ الإهمال، عصا "أبو أمين" اللولبية جاهزة فورًا للسع، تنهال على مؤخرة الولد، أو كتفي البنت، تنبه وتنذر دون تردد، هذا بالطبع غير عقاب الظهيرة، الذي ننتظره بشوق، ويبدو كعرض مسرحي مثير.
وجدتُ لطعة فالتة، أقمتُ جذعي، ورفعت رأسي لأخبره.. أين الخولي؟ كان مقرفصًا في ظل سيسبانة هزيلة أزهارها صفراء على حافة حوض الحقل، يدخن سيجارة لف، ويدندن بموال، لا أعرف لأيّ فنّان ممن يعشقهم. لم يصل اللحن لمسامعي، لم أتبيّن حتى كلماته التي تبخرتْ في الصمت كهمهمة موسيقية. لمحني منتصبًا، أشار بكفّه إشارة تساؤل. أخفيتُ اللطعة في جيبي، وعدلتُ عن رأيي. لم أشأ أن أعكّر عليه لحظة هي الأجمل في يومه، تلك التي يغني فيها ألحانه التي يعشقها. بادلته بإشارة إجابة لأصابع ملمومة نحو فمي. فهم أننا عطشى في هذا الطقس. قدرتُ أن زملاء الفرقة لا بد منهكون مع قرب زمتة الظهيرة، السماء فوقنا بيضاء باهرة، حرارة الشمس العالية تضرب الأبدان الغضّة بالخمول والدّعة. لا الطواقي الخوص نافعة، ولا القماشية المهترئة المتسخة على الرءوس شافعة، في التصدّي لها. أكمام الجلابيب تجفف الوجوه والأنوف من العرق الرّاشح. ظلالنا الساقطة تحت أقدامنا على الخطوط الساخنة تنكمش رويدًا رويدًا ببطء شديد. الصمت المحكم يرين على الحقول الواسعة المحيطة، لا صوت لصريخ ابن يومين. كفّت بنات الفرقة عن الغناء، لا يلتزمن الصمت إلّا في لحظات مثل هذه، أو لحظات تجلّي الخولي بالغناء لفنانيه الشعبيّين. خرج من طقس الدندنة، وأشار بعصاه ناحية "إحسان" ـ أكبر بنات الفرقة ـ المكلفة بجلب ماء الشرب. حملت البنت الجرّة على رأسها، وكوز الصفيح بيدها، وأقبلتْ بهمّة. رفع الأطفال جذوعهم بفرحة، تحررًا من وطأة الإنحناء الطويل، المرهق، الممتد من الصبح حتى الآن. يتنافسُون في تناول كوز الماء من "إحسان" ليطفئوا ظمأهم، لا تتذمر إلّا عندما ينثرون بقاياه على وجوههم. ينتهزون اللحظة، ويقيسُون أطوال ظلالهم بخبرة أعينهم، ليتبيّنوا الوقت الباقي حتى خروجهم لراحة الغداء. أدرك "أبو أمين" ـ في ظل السيسبانة ـ أن الفرقة ينفرط عقدها، رصد تلكؤ العيال في الشرب، وتحسّب لإضاعة الوقت، المساحة الموكلة للفرقة لم تنجز بعد. ألقى عقب سيجارته أرضًا، ونهض شاهرًا عصاه الطويلة في الهواء، وهو يهرول صائحا. فأسرع الباقون بالشرب. قبل أن يصل، كانت الفرقة قد انتظمت في وضع الانحناء مرّة أخرى، ونحن من ورائهم نمارس لعبة التفتيش.
[2]
ما إن صرّح الخولي بالخروج للغداء، حتى دبّت القوة في أجساد الصغار فجأة، هللوا وانفرط عقدهم مبعثرين بين الخطوط، مشينا على حدود الأحواض حتى موضع راية الفرقة الحمراء، التي ترفرف على عصاها، وتشير لمهندسي ومشرفي الجمعية الزائرين، فلا يتيهون عن موضع الفرقة. كانت بالقرب من الطريق العام، تحت شجيرات كازورين بجوار حظيرة مواشي. أشعل الولد المكلّف بالراية نارًا أحرقنا فيها اللطع التي جمعناها. فردنا صُرر الغداء بجوار الحظيرة وتناولنا طعامنا. خبز فلّاحي ملدّن وجبن قريش وخيار وفلفل مخلل. وانتظرنا العرض المسرحي اليومي للظهيرة..
كان الخولي يؤجل عقاب المهملين، ممن ضبط المفتّشون لطعًا خلفهم، لبعد الغداء. نوع من التسليّة تفتق بها ذهنه، ابتكار لتزجية وقت الرّاحة الممتد لساعة. يُبدع الخولي كمخرج مسرحي قدير في أساليب العقاب بصورة مُدهشة، فنتبيّن أنها ـ رغم قسوتها ـ تختلف فصولها المسليّة من يوم لآخر، من طفل لآخر؛ هناك أطفال مشاغبون يقسُو عليهم، بل ويضربهم أحيانًا بعصاه، وأخرون ـ تأكل القطة طعامهم ـ يكتفي بعقاب هيّن، لكنه مدعُوم بالتوبيخ المناسب.
أحيانًا يجعل المهملين يجرون حولنا ـ ونحن غارقون في الضحك ـ في قطار دائري منتظم، وهم يصيحون :"يا وابور يا مولع .. حط الفحم"، حتى تكل أقدامهم من الجري، ويبح صوتهم من النّداء.. في ظهيرة أخرى؛ يتبارى المهملون في مبارايات تصفية ثنائية للصفع، يصفع كل مهمل منهم الآخر، ومن يتهاون في الآداء يعلمه هو الصفع على أصوله، بتلقّي صفعة من كفّه الطرشاء.. وفي ظهيرة ثالثة "ملابطة"؛ مباريات لاختبار مواطن القوّة في أبدان الصغار، من يستطع طرح الجميع أرضّا.. عموما كانت عروضًا مسليّة لنا نحن الصغار، تفجّر الضحك على وجوهنا المجهدة، ونحن نتابعها كل يوم معه بشوقٍ عظيم. كان حصيفًا بحساسيّة مرهفة، فلم يشرك البنات في هذه الألعاب القاسية. يكتفي بتوجيه اللوم والتوبيخ. أو تكليف المهملة ـ كعقاب ـ بملء جرّة "إحسان" الثقيلة من حنفية المياه النقيّة البعيدة. أو تهديدها بإخبار الأهل عن خيباتها. لهذا يزداد حرصهن على تجنّب الخطأ. يعقب هذا العرض، كأننا في سامر، فقرة غنائية يشنّف فيها آذاننا بالفن الشعبي. كنت أسأل نفسي، بعقلي الصغير، من أي بئر يستخرج الخولي كل هذه الأساليب المبتكرة دون أن يجف معينه؟ ومتى تمكّن من حفظ كل هذا الغناء والمديح؟.
بعد الغداء، وقبل مراسم عرض اليوم الذي ننتظره، مرّت عربة تحمل مكبرًا للصوت، يُعلن عن حفلة مساء الاثنين القادم، يحيّيها الفنان الشعبي الكبير "حوّاس"، بدوّار المعلم "عيداروس" الجزّار. انتفض "أبو أمين" مهللًا كطفل رافعًا ذراعيْه ومعترضًا طريق العربة. ناوله المُذيع ورقة إعلان، بعد أن تأكّد من موعد الحفل.
ناولني الإعلان ـ قبل أن يطبقه لأربع، ويضعه بحرص في جيبه صداره ـ لأقرأه، نفس كلام مكبّر الصوت، ما عدا أسعار تذاكر الدخول.. الصفوف الأمامية بسعر، الخلفية بسعر آخر. من يفضلون الكراسي، ومن يفترشون الأرض قعودًا فوق فرش القش. بالطبع صورة "حوّاس" بطربوشه الأحمر تتصدّر الاعلان. سألني عن أرخص التذاكر، قلت له ضاحكًا: القش. تجهّم قليلًا، وسأل: متى تقبض الفرقة أجورها من سكرتير الجمعية؟ أخبرته أن الأسماء عندهم كل يوم بيومه. شرد قليلًا، كأنه يجري عملية حسابيّة معقدة، يوازن فيها بين المدّة الباقية على الحفل وموعد صرف الأجور.
كان سعيدًا باقي النهار بحفل فنّانه المفضّل. ألغى عرض اليوم، لم يعاقب المهملين بتسامح حقيقي، وسأل الأنفار متبسطًا، قبل النزول للحقل: من منكم ينوي حضور الحفل؟ فرفع البعض أصابعهم. عندما انتظم العمل، استدعى مجموعة مواويل حواسيّة وأتحفنا بها، لم تشعرنا بوطأة الوقت، أو مشقّة الانحناء.
[3]
حجرة المخزن خلف دار جارنا الحاج "محسوبي"، كثيرًا ما كان يؤجرها لفقراء، أو أجراء، لفترات تطول أو تقصر، لا يلبث الواحد منهم أن يغادرها في النهاية. أجراء لا وطن لهم إلّا عملهم أينما كانوا وأينما حلُّوا.. بدا المخزن الطيني بتعاقب قاطنيه كلوكاندة بدائيّة فقيرة من ماضٍ بعيد، يقطنها هؤلاء لفترات، قبل أن يختفوا. كأنهم يجيئُون من مجهُول، ويمضُون الى مجاهل. ما إن جاءتْ الإجازة الصيفية، حتى التحقتُ كزملائي نفرًا مع أطفال فرقة نقاوة الدودة. فوجئتُ أن خولي فرقتنا هو "أبو أمين" ـ جارنا ـ ساكن المخزن الجديد. وأن السيدة الغلبانة "أم أمين" ـ التي تأتي لتساعد أمي في شغل البيت ـ هي زوجته. أعطاني دفتر الفرقة.. أكتب الأسماء وأشارك في التفتيش.. هل كان يجاملني بسبب مقتضيات الجيرة؟ ربّما.
أمرُّ عليه كل صباح قبل شروق الشمس، أرى "أم أمين" في ثوب أسود مهمل، وقد أعدّتْ له إفطاره، وجهزتْ صرّة غدائه. تراني فتبتسم بمودّة وتدعوني للدخول، أو تسألني عن أمي. في عتمة الحجرة أتبيّن حاجاته القليلة؛ حصير قديم، بعض أواني الطهي، جرّة ماء مركونة جوار الحائط، قفة من الخوص بها ملابس، كانون طيني بالركن وأغرض أخرى.. يُقبل الطفل "أمين" ابن الثلاث سنوات، يرفعه بتهلل بين يديْه، وهو يغني له، فيكركر الطفل بضحكات صغيرة وهو يغمره بالقبلات، قبل أن يصحبني لموضع تجمُّع الفرقة عند الجنينة، لنتجه حسب جدول الدفتر للقسم الذي سننقي ديدانه.
منذ الإعلان، وحتى موعد الحفل، تغيرتْ أحوال الخولي، بدا أكثر تسامحًا وطيبة، لم يعد لتوقيع العقاب على مهمل، فحرمنا من فصول مسرح الظهيرة، الذي حلّ محلّه الغناء لـ"حوّاس" المنتظر. لم يعد يحاكي الفنَّانين الآخرين الذين تذخر بهم ساحة الغناء الشعبي آنذاك؛ "شتا القليوبي"، "أبو دراع"، "محمد طه"، "أبو عطيّة"، "أبو مجاهد"، "العزب" وغيرهم.. فنّانون يعرفُ أسماءهم، ويحفظ ألحانهم المميزة بصورة مدهشة.. حتى صار "حوّاس" في مسامعنا لأسبوع كامل أعظم فنّان في الكون، ونحن ننتظر موعد الحفل بلهفة وشوق عظيميْن. كفّت البنات عن الغناء. حلّ "أبو أمين" بجدارة، وهو يفاجئنا في كل مرّة بمقطع أكثر إثارة من السّيرة.
ينتهي يوم العمل، نمر معًا بمبنى الجمعيّة لنسلم كشف الأسماء، وقبل أن نغادر يسأل السكرتير عن موعد توزيع الأجور.
[4]
جاء يوم الحفل . لم تصرف الجمعيّة الأجور. جيب الخولي خاو، لا يشخشخ فيه قرش صاغ واحد، هكذا خمنتُ. وجهه مكفهرّ عابس كسحابة غليظة، لا شدو ولا مزاج للغناء. خلف الحظيرة التي نتبعثر حولها للراحة، أحواض أرز صامتة مليئة بالماء. نهض الخولي مبتعدًا، لا يطيق حتى النظر في وجوهنا، كأننا سبب تعاسته. مشى بجوار المصفى المجاور للحقل محدقّا في عمق الماء الرّاكد، كأنه يبحث عن شيء ضائع تحته. أطرق هنيهة، وكأنه عثر عليه فجأة، استدعى مهملي اليوم للعقاب. كيف يعود العرض المثير مع المزاج السيء؟ هل هو توق للتسرية عن الهموم؟ أعين الصغار تتساءل عندما أخذهم للمصفى. كانوا خمسة. أمرهم بخلع جلابيبهم، والنزول للماء، ومن ثم سد منافذ قطبي المصفى بالطين، لحصار الأسماك، وصيدها. خلال نصف ساعة، لا أكثر، كان الأولاد المعاقبون قد انجزُوا مهمة الصيد بسعادةٍ غامرة، وبحصيلة سمكيّة غير متوقعة. رحّبوا بهذا العقاب، المبتكر كالعادة، الذي أتاح لهم البلبطة في الماء والوحل، كما أنهم وبعد الصيد الذي يعشقونه، توجّهوا لشاطئ الترعة القريب ـ دون باقي الأنفار ـ واستحمُّوا، غمرُوا أجسادهم عرايا في الماء الجاري، اغتسلوا قبل أن يعودُوا للفرقة.
قبل خروجنا للعودة آخر النهار، رفع غنيمته من السمك، ونظر نحوي محرجًا، هزّها أمام أعين الأنفار، قال كلامًا عارضًا، كمن لا يخاطب أحدًا بعينه، أن الكميّة كبيرة، تكفي وتفيض، من يريد أهله شراء شروة سمك.. فإنه في الخدمة وبأقل سعر.
[5]
بعد المغرب، سمعتُ صوته بالشارع ينادي، خرجتُ كيْ أصحبه للحفل. خرجتْ أمي ورائي توصّيه عليّ، قال لها يطمئنها: من عيني. كان منتعشًا ـ عكس النهار ـ بمزاج رائق، قلت لا بد أن مشكلته المالية قد حُلت، باع السمك أو أقترض أوتصرّف.. لم أشغل بالي، ولم أسأله، لم انتبه حتى للصرّة التي يحملها بيده، ونحن نمضي في شوارع القرية المظلمة. كنت مشغولًا بالفنّان الذي يعشقه "أبو أمين"، وسوف أراه لأول مرّة. عند دوّار "عيداروس" وسط القرية، كان الزحام شديدًا من فلّاحي القرية والقرى المجاورة. وكأمر نادر، نُدرة هذه الليالي المفرحة، انتصب سوق ليلي صغير في الفضاء المتسع أمامه ليلبّي رغبات هؤلاء. غرزة "زيدان" بخيشها وحصرها ومشروباتها الساخنة على جانب. وبوق "أبو زكي" بائع الدردرمة يصدح مناديًا أمام عربته المزركشة. باعة الحلوى وقراطيس اللب والسوداني وعلب السجائر. باعة المشربات المثلجة والبوظة. لم يرغب هو في التزاحم، مال ناحية مصطبة هادئة على حافة السوق وجلس. قبل أن أستفسر، قال لي: سأنتظرك هنا.. خذ بالك من نفسك. وقفت حائرًا، خاب أملى في التوقّع. لكنه حثّني بصوتٍ أبوي صارم أن أذهب لأشتري تذكرة، أن أحجز لي مقعدًا قبل أن تنفد التذاكر.. تلكأتُ وتمنيتُ ألّا أتركه، أن أمنحه تذكرتي حتى يحضر هو الحفل، وأنتظره أنا على هذه المصطبة. شعرتُ بالإثم الذي اقترفته لأنني لم أُخبر أمي بحكاية السمك.. هل كانت تشتريه؟ ما هذه الصرّة التي يحملها بيده؟ هل هي شروة السمك حملها ليبحث لها عن مشترٍ؟.. حتى بعد أن دخلت الدوّار، وأخذت مكاني بين المئات، ظلتْ الأسئلة تؤرقني، حتى ظهر الفنّان أمام فرقته الموسيقيّة الصغيرة بآلاتها الشعبية مع عاصفة من التصفيق والصفير والتهليل. وبدأ الحفل. ران الصمت إلّا من صيحات الإعجاب بين الجمهور. بدأ بالمدائح النبويّة المعتادة، ثم ظللتُ شطرًا طويلًا من الليل، أتابع قصة أبو زيد الهلالي والأميرة عليا ورحيل بني هلال إلى تونس. صورة "أبو أمين" تتماهى في عيني في صورة "حوّاس"، فأرى "أبو أمين" منتصبًا أمام الفرقة بطربوشه الأحمر على المنصّة، وأرى "حوّاس" بعمامة وطاقية فلّاحي متّسخة حاملًا عصاه خلف الفرقة.. أيهما الفنّان وأيهما الخولي؟ أين الدوّار من الحقل وأين الحقل من الدوّار؟ هل تلاشت المسافات؟ ما الفرق بين الحقيقي والخيالي تحت جنح ليل الصّيف؟ أتذكّر أنني تركته في هدوء مصطبة السوق الطينية المظلمة خارج الحفل مع من لا يملكون ثمن تذكرة، هل باع أسماكه وتمكّن من الدخول، أو أخفق فألقاها بأريحيّة للقطط والكلاب الجائعة قبل أن تفسد؟ أخاله كاعيًّا أو واقفًا أو محتبيًّا أو راقصًا أو مصفقًا. غير منتبه لوجود أحدٍ بين هذه المئات سوى فنّانه المفضل. أو هائمًا مع صوت الغناء الجميل عبر أسوار الدوّار، بحرص سمِّيع قراري، حتى لا تفلت منه كلمة، أو شطرة غنائية، بين شجيرات القطن كنفر مهمل. أو يتيهُ عن أحداث السّيرة في زحمة صراع الفوارس على أبواب تونس.
متى مضى الليل سريعًا؟ منْ كل هؤلاء الذين لا يريدون مغادرة الدوّار حتى الآن؟ متى تسلل الفجر ـ في غفلة متعة بلا حدود ـ مزيحًا الظلمة الخادعة، ومتأهبًا للبزوغ؟ شبورة هشّة من الضباب، تهبط فوق الرءوس من سماء الدوّار المفتوحة، فتسكرها بالنشوة. تشتتُ أضواء الكلوبّات التى أضناها طول السهر مدلّاة على الأعمدة الخشبيّة، فشحُب ضوءُها. تحط على أبواب الدوّار فتفتحها تأهبًا للانصراف. الفنّان الشعبي يدخل في طقوس الختام، بموّال "عبد الوهاب" الشهير، متجاوبًا مع مشاعر مستمعيه ورغبتهم في البقاء، مشيرًا بكفّه لسماء الصيف التي تستقبل الفجر الوليد.. وبالدهشة، رأيت "أبو أمين" يتخطّى الجالسين بإصرار عنيد، يمرُق بجواري غير ملتفت لي، غير آبه بأحد، فاردًا ذراعيه على اتساعهما، مقتربًا من منصة الفنّان، كأنه لا يرى أحدًا سواه، ليحتويه بين ساعديه.. أحقيقي ما أرى؟ فركتُ عينيّ أجلو بصري.. متى دخل؟ تساءلتُ مندهشًا، و"حوّاس" يُشير له بكفّه مرحبًا، يمنحه جُل اهتمام لحظة الختام، مخاطبًا الفجر ـ من خلال ساعدي "أبو أمين" المتوسلتيْن ـ بصوته العذُب، موسّطًّا الليل برجاء عاشق، مؤملًا في امتداد الوصال:
" أمانة يا ليل تقول للفجر يستنّى
خلّيني بالوصل أفرح ليلة واتهنّى"
" وأنا بعد مدحي في النبي وصحبه
أنشد وأغني عن عرب أخيار
لما وصل أبو زيد الى تونس البلد
ومعاه ثلاثة يشبهوا الأقمار
وجدُوا الأمير علّام على ظهر أدهمٍ.."
نسيتُ نفسي وأنفار "فرقة الدودة"، ونحن نتابع "أبو أمين"ـ خولينا ـ بانبهار، وهو يتمايل مترنمًا بالإنشاد الجميل، متماهيًّا مع الفنّان الشعبي "حوّاس" حركة وصوتًا، والسيرة الهلالية حدثا يشوقنا لحدث، حتى خلتُ أن الفنّان الكبير، ترك منصته الغنائية هناك، وفرقته الموسيقية، وجاء حقل "الطعايمة" وراء "فرقة الدودة"، وتلبَّس كيان الخولي. يتمايل بقوامه الرّبع، وجلبابه البلدي السابغ، وطربوشه الأحمر المائل تحت وهج الشمس الأبيض. يترقص صوته مع الإيقاع المنتظم. فنتمايل نحن الصغار مثلما يتمايل برشاقة يمينًا ويسارًا، فينتفي شقاء العمل..
" ضحك الأمير وقال أنا أشكرك
أهل الفصاحة يريّحُوا المحتار
تسمح تسير ويّايا لداخل الشجر
خلّي الرفاقه برّه في استنظار.."
قفلت الجملة الموسيقية الحوّاسيّة، بدقّة إيقاع أخيرة،وهو يخاطبنا بتصميم:
"قال الراوي يا سادة يا كرام.."
وسكت الراوي فجأة عن الكلام، لم يقل شيئا للسادة الكرام بالحقل. أفصح الصمت عن وجوده عندما تنبّه أن أنفار الفرقة نسوا شجيرات القطن، وانتصبوا يتابعونه بعيون شاخصة، منبهرة. انسلّ "حوّاس" من مشهد الحقل مختفيًّا، آخذا معه فرسان بني هلال وأميراتهم الجميلات. هبّ الخولي "أبو أمين" من موضعه صارخًا، رافعا عصاه الطويلة، يطرق ظهور الجميع. تنتظم الفرقة في ثوان على الخطوط، صف واحد منتظم، ظهر واحد منحني، أياد تقلب أوراق شجيرات القطن بجدّة، بحثًا عن لطع الدودة اللعينة.
الحكاية:
[1]
الوقت يدنو من ظهيرة قاسية كعادة منتصف الصيف. حقول شاسعة لنباتات القطن تحيط بأرض "الطعايمة"، نقلب نباتاتها كل ثلاثة أيام مرّة، حسب جدول الجمعية الزراعية بدفتر الفرقة، الدفتر الذي خصّني به الخولي أحمله في جيبي بحرص، أدوّن به أسماء الأنفار من أطفال الفرقة كل صباح. نفارق بيوتنا بالقرية قبل شروق الشمس، ونفتقد جدرانها الطينية الحنونة. نتجمع جانب أشجار جنينة الخواجات، حيث النسمات المنعشة التي تهب بين الحين والآخر، وضجيج طيور لا تكف عن الطيران ما بين الأفرع وماء الترعة الجاري.
صف متعرج ملول، ضجر، لأطفال متفاوتي الأعمار، الأكف الصغيرة بانحناءة الظهر لا تكف عن تقليب النباتات بعناية، أعين الصغار تقتنص لطع البيض المائلة للإصفرار، أو التي أفلتت من قبل، ولم نرها، وقد فقستْ لديدان صغيرة جدًا، لا تلبث أن تنتشر على الشجيرة وتجردها من ثوبها الأخضر. بالإضافة لحمل الدفتر، كنت مكلفا مع اثنين آخرين، للتفتيش وراء خطوط الفرقة، عن اللطع الفالتة التي تجاوزتها عين ساهية، لنفر مهمل. ويل لمن يُضبط في خطأ الإهمال، عصا "أبو أمين" اللولبية جاهزة فورًا للسع، تنهال على مؤخرة الولد، أو كتفي البنت، تنبه وتنذر دون تردد، هذا بالطبع غير عقاب الظهيرة، الذي ننتظره بشوق، ويبدو كعرض مسرحي مثير.
وجدتُ لطعة فالتة، أقمتُ جذعي، ورفعت رأسي لأخبره.. أين الخولي؟ كان مقرفصًا في ظل سيسبانة هزيلة أزهارها صفراء على حافة حوض الحقل، يدخن سيجارة لف، ويدندن بموال، لا أعرف لأيّ فنّان ممن يعشقهم. لم يصل اللحن لمسامعي، لم أتبيّن حتى كلماته التي تبخرتْ في الصمت كهمهمة موسيقية. لمحني منتصبًا، أشار بكفّه إشارة تساؤل. أخفيتُ اللطعة في جيبي، وعدلتُ عن رأيي. لم أشأ أن أعكّر عليه لحظة هي الأجمل في يومه، تلك التي يغني فيها ألحانه التي يعشقها. بادلته بإشارة إجابة لأصابع ملمومة نحو فمي. فهم أننا عطشى في هذا الطقس. قدرتُ أن زملاء الفرقة لا بد منهكون مع قرب زمتة الظهيرة، السماء فوقنا بيضاء باهرة، حرارة الشمس العالية تضرب الأبدان الغضّة بالخمول والدّعة. لا الطواقي الخوص نافعة، ولا القماشية المهترئة المتسخة على الرءوس شافعة، في التصدّي لها. أكمام الجلابيب تجفف الوجوه والأنوف من العرق الرّاشح. ظلالنا الساقطة تحت أقدامنا على الخطوط الساخنة تنكمش رويدًا رويدًا ببطء شديد. الصمت المحكم يرين على الحقول الواسعة المحيطة، لا صوت لصريخ ابن يومين. كفّت بنات الفرقة عن الغناء، لا يلتزمن الصمت إلّا في لحظات مثل هذه، أو لحظات تجلّي الخولي بالغناء لفنانيه الشعبيّين. خرج من طقس الدندنة، وأشار بعصاه ناحية "إحسان" ـ أكبر بنات الفرقة ـ المكلفة بجلب ماء الشرب. حملت البنت الجرّة على رأسها، وكوز الصفيح بيدها، وأقبلتْ بهمّة. رفع الأطفال جذوعهم بفرحة، تحررًا من وطأة الإنحناء الطويل، المرهق، الممتد من الصبح حتى الآن. يتنافسُون في تناول كوز الماء من "إحسان" ليطفئوا ظمأهم، لا تتذمر إلّا عندما ينثرون بقاياه على وجوههم. ينتهزون اللحظة، ويقيسُون أطوال ظلالهم بخبرة أعينهم، ليتبيّنوا الوقت الباقي حتى خروجهم لراحة الغداء. أدرك "أبو أمين" ـ في ظل السيسبانة ـ أن الفرقة ينفرط عقدها، رصد تلكؤ العيال في الشرب، وتحسّب لإضاعة الوقت، المساحة الموكلة للفرقة لم تنجز بعد. ألقى عقب سيجارته أرضًا، ونهض شاهرًا عصاه الطويلة في الهواء، وهو يهرول صائحا. فأسرع الباقون بالشرب. قبل أن يصل، كانت الفرقة قد انتظمت في وضع الانحناء مرّة أخرى، ونحن من ورائهم نمارس لعبة التفتيش.
[2]
ما إن صرّح الخولي بالخروج للغداء، حتى دبّت القوة في أجساد الصغار فجأة، هللوا وانفرط عقدهم مبعثرين بين الخطوط، مشينا على حدود الأحواض حتى موضع راية الفرقة الحمراء، التي ترفرف على عصاها، وتشير لمهندسي ومشرفي الجمعية الزائرين، فلا يتيهون عن موضع الفرقة. كانت بالقرب من الطريق العام، تحت شجيرات كازورين بجوار حظيرة مواشي. أشعل الولد المكلّف بالراية نارًا أحرقنا فيها اللطع التي جمعناها. فردنا صُرر الغداء بجوار الحظيرة وتناولنا طعامنا. خبز فلّاحي ملدّن وجبن قريش وخيار وفلفل مخلل. وانتظرنا العرض المسرحي اليومي للظهيرة..
كان الخولي يؤجل عقاب المهملين، ممن ضبط المفتّشون لطعًا خلفهم، لبعد الغداء. نوع من التسليّة تفتق بها ذهنه، ابتكار لتزجية وقت الرّاحة الممتد لساعة. يُبدع الخولي كمخرج مسرحي قدير في أساليب العقاب بصورة مُدهشة، فنتبيّن أنها ـ رغم قسوتها ـ تختلف فصولها المسليّة من يوم لآخر، من طفل لآخر؛ هناك أطفال مشاغبون يقسُو عليهم، بل ويضربهم أحيانًا بعصاه، وأخرون ـ تأكل القطة طعامهم ـ يكتفي بعقاب هيّن، لكنه مدعُوم بالتوبيخ المناسب.
أحيانًا يجعل المهملين يجرون حولنا ـ ونحن غارقون في الضحك ـ في قطار دائري منتظم، وهم يصيحون :"يا وابور يا مولع .. حط الفحم"، حتى تكل أقدامهم من الجري، ويبح صوتهم من النّداء.. في ظهيرة أخرى؛ يتبارى المهملون في مبارايات تصفية ثنائية للصفع، يصفع كل مهمل منهم الآخر، ومن يتهاون في الآداء يعلمه هو الصفع على أصوله، بتلقّي صفعة من كفّه الطرشاء.. وفي ظهيرة ثالثة "ملابطة"؛ مباريات لاختبار مواطن القوّة في أبدان الصغار، من يستطع طرح الجميع أرضّا.. عموما كانت عروضًا مسليّة لنا نحن الصغار، تفجّر الضحك على وجوهنا المجهدة، ونحن نتابعها كل يوم معه بشوقٍ عظيم. كان حصيفًا بحساسيّة مرهفة، فلم يشرك البنات في هذه الألعاب القاسية. يكتفي بتوجيه اللوم والتوبيخ. أو تكليف المهملة ـ كعقاب ـ بملء جرّة "إحسان" الثقيلة من حنفية المياه النقيّة البعيدة. أو تهديدها بإخبار الأهل عن خيباتها. لهذا يزداد حرصهن على تجنّب الخطأ. يعقب هذا العرض، كأننا في سامر، فقرة غنائية يشنّف فيها آذاننا بالفن الشعبي. كنت أسأل نفسي، بعقلي الصغير، من أي بئر يستخرج الخولي كل هذه الأساليب المبتكرة دون أن يجف معينه؟ ومتى تمكّن من حفظ كل هذا الغناء والمديح؟.
بعد الغداء، وقبل مراسم عرض اليوم الذي ننتظره، مرّت عربة تحمل مكبرًا للصوت، يُعلن عن حفلة مساء الاثنين القادم، يحيّيها الفنان الشعبي الكبير "حوّاس"، بدوّار المعلم "عيداروس" الجزّار. انتفض "أبو أمين" مهللًا كطفل رافعًا ذراعيْه ومعترضًا طريق العربة. ناوله المُذيع ورقة إعلان، بعد أن تأكّد من موعد الحفل.
ناولني الإعلان ـ قبل أن يطبقه لأربع، ويضعه بحرص في جيبه صداره ـ لأقرأه، نفس كلام مكبّر الصوت، ما عدا أسعار تذاكر الدخول.. الصفوف الأمامية بسعر، الخلفية بسعر آخر. من يفضلون الكراسي، ومن يفترشون الأرض قعودًا فوق فرش القش. بالطبع صورة "حوّاس" بطربوشه الأحمر تتصدّر الاعلان. سألني عن أرخص التذاكر، قلت له ضاحكًا: القش. تجهّم قليلًا، وسأل: متى تقبض الفرقة أجورها من سكرتير الجمعية؟ أخبرته أن الأسماء عندهم كل يوم بيومه. شرد قليلًا، كأنه يجري عملية حسابيّة معقدة، يوازن فيها بين المدّة الباقية على الحفل وموعد صرف الأجور.
كان سعيدًا باقي النهار بحفل فنّانه المفضّل. ألغى عرض اليوم، لم يعاقب المهملين بتسامح حقيقي، وسأل الأنفار متبسطًا، قبل النزول للحقل: من منكم ينوي حضور الحفل؟ فرفع البعض أصابعهم. عندما انتظم العمل، استدعى مجموعة مواويل حواسيّة وأتحفنا بها، لم تشعرنا بوطأة الوقت، أو مشقّة الانحناء.
[3]
حجرة المخزن خلف دار جارنا الحاج "محسوبي"، كثيرًا ما كان يؤجرها لفقراء، أو أجراء، لفترات تطول أو تقصر، لا يلبث الواحد منهم أن يغادرها في النهاية. أجراء لا وطن لهم إلّا عملهم أينما كانوا وأينما حلُّوا.. بدا المخزن الطيني بتعاقب قاطنيه كلوكاندة بدائيّة فقيرة من ماضٍ بعيد، يقطنها هؤلاء لفترات، قبل أن يختفوا. كأنهم يجيئُون من مجهُول، ويمضُون الى مجاهل. ما إن جاءتْ الإجازة الصيفية، حتى التحقتُ كزملائي نفرًا مع أطفال فرقة نقاوة الدودة. فوجئتُ أن خولي فرقتنا هو "أبو أمين" ـ جارنا ـ ساكن المخزن الجديد. وأن السيدة الغلبانة "أم أمين" ـ التي تأتي لتساعد أمي في شغل البيت ـ هي زوجته. أعطاني دفتر الفرقة.. أكتب الأسماء وأشارك في التفتيش.. هل كان يجاملني بسبب مقتضيات الجيرة؟ ربّما.
أمرُّ عليه كل صباح قبل شروق الشمس، أرى "أم أمين" في ثوب أسود مهمل، وقد أعدّتْ له إفطاره، وجهزتْ صرّة غدائه. تراني فتبتسم بمودّة وتدعوني للدخول، أو تسألني عن أمي. في عتمة الحجرة أتبيّن حاجاته القليلة؛ حصير قديم، بعض أواني الطهي، جرّة ماء مركونة جوار الحائط، قفة من الخوص بها ملابس، كانون طيني بالركن وأغرض أخرى.. يُقبل الطفل "أمين" ابن الثلاث سنوات، يرفعه بتهلل بين يديْه، وهو يغني له، فيكركر الطفل بضحكات صغيرة وهو يغمره بالقبلات، قبل أن يصحبني لموضع تجمُّع الفرقة عند الجنينة، لنتجه حسب جدول الدفتر للقسم الذي سننقي ديدانه.
منذ الإعلان، وحتى موعد الحفل، تغيرتْ أحوال الخولي، بدا أكثر تسامحًا وطيبة، لم يعد لتوقيع العقاب على مهمل، فحرمنا من فصول مسرح الظهيرة، الذي حلّ محلّه الغناء لـ"حوّاس" المنتظر. لم يعد يحاكي الفنَّانين الآخرين الذين تذخر بهم ساحة الغناء الشعبي آنذاك؛ "شتا القليوبي"، "أبو دراع"، "محمد طه"، "أبو عطيّة"، "أبو مجاهد"، "العزب" وغيرهم.. فنّانون يعرفُ أسماءهم، ويحفظ ألحانهم المميزة بصورة مدهشة.. حتى صار "حوّاس" في مسامعنا لأسبوع كامل أعظم فنّان في الكون، ونحن ننتظر موعد الحفل بلهفة وشوق عظيميْن. كفّت البنات عن الغناء. حلّ "أبو أمين" بجدارة، وهو يفاجئنا في كل مرّة بمقطع أكثر إثارة من السّيرة.
ينتهي يوم العمل، نمر معًا بمبنى الجمعيّة لنسلم كشف الأسماء، وقبل أن نغادر يسأل السكرتير عن موعد توزيع الأجور.
[4]
جاء يوم الحفل . لم تصرف الجمعيّة الأجور. جيب الخولي خاو، لا يشخشخ فيه قرش صاغ واحد، هكذا خمنتُ. وجهه مكفهرّ عابس كسحابة غليظة، لا شدو ولا مزاج للغناء. خلف الحظيرة التي نتبعثر حولها للراحة، أحواض أرز صامتة مليئة بالماء. نهض الخولي مبتعدًا، لا يطيق حتى النظر في وجوهنا، كأننا سبب تعاسته. مشى بجوار المصفى المجاور للحقل محدقّا في عمق الماء الرّاكد، كأنه يبحث عن شيء ضائع تحته. أطرق هنيهة، وكأنه عثر عليه فجأة، استدعى مهملي اليوم للعقاب. كيف يعود العرض المثير مع المزاج السيء؟ هل هو توق للتسرية عن الهموم؟ أعين الصغار تتساءل عندما أخذهم للمصفى. كانوا خمسة. أمرهم بخلع جلابيبهم، والنزول للماء، ومن ثم سد منافذ قطبي المصفى بالطين، لحصار الأسماك، وصيدها. خلال نصف ساعة، لا أكثر، كان الأولاد المعاقبون قد انجزُوا مهمة الصيد بسعادةٍ غامرة، وبحصيلة سمكيّة غير متوقعة. رحّبوا بهذا العقاب، المبتكر كالعادة، الذي أتاح لهم البلبطة في الماء والوحل، كما أنهم وبعد الصيد الذي يعشقونه، توجّهوا لشاطئ الترعة القريب ـ دون باقي الأنفار ـ واستحمُّوا، غمرُوا أجسادهم عرايا في الماء الجاري، اغتسلوا قبل أن يعودُوا للفرقة.
قبل خروجنا للعودة آخر النهار، رفع غنيمته من السمك، ونظر نحوي محرجًا، هزّها أمام أعين الأنفار، قال كلامًا عارضًا، كمن لا يخاطب أحدًا بعينه، أن الكميّة كبيرة، تكفي وتفيض، من يريد أهله شراء شروة سمك.. فإنه في الخدمة وبأقل سعر.
