غرقتْ الدار البيضاء هذه السنة بالأمطار دون أن يَمْسَس رواية أحمد المديني قطرٌ أو إعصار، عِلْماً أنَّ عنوانها مقْدودٌ من اسم عاصمة المداخن الصناعية، فمنْ حطَّ الرحال لأول مرة بهذه الغابة الإسمنتية واختلطتِ العناوين بمُفكِّرته الصغيرة المدْسوسة بالجيْب الخلْفي للسروال، فما عليه كي لا تختلط السُّبل أيْضاً تحت قدميه، إلا أنْ يقصد أحد رجالات رواية المديني الجديدة وقد اجتمعوا في هذا العنوان"رجال الدار البيضاء، مرس السلطان"، هناك قريبا من هنالك سيجد سقْفاً في الذاكرة خارج الزمن الذي تعيش حزنه المدينة البيضاء هذه السنة، خارج طقس آيِلٍ للسقوط ووجد في السُّلطات حليفاً لإفراغ الأهالي من البيوت، فهل تُجدي الرواية دفئاً وكل من بات في العراء بالمدينة العائمة، لمْ يَعُد يعرف هل الثلج المتسرِّب بين العِظام هو الأبيض أم الدار بيضاء أم القلوب بعد تعرُّض المواطن لخيانة الألوان هي السوداء؟
هاتفني المديني: روايتي الجديدة في طريقها إليك على أجنحة البريد السريع، وعلى نفس الخط بِفَرْق يوم كلَّمني الناشر بسَّام كردي صاحب دار المركز الثقافي للكتاب: اليوم أو غداً تصلك الرواية، قلت في نفسي إن أقْدام هذا العمل السَّرْدي ساخنة منذ البداية، وما أحْوج القارئ لأحْرُفٍ تُشعِر فؤادَه بدفء يذيب صقيع هذا الموسم، ثم انضم للصوتين وكأنَّ الخط لم ينقطع ليواصل كتابة فصول أخرى في الرواية بعد الطبع، نداء موظف البريد يطمئنني أن الدار البيضاء بين يديه لم يصلها الفيضان وستصلني قبل أن يرتدَّ الطَّرف لعيني، ولكن وثيقة الاستقلال سبقتْها إلى توقيع القدر الجديد للمغرب، فتأخرت الدار البيضاء يوما آخر فلا أحد يشتغل يوم العيد !
لم أكذب حين قلتُ إن الدار البيضاء بسبب سوء التَّدْبير المُفوَّض والمُقوَّض غرقتْ بالأمطار، لكن لم يمْسَس رواية أحمد المديني قطرٌ أو إعصار، فهاهو البريدي يُهاتفني مع بداية الأسبوع قبل أن أسخِّن الكرسي بالجريدة، الْتَمَسَ من سِعة خاطري بعد أن ضاق الحيز ولم يجد رُكْناً لرَكْن السيارة، النُّزول لِتسَلُّم الإرسالية وأصحَبَ معي بطاقة التعريف ليس لأدلي بوطنيتي إنما هويتي، فهو يريد للدار البيضاء أن تستقرَّ بيدي ليمضي لحالِ بريده مرتاح الضمير، ليْتَ كل من يحمل أمانة الرسالة بمثل ضمير موظف البريد ما كان مصير كازابلانكا الغرق، كانت رواية المدينة الاقتصادية وتحديداً في مرس السلطان، مبثوثة في علبة كرطونية مُحكمة الإغلاق بشريط لاصق يصْعب تفكيكه ولو كنت ديريدياً، ولكن أين الرواية، هل هو مَقْلبٌ من الناشر بسَّام أو موظف البريد، لقد انفرطتْ العلبة عن أكياسٍ بلاستيكية هي أيضا بيضاء كالمدينة التي أمْطرتها، والحقيقة أنِّي لم أظفر بمُنْيتي إلا بعد أن سَلخْتُ من جوف العلبة أكثر من خمسة أكياس، كانت الرواية في كامل عذريتها مثل العروس في قعر العلبة ولا يفتضُّها إلا فحلٌ بعد تجاوز أكثر من غِشاء، تحسَّرتُ على الدار البيضاء التي اختنقتْ بيوتها وشوارعها بالسَّيْل للزبى، وقلتُ في حَسْرتي ليْتَ من تقلَّدوا المسؤولية الجماعية لأنفا العريقة يحرسونها على أرض الواقع كما يحرس اليوم ذاكرتها الكاتب والناشر والبريدي على أديم الورق !
ظَرْفُ أسبوع لا يكفي إلا لإخراج رواية بهذه الضخامة من الظرف فبالأحرى قراءتها من الأعماق، ولا غرابة فالدار البيضاء تُعتبر لسِعة رقعتها بلاداً داخل البلاد، أما ذاكرتها فهي أشسع في تاريخ الإنسان والزمان من الجغرافيا، لولا أنَّ الفساد ضيَّق رُقْعتها على الأهالي بضنك العيش وصار ينطبق على بؤسها اسمٌ جديد سجَّله الشاعر ادريس الملياني في كُنَّاش الحالة غير المدنية وهو "الدار البيداء"، ويُحمَد للمديني أنه أنقذ المدينة في هذه الظرفية الصعبة وهرَّب ذاكرة رجالاتها الأفذاذ من النسيان والبلل، يُحمد له أنه أعاد بناء أفق آخر بالمدينة لكل من فقَد السَّقْف، فلا يستطيع أحدٌ أن يفْصِل الدار عن البيضاء، وإلا أصبح كل ذي مأوى شريدا في الشوارع، ولن ينفعه البياض لمحو الذاكرة !
غرقتْ الدار البيضاء بالأمطار ولم يمْسَس رواية أحمد المديني قَطْرٌ أو إعصارٌ، وكل الأمل أن ينبثق رجالٌ ليسوا من الطينة التي تصنع الوحل لإنقاذ المدينة، ولأنَّ الروح كالأديم فالأكيد بعد هذا المطر الذي انهال من ذاكرة مرس السلطان، سنقْتطِف مع الأرض أول زهرة تسبق الربيع، ألَمْ أقُل في أكثر من صمت إن أملي أكبر من الأمل؟
ولا أخفي أنَّ فضولا حفَّزته ضخامة رواية من 592 صفحة جعلني ألقي ببصري لأسفل الغلاف الأخير حيث يوضع عادةً الثمن، وحين لمْ أجِدهُ أيْقنتُ أنَّ هذه الرواية كالهدية لا تُقدَّرُ بِثمن !
........................................
افتتاحية ملحق "العلم الثقافي" ليوم الخميس 21 يناير 2021.
هاتفني المديني: روايتي الجديدة في طريقها إليك على أجنحة البريد السريع، وعلى نفس الخط بِفَرْق يوم كلَّمني الناشر بسَّام كردي صاحب دار المركز الثقافي للكتاب: اليوم أو غداً تصلك الرواية، قلت في نفسي إن أقْدام هذا العمل السَّرْدي ساخنة منذ البداية، وما أحْوج القارئ لأحْرُفٍ تُشعِر فؤادَه بدفء يذيب صقيع هذا الموسم، ثم انضم للصوتين وكأنَّ الخط لم ينقطع ليواصل كتابة فصول أخرى في الرواية بعد الطبع، نداء موظف البريد يطمئنني أن الدار البيضاء بين يديه لم يصلها الفيضان وستصلني قبل أن يرتدَّ الطَّرف لعيني، ولكن وثيقة الاستقلال سبقتْها إلى توقيع القدر الجديد للمغرب، فتأخرت الدار البيضاء يوما آخر فلا أحد يشتغل يوم العيد !
لم أكذب حين قلتُ إن الدار البيضاء بسبب سوء التَّدْبير المُفوَّض والمُقوَّض غرقتْ بالأمطار، لكن لم يمْسَس رواية أحمد المديني قطرٌ أو إعصار، فهاهو البريدي يُهاتفني مع بداية الأسبوع قبل أن أسخِّن الكرسي بالجريدة، الْتَمَسَ من سِعة خاطري بعد أن ضاق الحيز ولم يجد رُكْناً لرَكْن السيارة، النُّزول لِتسَلُّم الإرسالية وأصحَبَ معي بطاقة التعريف ليس لأدلي بوطنيتي إنما هويتي، فهو يريد للدار البيضاء أن تستقرَّ بيدي ليمضي لحالِ بريده مرتاح الضمير، ليْتَ كل من يحمل أمانة الرسالة بمثل ضمير موظف البريد ما كان مصير كازابلانكا الغرق، كانت رواية المدينة الاقتصادية وتحديداً في مرس السلطان، مبثوثة في علبة كرطونية مُحكمة الإغلاق بشريط لاصق يصْعب تفكيكه ولو كنت ديريدياً، ولكن أين الرواية، هل هو مَقْلبٌ من الناشر بسَّام أو موظف البريد، لقد انفرطتْ العلبة عن أكياسٍ بلاستيكية هي أيضا بيضاء كالمدينة التي أمْطرتها، والحقيقة أنِّي لم أظفر بمُنْيتي إلا بعد أن سَلخْتُ من جوف العلبة أكثر من خمسة أكياس، كانت الرواية في كامل عذريتها مثل العروس في قعر العلبة ولا يفتضُّها إلا فحلٌ بعد تجاوز أكثر من غِشاء، تحسَّرتُ على الدار البيضاء التي اختنقتْ بيوتها وشوارعها بالسَّيْل للزبى، وقلتُ في حَسْرتي ليْتَ من تقلَّدوا المسؤولية الجماعية لأنفا العريقة يحرسونها على أرض الواقع كما يحرس اليوم ذاكرتها الكاتب والناشر والبريدي على أديم الورق !
ظَرْفُ أسبوع لا يكفي إلا لإخراج رواية بهذه الضخامة من الظرف فبالأحرى قراءتها من الأعماق، ولا غرابة فالدار البيضاء تُعتبر لسِعة رقعتها بلاداً داخل البلاد، أما ذاكرتها فهي أشسع في تاريخ الإنسان والزمان من الجغرافيا، لولا أنَّ الفساد ضيَّق رُقْعتها على الأهالي بضنك العيش وصار ينطبق على بؤسها اسمٌ جديد سجَّله الشاعر ادريس الملياني في كُنَّاش الحالة غير المدنية وهو "الدار البيداء"، ويُحمَد للمديني أنه أنقذ المدينة في هذه الظرفية الصعبة وهرَّب ذاكرة رجالاتها الأفذاذ من النسيان والبلل، يُحمد له أنه أعاد بناء أفق آخر بالمدينة لكل من فقَد السَّقْف، فلا يستطيع أحدٌ أن يفْصِل الدار عن البيضاء، وإلا أصبح كل ذي مأوى شريدا في الشوارع، ولن ينفعه البياض لمحو الذاكرة !
غرقتْ الدار البيضاء بالأمطار ولم يمْسَس رواية أحمد المديني قَطْرٌ أو إعصارٌ، وكل الأمل أن ينبثق رجالٌ ليسوا من الطينة التي تصنع الوحل لإنقاذ المدينة، ولأنَّ الروح كالأديم فالأكيد بعد هذا المطر الذي انهال من ذاكرة مرس السلطان، سنقْتطِف مع الأرض أول زهرة تسبق الربيع، ألَمْ أقُل في أكثر من صمت إن أملي أكبر من الأمل؟
ولا أخفي أنَّ فضولا حفَّزته ضخامة رواية من 592 صفحة جعلني ألقي ببصري لأسفل الغلاف الأخير حيث يوضع عادةً الثمن، وحين لمْ أجِدهُ أيْقنتُ أنَّ هذه الرواية كالهدية لا تُقدَّرُ بِثمن !
........................................
افتتاحية ملحق "العلم الثقافي" ليوم الخميس 21 يناير 2021.
Mohamed Bachkar
Mohamed Bachkar is on Facebook. Join Facebook to connect with Mohamed Bachkar and others you may know. Facebook gives people the power to share and makes the world more open and connected.
www.facebook.com