يرقع ملابسه بقماش من ألوان لا تتوافق مع بعضها البعض، ليبدو كمسيرة لعيد الألوان في الهند، عابرٌ أبله، يمر على المنشغلين بالحياة مرور مستهزئ ساخر، ليس له في الجد غير وقت النوم، فهو من الأوقات المقدسة بالنسبة إليه، يتشاجر مع الأرصفة ويدعك برجله أوراق الشجر الميتة، ثم يلومها على انفصالها عن الأغصان، غير أنه لا يشاكس شيئا عندما يجتاز الكراج، إذ يخاف هذا المكان جدًا.
تعود أسباب خوفه من الترحال والتنقل إلى زمن بعيد، مُذْ كان طفلًا، فقد بكى كثيرًا وهو يقف في باب الكراج مع وأمّه مودّعا أباه الملتحق إلى وحدته العسكرية ليشارك في الحرب، وغير مرة عندما وجد نفسه في موقف مشابه عاجزًا عن البكاء في اللحظة التي حمل بها أقاربُه جنازةَ أمِّهِ آخذيها إلى المقبرة النائية، وعندما كبُر وبلغ رشده، لم يدرك الطريق إلى قبرها، كما أنه لم يعرف ما حلَّ بأبيه في الحرب، فقد أخبروه بأنه فُقِد في إحدى الغارات الشرسة فقط، ولم يتأكدوا إذا ما كان قد مات أو أُسِر.
لذا، فهو يكره السفر والترحال, إذ يخاف أن يذهب هو أيضًا إلى مكان ولا يعود منه مرة أخرى، فكل من دخلوا محطة قطار أو كراج سيارات غابوا إلى الأبد، وهو يخشى أن يكون واحدًا منهم، حتى عندما أجبروه على أن يكفّ عن التنقل من بيته إلى الأحياء والأسواق البعيدة مشيًا، وأن يستأجر سيارة أو يركب باص النقل الحكومي، وأركبوه عنوةً، رمى نفسه من النافذة الجانبية للباص، وتسبب بكسر إحدى رجليه، وحين تفاقمت رهبته من السيارات ووسائط النقل على إلى عادته القديمة بأن يقضي أيامه بالمشي أو الركض، خاصة عندما يلاحقه الأطفال وهم يهتفون ويصفقون "أبو رقعة الوسخ لا يركب السيارة" فتزداد سرعته، ثم يهرول، ثم يركض هائمًا في الأحياء والشوارع والأزقة باحثًا عن مكان هادئ.
لطالما حلُم بأن يطير إلى الفضاء، وترسخت الفكرة في ذهنه عندما رأى تقريرا في التلفاز يقول بأن الفضاء خال من البشر، ومن الحياة كلها، لذلك قرر أن يصنع مكوك فضاء من علبة البيبسي ورأسٍ صاروخٍ بلاستيكيٍ استخرجه من لعبة للأطفال، وحين أكمله، انتبه إلى أنه يجب أن يحدث انفجار حتى ينطلق المكوك، فهرب مباشرة من موقع العمل، وترك علبة البيبسي بيتًا للحشرات.
لقد ضاق ذرعًا من المحاولات الفاشلة بالهروب من الحياة، واكتشف أن أفضل محاولة وآخر محاولة هي الانتحار، لكنه انتبه إلى أنه يخاف من الموت، فقرر أن يعرف ماذا يحدث فيما إذا مات هو على طريقته وليس كما يموت الآخرون، فبدأ يسأل كل من يصادفه: ماذا يحدث بعد الموت؟ فاستفهم من جدته العجوز أولًا، فقالت له: لم لا تسأل جدك؟ فهو أدرى مني بهذا الموضوع؟ فأجابها بأن جدّه ميت، كيف يسأله؟ إلا أنها لم تعطه جوابًا ورمته بقنينة الماء وبصقت في وجهه.
وحين فلت بصعوبة من يدي جدته واشتد عليه الخوف، حاول أن يفكر في جواب لسؤال جدته، وقال في نفسه: لم لا أسأل جدي فعلا؟!
وظل يسير بعُجالة في شوارع ليست مألوفة إليه، فقادته إلى قطعة كبيرة مكتوب عليها (مقبرة الشهداء). فكر قليلًا وتوصل إلى نتيجة تقضي بأن جده ميت وهؤلاء أيضًا أموات، لذا، كلهم في مكان واحد، فليسأل أي واحد منهم.
فنفذ من فتحة صغيرة في سياج المقبرة، وسار بين القبور متأملًا الأسماء والصور على الشواهد، وشعر بأنه في مكانه الطبيعي، ثم تمنى أنْ لو كانت أمه مدفونة في هذه المقبرة أيضًا كي يشكو إليها فراقها، وظل يتنقل بين القبور يبحث عن ميت يجيبه عن سؤاله، وجلس عند أحدهم ليسأله، فلم يسمع ردًا أو صوتًا أو أي شيء، وانتبه فيما بعد للمكتوب على شاهدة القبر، وعرف من تاريخ الوفاة بأنه قد مات شابًّا في مقتبل العمر، فابتسم ساخرًا "شاب صغير لا يمكنك أن تجيب على هذا السؤال، لا تخجل من جهلك..." ونهض يبحث عن آخر مات بعمر طويل.
كانت الصورة المعلقة على شاهدة القبر لكهْلٍ أشيب، فابتهج في قرارة نفسه لأنه وجد ضالته، وجلس قربه معيدًا السؤال نفسه بصوت منخفض، وظل ينتظر الجواب، إلا أنه لم ينتظر كثيرًا، إذ جاءه الجواب من بعيد "أبو رقعة؟ هل تتبول على القبور أيها المجنون الحقير؟" وحين رفع رأسه باغتته صخرة فجّت يافوخه، وصار كل شيء ضبابيًّا، فركض هاربًا، غير أن حارس المقبرة ظل يطارده حتى أخرجه من المقبرة مدمى الرأس متعثرًا بخياله.
ازداد بغضه للحياة، وعجز عن إيجاد جواب شاف لما سيحدث له فيما لو انتحر، ويئس من المحاولة الأخيرة، فحاول أن يتأقلم مع حياته التي لا يفهمها، ولكنه تأكد فيما بعد أنه لن يتقبل البشر، فهم يقذفونه بالحجارة ويجعلون منه أضحوكة إن تفوه بأي كلمة، لذلك رأى بأن خير وسيلة يفني بها حياته هي أن يبني علاقات طيبة مع الحيوانات، فأمسى الكلب الذي تربيه جدته صديقه المقرب، والجرذان التي تقرض فراشه دائما ندماءه في الليل الصامت، ولكنه فشل في مصاحبة الخفافيش، لأنها لا تذكره إلا حين يشتد الظلام، وهو لا يثق بأحد في العتمة، وبدأ يتحول تدريجيًا إلى حيوان غريب، ليس له صوت ولا شكل ولا هيئة، وتتحول ألوان رقع ملابسه كالدخان الذي يتسرب من الشقوق والنوافذ عندما تخمد النار.
أمير ناظم
العراق_النجف
٢٠٢١/١/٤
تعود أسباب خوفه من الترحال والتنقل إلى زمن بعيد، مُذْ كان طفلًا، فقد بكى كثيرًا وهو يقف في باب الكراج مع وأمّه مودّعا أباه الملتحق إلى وحدته العسكرية ليشارك في الحرب، وغير مرة عندما وجد نفسه في موقف مشابه عاجزًا عن البكاء في اللحظة التي حمل بها أقاربُه جنازةَ أمِّهِ آخذيها إلى المقبرة النائية، وعندما كبُر وبلغ رشده، لم يدرك الطريق إلى قبرها، كما أنه لم يعرف ما حلَّ بأبيه في الحرب، فقد أخبروه بأنه فُقِد في إحدى الغارات الشرسة فقط، ولم يتأكدوا إذا ما كان قد مات أو أُسِر.
لذا، فهو يكره السفر والترحال, إذ يخاف أن يذهب هو أيضًا إلى مكان ولا يعود منه مرة أخرى، فكل من دخلوا محطة قطار أو كراج سيارات غابوا إلى الأبد، وهو يخشى أن يكون واحدًا منهم، حتى عندما أجبروه على أن يكفّ عن التنقل من بيته إلى الأحياء والأسواق البعيدة مشيًا، وأن يستأجر سيارة أو يركب باص النقل الحكومي، وأركبوه عنوةً، رمى نفسه من النافذة الجانبية للباص، وتسبب بكسر إحدى رجليه، وحين تفاقمت رهبته من السيارات ووسائط النقل على إلى عادته القديمة بأن يقضي أيامه بالمشي أو الركض، خاصة عندما يلاحقه الأطفال وهم يهتفون ويصفقون "أبو رقعة الوسخ لا يركب السيارة" فتزداد سرعته، ثم يهرول، ثم يركض هائمًا في الأحياء والشوارع والأزقة باحثًا عن مكان هادئ.
لطالما حلُم بأن يطير إلى الفضاء، وترسخت الفكرة في ذهنه عندما رأى تقريرا في التلفاز يقول بأن الفضاء خال من البشر، ومن الحياة كلها، لذلك قرر أن يصنع مكوك فضاء من علبة البيبسي ورأسٍ صاروخٍ بلاستيكيٍ استخرجه من لعبة للأطفال، وحين أكمله، انتبه إلى أنه يجب أن يحدث انفجار حتى ينطلق المكوك، فهرب مباشرة من موقع العمل، وترك علبة البيبسي بيتًا للحشرات.
لقد ضاق ذرعًا من المحاولات الفاشلة بالهروب من الحياة، واكتشف أن أفضل محاولة وآخر محاولة هي الانتحار، لكنه انتبه إلى أنه يخاف من الموت، فقرر أن يعرف ماذا يحدث فيما إذا مات هو على طريقته وليس كما يموت الآخرون، فبدأ يسأل كل من يصادفه: ماذا يحدث بعد الموت؟ فاستفهم من جدته العجوز أولًا، فقالت له: لم لا تسأل جدك؟ فهو أدرى مني بهذا الموضوع؟ فأجابها بأن جدّه ميت، كيف يسأله؟ إلا أنها لم تعطه جوابًا ورمته بقنينة الماء وبصقت في وجهه.
وحين فلت بصعوبة من يدي جدته واشتد عليه الخوف، حاول أن يفكر في جواب لسؤال جدته، وقال في نفسه: لم لا أسأل جدي فعلا؟!
وظل يسير بعُجالة في شوارع ليست مألوفة إليه، فقادته إلى قطعة كبيرة مكتوب عليها (مقبرة الشهداء). فكر قليلًا وتوصل إلى نتيجة تقضي بأن جده ميت وهؤلاء أيضًا أموات، لذا، كلهم في مكان واحد، فليسأل أي واحد منهم.
فنفذ من فتحة صغيرة في سياج المقبرة، وسار بين القبور متأملًا الأسماء والصور على الشواهد، وشعر بأنه في مكانه الطبيعي، ثم تمنى أنْ لو كانت أمه مدفونة في هذه المقبرة أيضًا كي يشكو إليها فراقها، وظل يتنقل بين القبور يبحث عن ميت يجيبه عن سؤاله، وجلس عند أحدهم ليسأله، فلم يسمع ردًا أو صوتًا أو أي شيء، وانتبه فيما بعد للمكتوب على شاهدة القبر، وعرف من تاريخ الوفاة بأنه قد مات شابًّا في مقتبل العمر، فابتسم ساخرًا "شاب صغير لا يمكنك أن تجيب على هذا السؤال، لا تخجل من جهلك..." ونهض يبحث عن آخر مات بعمر طويل.
كانت الصورة المعلقة على شاهدة القبر لكهْلٍ أشيب، فابتهج في قرارة نفسه لأنه وجد ضالته، وجلس قربه معيدًا السؤال نفسه بصوت منخفض، وظل ينتظر الجواب، إلا أنه لم ينتظر كثيرًا، إذ جاءه الجواب من بعيد "أبو رقعة؟ هل تتبول على القبور أيها المجنون الحقير؟" وحين رفع رأسه باغتته صخرة فجّت يافوخه، وصار كل شيء ضبابيًّا، فركض هاربًا، غير أن حارس المقبرة ظل يطارده حتى أخرجه من المقبرة مدمى الرأس متعثرًا بخياله.
ازداد بغضه للحياة، وعجز عن إيجاد جواب شاف لما سيحدث له فيما لو انتحر، ويئس من المحاولة الأخيرة، فحاول أن يتأقلم مع حياته التي لا يفهمها، ولكنه تأكد فيما بعد أنه لن يتقبل البشر، فهم يقذفونه بالحجارة ويجعلون منه أضحوكة إن تفوه بأي كلمة، لذلك رأى بأن خير وسيلة يفني بها حياته هي أن يبني علاقات طيبة مع الحيوانات، فأمسى الكلب الذي تربيه جدته صديقه المقرب، والجرذان التي تقرض فراشه دائما ندماءه في الليل الصامت، ولكنه فشل في مصاحبة الخفافيش، لأنها لا تذكره إلا حين يشتد الظلام، وهو لا يثق بأحد في العتمة، وبدأ يتحول تدريجيًا إلى حيوان غريب، ليس له صوت ولا شكل ولا هيئة، وتتحول ألوان رقع ملابسه كالدخان الذي يتسرب من الشقوق والنوافذ عندما تخمد النار.
أمير ناظم
العراق_النجف
٢٠٢١/١/٤