يوميات نيئة

يوميات نيئة

ضحى الإثنين،
صبيٌّ في السابعة، وصوت مشيٍ عسكريّ، يُسرع إلى أذنه، تفتح أمه درفة الباب مقدار ما ترى منه العين، لترى جماعة من الجند يحملون على أعناقهم تابوت جنديّ من زملائهم، بدى أنه من قتلى الحرب، يتبعهم صفّان من الجند بالأعلام والطبول، وكثير من الأتباع، خلفهم موسيقى جنائزية صادحة، تلتها طلقات المدافع، كان الطريق الذي يعبر أمام الباب يُسمى بميدان الاستعمار، يحاول الصبي أن يلج بين أمه والباب ليرى لكنها تدفعه ساخطة:
ــــ أُدخل، أُدخل، لا شأن لك بهذا.

فجرُ الثلاثاء،
بقي الفجر عالقاً في دخان المدافع، بينما آلياتٌ عسكرية مصفّحة لم تغادر مكانها منذ البارحة، قربها جماعة كبيرة من الجند، منطرحين كالكلاب السائبة في إحدى الطرق الضيقة جانب سيارة الدفع الرباعي التابعة للجيش، ذات المدفعية الصغيرة التي ينام تحتها أحد رفاقهم.
صوتُ يخشخش جوارهم، رفع أحدهم رأسه كما يفعل السبع، حين يحدد بحاسته جهة الفريسة، ازداد الصوت ارتفاعاً، فأعد سلاحه واطمأن أنه جاهز لأي طارئ، خطى بحذر نحو الصوت، منحنياً كالمخاتل، التفت فجأة إلى شارع ضيق جداً، مليء بالنفايات وبقايا الذخيرة، وصناديق الرصاص الفارغة المتراكمة على بعضها، بلع ريقه وساوى قناعه، ثم التفت وراءه، ما أن ارتدّ وجهه للأمام حتى طار من بين الركام غراب أفزعه بنعيقه، مشتتا لحظة الحذر فيه، فاستدركه بعيار ناري، أسقطه قريباً، وعاد إلى رفاقه مُوسِّعاً ما بين خطواته.

مغيب الأربعاء،
بعد عودته من دفن أمه، لم يعرف العزاء إلا من عشرات العاشقات له، اللاتي ترك لهنّ أن يُلقين عليه بحنانهنّ وعزائهنّ، اتسعت في روحه آلام الفراق وشراسة الحياة، ذكريات لا يـمحوها سوى الموت، أو التوغّل في الحرب.

مساء الخميس،
سعال في الغرفة الـمجاورة، يـخترق صمت المرضى الآخرين، مريض يتكئ على ذراع مرافقه، ويعرج به في الردهات قبل أن يتماثل للشفاء، فرأيا في الشاشة التلفزيونية المعلقة في غرفة المرضى أن قد أعلنت وقتها معاهدة للسلام بين طرفي الحرب، فطارت خبراً عاجلاً بين الزائرين وحديثاً طازجاً للمرضى.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ماجد سليمان، أديب سعودي،
صدر له حتى الآن أكثر من 19 عملاً أدبياً
تنوَّعت بين الشعر والرواية والمسرحية والقصة وأدب الطفل.
  • Like
التفاعلات: فائد البكري

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى