نزار حسين راشد - بين المشارق والمغارب

"بين المشارق والمغارب"
في عهد الطفولة المسحور،لم تكن تدري أين تقف،فأنت تطفو على سطح العالم،وإذا وقفت على قدميك،فأنت تقف في مركز العالم،في قزحيته ،لا بل في بؤبؤه،ولا معنى للسؤال :أين تقف؟
على مشارف البلوغ بدأت رحلة الإنزياح،ازدحم الذهن بالأسئلة،وتبدّلت حالة الوعي،وتبدّل شكل العالم،وتفتّح الوعي وانفتحت نوافذه على الأسئلة المطروحة والإجابات المقترحة التي تقدم تفسيراً للعالم،وانتفض كولمبس ،ليبدأ رحلته الكونية،بين مشارق الأرض ومغاربها،رحلة لم يكن مقدّراً لها أن ترسو على أي بر،وكلما أمعن في الإبحار،اتسعت الخريطة وانبسطت أطراف الأرض تحت ناظريه،وتقمّص شخصية ذي القرنين،وبالفعل أتى على مطلع الشمس، وأوفى على مغربها،وحاور أقواماً فيما بين البينين!
التمس حكمة الله فأهدوه كتب ماركس،ثم أغروه بكنوز عصر الأنوار،واطّلع إلى ما وراء الأسوار،وأحدث ثقباً في الجدار،وأطل من ثقب هنري باربوس وعين إبرة ابن العربي،ووقف على حافّة جحيم سارتر،وأخيراً رجع بخُفي حنين،بعد أن تسلى بشعر عنترة ومعلّقة امرؤ القيس وفخر المتنبي!
وبحث لنفسه عن اسم ولقب في معجم الألقاب والتسميات،فسمّى نفسه عربياً ثم أممياً،ثم مسلماً!
والآن لا يزال مستغرقاً في تعريف ثنائيات العالم،الخير والشر،والفضيلة والرذيلة،والعدالة والطغيان،والإيمان والكفر والوطنية والخيانة!
وأخيراً وقف أمام رف الكتب وانفجر ضاحكاً،حين وقع نظره على اسم جاك دريدا،فقد مارس التفكيك والتركيب طيلة حياته حتى أضحت لعبته لا بل مهنته قبل أن يملّها أخيراً.
وأخيراً اصطدم بالسؤال الذي لا بدّ منه:وماذا بعد؟
شيئاً فشيئاً وبعد أن كفر بالنضال والجهاد على يد من رفع لواءها من الأحزاب،آوى إلى ركن رشيد،يصلي فروضه ويصوم رمضانه ويتلو قرآنه وهمس لنفسه:أفلح الأعرابي إن صدق،وأنا ذلك الأعرابي!
وظل على تلك الحال إلى أن استغاثت به امرأة،فاستيقظت به نخوة العرب ومروءتهم:ما خطبك يا امرأة هتف بها!
ليتبين فيما بعد أن مشكلتها أن زوجها مدمن قمار،وقد نبذه الأهل والأقارب بعد ان يئسوا من إصلاحه،وتركوها لشأنها بعد أن رفضت الطلاق منه واللجوء إلى بيت أهلها!
وفي لحظة تأمل تمثّلت له صورة دوستويفسكي وما عانته زوجته بسبب إدمانه على القمار،وارتسمت في ذهنه عبارة واحدة:القمار مرض نفسي،إنه دائرة من العذاب تتكرر بلا نهاية،وشرح للزوجة أنه لا بدّ من عرض زوجها على طبيب نفسي وبالذات محلل نفسي وليس أي طبيب،وهزّت الزوجة رأسها بيأس:حتماً سيرفض الذهاب،وأجابها بثقة مؤمناً على كلامها:طبعاً سيرفض ولا سبيل لإقناعه طبعاً!
-وما العمل إذن إذا كان الحال كذلك؟
تساءلت الزوجة المحاصرة بواقعها الأليم!
-العمل..بسيطة إسمعي لما سأقوله بتركيز! زوجك يشعر بالأمان فقط لأنك موجودة إلى جانبه فهو يعتمد عليك اعتماداً كلياً في الاستمرار بحياته،إنه يتكيء عليك،العمل أن تهدديه بأنك ستتخلي عنه ليس إذا لم يترك القمار،بل إذا لم لم يكرمك بتنفيذ رغبتك الوحيدة :أن يذهب معك لزيارة شخص ما،لا تقولي له مَن وأين،فقط قولي له أنه سيعرف فيما بعد!
-ولكنه سيولّي هارباً بمجرد أن يرى أنها عيادة طبيب!
-لا تخافي سأرتب لك الأمور،فقط قولي له أن الطبيب يريد فقط أن يتحدّث معه!
في داخل كل إنسان رغبة خفية في الإنعتاق من دائرة عذابه والخروج من جحيمه،وسيظل يكابر إلى أن يصل إلى عتبة تمثل له الأمل،فقط أوصليه إلى تلك العتبة واتركي له الخيار،قولي له أن الخيار له إذا لم يرد أن يدخل، ولكنّ ذلك سيكون كسفة وإهانة لك وأنك ستزعلين منه،ولا تعرفين ماذا سيحدث بعد ذلك..وطبعاً سنذهب أنا وأنت إلى الطبيب قبل ذلك ونشرح له الوضع بالتفصيل ونحدد معه الموعد!
لم يكن الرجل واثقاً تماماً أنّ خطته ستنجح،وهو استوحاها من الكتب التي قرأها فقط،وقد آن الاوان إن يختبر هذه المعرفة ويضع علومه موضع امتحان!
الآن وبعد أن شفي الرجل بالفعل أدرك أنه لم يضيع عمره سدى! ولكن ظلّ هناك سؤال معلّق يحيك في نفسه،ترى ماذا فعل الطبيب بالضبط وما هي الخطة العلاجية التي اتبعها وهل تُوافق ما افترضه مما أسعفته به قراءاته؟
لقد طرح السؤال على الزوجة وكانت الإجابة مدهشة بالفعل:
-كانت هناك جلسات تنويم مغناطيسي ولكن الخطوة الأكثر فعالية هو أن الطبيب اشترى له لعبة روليت صغيرة وقال له:
-تريد أن تقامر؟ قامر مع امرأتك أدر قرص الروليت وتعرّف إلى حظك !إلعب مع زوجتك داخل بيتك ووافيني بالنتائج،فأنا يهمني أن أعرف ما يخبؤه لك الحظ،هذا مهم جداً بالنسبة لي ولمدة شهر على الأقل،ثم شهراً آخر ثم آخر!
وهكذا قلبنا البيت إلى مقمرة صغيرة واعتزل الرجل أصحابه وصار يستمتع باللعب معي،وطبعاً بالفيش والأقراص الملونة على أمل أن نستبدلها بالنقود فيما بعد!
يذهب إلى عمله كل يوم ثم يعود إلي ،لقد أدمن دفء العائلة وأصبح أهمّ بالنسبة إليه من اللعبة ذاتها.
تذكر الرجل ابن سينا ولعبة الإيهام وتوجيه الوعي أو ما يسميه علم النفس المعاصر:power of sugession.
الأهم من ذلك أن الرجل عرف الحكمة في التحريم الإلهي للقمار،فداوم على عباداته ليس فقط بثباتٍ ولكن بحُبّ يصل حدّ الشغف!فالمعرفة لا تذهب سدى أبداً!
نزار حسين راشد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى