- مهداة للشاب محمد سمير الذي يقيم بالسعودية وطلب هذه القصة خصيصا
ما زالت الـدار الكبيرة لآل " طعمة " قائمةً علي أساس متين ، رغم كل العواصف والأنواء التي مـرَّت عليها واصطدمتْ بجدرانها الطينية العتيقة ، وحاولتْ دون جـدوى زلـزلة أركانها المتيـنة ..
أساس متين حـي رغم أنه يتـوكأ علي عصـا ، ويـدبُّ علي قدمـين واهنتـين ، ويحتفـظ بذاكـرة من حديد معنى قدسية العـائلة ، ونـبذ الشـرود عنـها ، حـد الفصـل والتـبرؤ من الفاعـل ، مهما كانت مكانته ، حتى يـوم الـدين ..
إنه الجـدَّة الكبيرة : الحاجة " عائشة " ..
الجدَّة التي ينتمي إليها جميع سكـَّان الـدار بدرجة ما من درجات القرابة ..
رحل الجـدٌ الكبـير " طعـمة " منذ زمن طويل ، بعـد أن زوَّج أبنـاءه الأربعة في دار العـائلة ، كان يخصص لكـل زواج جـديد حجرة بالـدار ، حجرة معاش تكفي سريراً للنوم وخزانة صغيرة للملابس ، ولا شيء آخر ، لا تهم الأشياء الأخرى ضرورية كانت أم كمالية ما دام الأحياء موجودين داخل جدران الدار ، والأشياء القليلة الموجودة داخل حيز الدار ـ صـغُر شأنها أم كـبُر ـ لا تخص أحـداً بعيـنه ، ملكيتها مُشاعة للكـل ، والكـل ـ ما دام ينتمي لآل " طعمـة " ـ في ملكيتـها سـواء ..
كان الأمـرُ طبيعياً في كل الأحـوال ، وعلي مدار الأيام والشهور والأعوام ..
يخرج الآباء والأبنـاء للحقل في أعمال زراعية لا تنتهي ، وتقسم الحاجة " عائشة " العمل بالدار بين الزوجات ، وعندما يحين موعد الطعام يأكـل جمـيع آل " طعـمة " من ماعـون واحـد وطعـام واحـد ..
وحبـا الله الجـدَّة " عائشـة " بطـول العمـر ، وظلتْ بينهم كجذر وتدي عميق يضرب في عمق الأرض ، ويزداد عمقه بتوالي السنوات فيحميهم من التشتت أو الانهيار .
وجـاء الـزمن الذي لم تعُـد فيـه دار " الطعايمة " الكبـيرة كبـيرة ، لقد أنجـب الأبنـاء ، وكـبُر الأولاد وازدادت أعدادهم ، ولم يكـن هناك من حـلٍ لهـذا التكـدّس السكَّـاني " الطعـايمي " ، سوى أن تتحـرر الـدار الكبـيرة من جوانبـها وأركانها ، وتنفـض عنها ثوبـها الضيق القـديم ، وتنبـعج بغـرفٍ جـديدةٍ ، يتم بنـاؤها من البحـري والقبـلي والغـربي والشـرقي فتبدو كبروزات كورمة قلقاس معمرة .
ورغـم هـذا ظـلَّ للـدار مدخلـها الرئيسي ، الذي يبدأ ببـوَّابة عتيـقة كبـيرة لها تربـاس من خشـب يسقـط في " سقَّـاطة " ، رغم أنها كانت قـد أنجبتْ أبواباً أخـرى صغـيرة وعصرية علي جانبـيها .
وظـلَّ للجـدَّة " عائـشة " مقعـدها العالي الأثـير بجـوار البـوَّابة ، الذي هـو في الأصل " نورج " الـدرس القـديم ، بعـد أن فقـد وظيفته بظهور ماكينات الدرس ، وتـمَّ تحويره وتزويـده بحشية من القطن ، يغطيها فـرو خروف العيد ، وكـان هذا الوضع يتيح لها أن تراهم جميعاً ـ دون استثناء ـ عندما يمرون عليها لـدى دخولهم أو خروجهم من الـدار .
وجاء الزمن الذي كان من الصعب فيه ، أن يتناول كل هؤلاء طعامهم معاً ـ كما في الماضي ـ من ماعـونٍ واحـدٍ ، فتقلصتْ الوجبات الثلاث إلي وجبة واحـدة رئيسية في اليوم بثـلاث موائـد كبيرة ، يجتمع فيها كـل الأفـراد : مائـدة للرجال وأخرى للنساء وأخيرة للأطفـال ..
رغم هـذا ، جـاء الوقـتُ ، الذي كان فيه البعـضُ يتخلف عنها ولا يحرص عليها .
وجـاء الزمنُ الذي كـبر فيه الأحفـاد ، وتزوج بعضـهم ..
كانتْ الجـدَّة الكبيرة " عائشة " شاردةً علي مقعـدها العالي ، تفكِّـر بأمـر العائلة ، كانتْ سعادتها في الأيام الأخـيرة منقوصةً بالعائلة التي كـبُرتْ ، وازداد أفرادها كثيراً ، وازدادتْ مخاوفها وهي تشعـر بدنـو الأجـل والرحـيل ..
هـل يظـل عقـد العـائلة ملتـماً بخيـط واحـد ؟ أو تنـفرط الحبَّـات وتتبعـثر بمجـرد رحيلها عن الدنـيا ؟ ..
كانتْ مهمومةً وشاردةً وهم يمـرُّون بها ، يُحـيُّونها ، ويرفعون أكفَّهم فوق رؤوسهم ، فـلا تلتـفتْ إليهـم ..
وتنبهتْ بنظـرها الكلـيل للطـفل الصغير " طعـمة " ، تلمـيذ الصف الأول الابتدائي ، عـائداً من مـدرسته ، تقبض كفـُّه الصغيرة اليمنى ، علي كـف ابنة عمِّه " عائـشة " ، التي تنتظم معه بنفس الصـف .. مسحتْ الجـدَّة عينيها العمشاء بظـاهر كفِّها المرتعشة .. كان الطـفلُ والطفـلةُ يضحكان معاً ضحكات بريئـة ، تتأرجح كفَّاهُما الصغيرتان المتشابكتان في نشوة غامـرة جيـئةً وذهـاباً ..
كانت تتأملهما بدهشة فرحة .
وكأنـها عثرتْ ، كما قدرتْ ، علي الحـل الذي يريحهـا من كل همُومهـا ..
نـادتْ عليهـما :
" طُعمـة .. عائشـة " .
فأقبـلا عليـها فرحـيْن وهما يصيحان :
" جدَّة .. يا جدَّة .. جدَّة .. يا جدَّة "
وقفـا أمامها ، أمسكتْ بكفيهما المضمومتين بين كفَّيها المرتعشتـين ، وراحت تنـادي مهـللةً بصوتها الرفيـع كل من بالـدار :
ـ " أهـل الله يا أهـل الـدار .. أهـل الله يا آل طعمـة " .
حتى تجمعوا كلّهم حواليها بسحنهم المتشابهة المدموغة بخاتم " الطعايمة " ، ينظرون لفرحتها الغامرة بـدهشـة لا تقل عن دهشتها ، وأنصـتوا لها وهي تقـول لهم وصيتها ، واجـبة التنفـيذ :
أن يكون الصغـير " طعمة " ـ إن شـاء الله ـ لـ " عائشة " ، و الصغـيرة " عائشة " ـ بـإذن الله ـ لـ " طعمـة " ، وأن تكون حجرتها بكل ما فيها من أشياء تخصها ـ بعد عمر طويل ـ لهما ، لا يشاركهما فيها أي فرد من أفراد " الطعايمة " .
محمد عبد الله الهادي
(من مجموعة امرأة وألف وجه ـ كفّان)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ما زالت الـدار الكبيرة لآل " طعمة " قائمةً علي أساس متين ، رغم كل العواصف والأنواء التي مـرَّت عليها واصطدمتْ بجدرانها الطينية العتيقة ، وحاولتْ دون جـدوى زلـزلة أركانها المتيـنة ..
أساس متين حـي رغم أنه يتـوكأ علي عصـا ، ويـدبُّ علي قدمـين واهنتـين ، ويحتفـظ بذاكـرة من حديد معنى قدسية العـائلة ، ونـبذ الشـرود عنـها ، حـد الفصـل والتـبرؤ من الفاعـل ، مهما كانت مكانته ، حتى يـوم الـدين ..
إنه الجـدَّة الكبيرة : الحاجة " عائشة " ..
الجدَّة التي ينتمي إليها جميع سكـَّان الـدار بدرجة ما من درجات القرابة ..
رحل الجـدٌ الكبـير " طعـمة " منذ زمن طويل ، بعـد أن زوَّج أبنـاءه الأربعة في دار العـائلة ، كان يخصص لكـل زواج جـديد حجرة بالـدار ، حجرة معاش تكفي سريراً للنوم وخزانة صغيرة للملابس ، ولا شيء آخر ، لا تهم الأشياء الأخرى ضرورية كانت أم كمالية ما دام الأحياء موجودين داخل جدران الدار ، والأشياء القليلة الموجودة داخل حيز الدار ـ صـغُر شأنها أم كـبُر ـ لا تخص أحـداً بعيـنه ، ملكيتها مُشاعة للكـل ، والكـل ـ ما دام ينتمي لآل " طعمـة " ـ في ملكيتـها سـواء ..
كان الأمـرُ طبيعياً في كل الأحـوال ، وعلي مدار الأيام والشهور والأعوام ..
يخرج الآباء والأبنـاء للحقل في أعمال زراعية لا تنتهي ، وتقسم الحاجة " عائشة " العمل بالدار بين الزوجات ، وعندما يحين موعد الطعام يأكـل جمـيع آل " طعـمة " من ماعـون واحـد وطعـام واحـد ..
وحبـا الله الجـدَّة " عائشـة " بطـول العمـر ، وظلتْ بينهم كجذر وتدي عميق يضرب في عمق الأرض ، ويزداد عمقه بتوالي السنوات فيحميهم من التشتت أو الانهيار .
وجـاء الـزمن الذي لم تعُـد فيـه دار " الطعايمة " الكبـيرة كبـيرة ، لقد أنجـب الأبنـاء ، وكـبُر الأولاد وازدادت أعدادهم ، ولم يكـن هناك من حـلٍ لهـذا التكـدّس السكَّـاني " الطعـايمي " ، سوى أن تتحـرر الـدار الكبـيرة من جوانبـها وأركانها ، وتنفـض عنها ثوبـها الضيق القـديم ، وتنبـعج بغـرفٍ جـديدةٍ ، يتم بنـاؤها من البحـري والقبـلي والغـربي والشـرقي فتبدو كبروزات كورمة قلقاس معمرة .
ورغـم هـذا ظـلَّ للـدار مدخلـها الرئيسي ، الذي يبدأ ببـوَّابة عتيـقة كبـيرة لها تربـاس من خشـب يسقـط في " سقَّـاطة " ، رغم أنها كانت قـد أنجبتْ أبواباً أخـرى صغـيرة وعصرية علي جانبـيها .
وظـلَّ للجـدَّة " عائـشة " مقعـدها العالي الأثـير بجـوار البـوَّابة ، الذي هـو في الأصل " نورج " الـدرس القـديم ، بعـد أن فقـد وظيفته بظهور ماكينات الدرس ، وتـمَّ تحويره وتزويـده بحشية من القطن ، يغطيها فـرو خروف العيد ، وكـان هذا الوضع يتيح لها أن تراهم جميعاً ـ دون استثناء ـ عندما يمرون عليها لـدى دخولهم أو خروجهم من الـدار .
وجاء الزمن الذي كان من الصعب فيه ، أن يتناول كل هؤلاء طعامهم معاً ـ كما في الماضي ـ من ماعـونٍ واحـدٍ ، فتقلصتْ الوجبات الثلاث إلي وجبة واحـدة رئيسية في اليوم بثـلاث موائـد كبيرة ، يجتمع فيها كـل الأفـراد : مائـدة للرجال وأخرى للنساء وأخيرة للأطفـال ..
رغم هـذا ، جـاء الوقـتُ ، الذي كان فيه البعـضُ يتخلف عنها ولا يحرص عليها .
وجـاء الزمنُ الذي كـبر فيه الأحفـاد ، وتزوج بعضـهم ..
كانتْ الجـدَّة الكبيرة " عائشة " شاردةً علي مقعـدها العالي ، تفكِّـر بأمـر العائلة ، كانتْ سعادتها في الأيام الأخـيرة منقوصةً بالعائلة التي كـبُرتْ ، وازداد أفرادها كثيراً ، وازدادتْ مخاوفها وهي تشعـر بدنـو الأجـل والرحـيل ..
هـل يظـل عقـد العـائلة ملتـماً بخيـط واحـد ؟ أو تنـفرط الحبَّـات وتتبعـثر بمجـرد رحيلها عن الدنـيا ؟ ..
كانتْ مهمومةً وشاردةً وهم يمـرُّون بها ، يُحـيُّونها ، ويرفعون أكفَّهم فوق رؤوسهم ، فـلا تلتـفتْ إليهـم ..
وتنبهتْ بنظـرها الكلـيل للطـفل الصغير " طعـمة " ، تلمـيذ الصف الأول الابتدائي ، عـائداً من مـدرسته ، تقبض كفـُّه الصغيرة اليمنى ، علي كـف ابنة عمِّه " عائـشة " ، التي تنتظم معه بنفس الصـف .. مسحتْ الجـدَّة عينيها العمشاء بظـاهر كفِّها المرتعشة .. كان الطـفلُ والطفـلةُ يضحكان معاً ضحكات بريئـة ، تتأرجح كفَّاهُما الصغيرتان المتشابكتان في نشوة غامـرة جيـئةً وذهـاباً ..
كانت تتأملهما بدهشة فرحة .
وكأنـها عثرتْ ، كما قدرتْ ، علي الحـل الذي يريحهـا من كل همُومهـا ..
نـادتْ عليهـما :
" طُعمـة .. عائشـة " .
فأقبـلا عليـها فرحـيْن وهما يصيحان :
" جدَّة .. يا جدَّة .. جدَّة .. يا جدَّة "
وقفـا أمامها ، أمسكتْ بكفيهما المضمومتين بين كفَّيها المرتعشتـين ، وراحت تنـادي مهـللةً بصوتها الرفيـع كل من بالـدار :
ـ " أهـل الله يا أهـل الـدار .. أهـل الله يا آل طعمـة " .
حتى تجمعوا كلّهم حواليها بسحنهم المتشابهة المدموغة بخاتم " الطعايمة " ، ينظرون لفرحتها الغامرة بـدهشـة لا تقل عن دهشتها ، وأنصـتوا لها وهي تقـول لهم وصيتها ، واجـبة التنفـيذ :
أن يكون الصغـير " طعمة " ـ إن شـاء الله ـ لـ " عائشة " ، و الصغـيرة " عائشة " ـ بـإذن الله ـ لـ " طعمـة " ، وأن تكون حجرتها بكل ما فيها من أشياء تخصها ـ بعد عمر طويل ـ لهما ، لا يشاركهما فيها أي فرد من أفراد " الطعايمة " .
محمد عبد الله الهادي
(من مجموعة امرأة وألف وجه ـ كفّان)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
محمد عبد الله الهادي
محمد عبد الله الهادي ist bei Facebook. Tritt Facebook bei, um dich mit محمد عبد الله الهادي und anderen Nutzern, die du kennst, zu vernetzen. Facebook gibt Menschen die Möglichkeit, Inhalte zu...
www.facebook.com