[5]
بعد المغرب، سمعتُ صوته بالشارع ينادي، خرجتُ كيْ أصحبه للحفل. خرجتْ أمي ورائي توصّيه عليّ، قال لها يطمئنها: من عيني. كان منتعشًا ـ عكس النهار ـ بمزاج رائق، قلت لا بد أن مشكلته المالية قد حُلت، باع السمك أو أقترض أوتصرّف.. لم أشغل بالي، ولم أسأله، لم انتبه حتى للصرّة التي يحملها بيده، ونحن نمضي في شوارع القرية المظلمة. كنت مشغولًا بالفنّان الذي يعشقه "أبو أمين"، وسوف أراه لأول مرّة. عند دوّار "عيداروس" وسط القرية، كان الزحام شديدًا من فلّاحي القرية والقرى المجاورة. وكأمر نادر، نُدرة هذه الليالي المفرحة، انتصب سوق ليلي صغير في الفضاء المتسع أمامه ليلبّي رغبات هؤلاء. غرزة "زيدان" بخيشها وحصرها ومشروباتها الساخنة على جانب. وبوق "أبو زكي" بائع الدردرمة يصدح مناديًا أمام عربته المزركشة. باعة الحلوى وقراطيس اللب والسوداني وعلب السجائر. باعة المشربات المثلجة والبوظة. لم يرغب هو في التزاحم، مال ناحية مصطبة هادئة على حافة السوق وجلس. قبل أن أستفسر، قال لي: سأنتظرك هنا.. خذ بالك من نفسك. وقفت حائرًا، خاب أملى في التوقّع. لكنه حثّني بصوتٍ أبوي صارم أن أذهب لأشتري تذكرة، أن أحجز لي مقعدًا قبل أن تنفد التذاكر.. تلكأتُ وتمنيتُ ألّا أتركه، أن أمنحه تذكرتي حتى يحضر هو الحفل، وأنتظره أنا على هذه المصطبة. شعرتُ بالإثم الذي اقترفته لأنني لم أُخبر أمي بحكاية السمك.. هل كانت تشتريه؟ ما هذه الصرّة التي يحملها بيده؟ هل هي شروة السمك حملها ليبحث لها عن مشترٍ؟.. حتى بعد أن دخلت الدوّار، وأخذت مكاني بين المئات، ظلتْ الأسئلة تؤرقني، حتى ظهر الفنّان أمام فرقته الموسيقيّة الصغيرة بآلاتها الشعبية مع عاصفة من التصفيق والصفير والتهليل. وبدأ الحفل. ران الصمت إلّا من صيحات الإعجاب بين الجمهور. بدأ بالمدائح النبويّة المعتادة، ثم ظللتُ شطرًا طويلًا من الليل، أتابع قصة أبو زيد الهلالي والأميرة عليا ورحيل بني هلال إلى تونس. صورة "أبو أمين" تتماهى في عيني في صورة "حوّاس"، فأرى "أبو أمين" منتصبًا أمام الفرقة بطربوشه الأحمر على المنصّة، وأرى "حوّاس" بعمامة وطاقية فلّاحي متّسخة حاملًا عصاه خلف الفرقة.. أيهما الفنّان وأيهما الخولي؟ أين الدوّار من الحقل وأين الحقل من الدوّار؟ هل تلاشت المسافات؟ ما الفرق بين الحقيقي والخيالي تحت جنح ليل الصّيف؟ أتذكّر أنني تركته في هدوء مصطبة السوق الطينية المظلمة خارج الحفل مع من لا يملكون ثمن تذكرة، هل باع أسماكه وتمكّن من الدخول، أو أخفق فألقاها بأريحيّة للقطط والكلاب الجائعة قبل أن تفسد؟ أخاله كاعيًّا أو واقفًا أو محتبيًّا أو راقصًا أو مصفقًا. غير منتبه لوجود أحدٍ بين هذه المئات سوى فنّانه المفضل. أو هائمًا مع صوت الغناء الجميل عبر أسوار الدوّار، بحرص سمِّيع قراري، حتى لا تفلت منه كلمة، أو شطرة غنائية، بين شجيرات القطن كنفر مهمل. أو يتيهُ عن أحداث السّيرة في زحمة صراع الفوارس على أبواب تونس.
متى مضى الليل سريعًا؟ منْ كل هؤلاء الذين لا يريدون مغادرة الدوّار حتى الآن؟ متى تسلل الفجر ـ في غفلة متعة بلا حدود ـ مزيحًا الظلمة الخادعة، ومتأهبًا للبزوغ؟ شبورة هشّة من الضباب، تهبط فوق الرءوس من سماء الدوّار المفتوحة، فتسكرها بالنشوة. تشتتُ أضواء الكلوبّات التى أضناها طول السهر مدلّاة على الأعمدة الخشبيّة، فشحُب ضوءُها. تحط على أبواب الدوّار فتفتحها تأهبًا للانصراف. الفنّان الشعبي يدخل في طقوس الختام، بموّال "عبد الوهاب" الشهير، متجاوبًا مع مشاعر مستمعيه ورغبتهم في البقاء، مشيرًا بكفّه لسماء الصيف التي تستقبل الفجر الوليد.. وبالدهشة، رأيت "أبو أمين" يتخطّى الجالسين بإصرار عنيد، يمرُق بجواري غير ملتفت لي، غير آبه بأحد، فاردًا ذراعيه على اتساعهما، مقتربًا من منصة الفنّان، كأنه لا يرى أحدًا سواه، ليحتويه بين ساعديه.. أحقيقي ما أرى؟ فركتُ عينيّ أجلو بصري.. متى دخل؟ تساءلتُ مندهشًا، و"حوّاس" يُشير له بكفّه مرحبًا، يمنحه جُل اهتمام لحظة الختام، مخاطبًا الفجر ـ من خلال ساعدي "أبو أمين" المتوسلتيْن ـ بصوته العذُب، موسّطًّا الليل برجاء عاشق، مؤملًا في امتداد الوصال:
" أمانة يا ليل تقول للفجر يستنّى
خلّيني بالوصل أفرح ليلة واتهنّى"