ماجد سليمان - مقبرة، شجرة، ليل..

بعد أن انقطع دبيب الأقدام الآدميّة، انسحبت من دفء فراشي كي ألـمس قبور الموتى من الأحبة، وأحيِّي الـمنازل الراقدين فيها، وأجُسّ تراب القبور، سريت حافياً ووقفت بباب المقبرة حاملاً مسبحتي الصفراء في يد، وعصاي القصيرة في يد، رأيت حفّار قبور لا همّ له إلا الحديث عن عدد الموتى الذين دفنهم، وعن الوقت الذي أمضاه في ذلك، دلفت المقبرة ساكن الحركة، فلم أجد أحداً، تأمّلت، وتحسّست بعض القبور بأصابعٍ راجفة، رفعت البصر في النصائب، موتى منذ سنوات، لا يعرف عددهم أحد، لأن الـمنايا تدفنهم دون تعداد وحساب لهم، وحين خَرَجت رأيت شَبَحاً نائحاً يحرث برؤوس أصابعه جدار المقبرة الطينيّ، فسرت رعشة خوفٍ في جسدي البارد، وانتصب شعر رأسي، ثم فطنت لكلبة تتعقّبني مندسّة بين ساقيّ وكأنّها تريد أن ترميني أرضاً، فنهشّتها ثلاثاً لتبتعد داخل المقبرة.
عدت إلى فراشي في غَلَس الفجر، في طقسٍ جنائزيٍّ زاده الموت، فَتَكَوّمت تحت لحافي مُرتجفاً كالمحموم، وصوتٌ يناديني من البعيد، فارتخت ذاكرتي لفجيعة فقدهم، فرأيت في الحلم: امرأة لها شفتين مُتقرّحتين، ترقد على أريكةٍ قوائمها من الفضّة، وأسفنجها من أجود العهن، وقطراتٌ من ثديها تُثعبُ في فم رضيعٍ كالقمر.
صَحَوت من حلمي مُتكأًة على مرفقي، مراقباً عَرَقي المتساقط على ظهر ذراعي، جفّفت وجهي بخرقة صفراء خشنة، وأرحت صدري بأفأفة صغيرة، سقطت بعدها على فراشي، وشعرت بعرقي وقد بَرُد على صفحة جلدي، بقيت أنظر في السقف وقد كَرِه النوم أجفاني، بذلت جهدي لإخفاء دموعي، لكنها انزلقت حارّة من بين جفنين مرهقين، وجاء الغد كئيباً دامع العين، مُحمرَّ الجفنين، مُرخى الحاجبين، تَعِبَ القلب وَرَاجفَ اليدين.

خريف 2015م


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ماجد سليمان، أديب سعودي،
صدر له حتى الآن أكثر من 19 عملاً أدبياً
تنوَّعت بين الشعر والرواية والمسرحية والقصة وأدب الطفل.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى