إبراهيم شافعي - مقدمة كتاب الحج..

كنا في رمضان وكانت روحانياته قد سمت بنا في عوالم شتي وطوفت بنا إلى أفاق بعيدة، حدثني صديقي خالد عبدالغني عن تجربته في الحج والحديث كان عفويا ولم يكن هذا الموضوع محور حديثنا ولكن كما قلت مواضيع عديدة، ووقفت أمام هذا الموضوع بشيء من الذهول فقد كان حديثا خاصا وتطوافا حول الحج كما ينبغي أن يكون، وقفة مع الحج ليست وقفة مناسك ولا وقفة واجبات ولكنه الإعداد الذي يليق بالمناسبة ووقفات تليق بحدث لا يتكرر كثيرا.. تطواف مع الحج وإثراء للروح – عالم يرى الحج من منظور خاص ورؤية بعيدة المدى – فما كان مني إلا أن أطلب إليه أن يسجل هذه الرسالة ويكتب أحداثها بما كان وقد امتثل لطلبي وقد عهد إليّ أن أكتب ملاحظاتي حول هذه الرؤى، إلا إنني أجدني دون هذا العمل بكثير. وحاولت جهدي أن أكتب وأن أبدأ في الكتابة إلا إنني تراجعت مرات عديدة وشهورا طويلة منذ أن تلقيت هذه الأوراق في أوائل شوال 1437 وها نحن الآن في أواخر المحرم من العام 1438، ولم يكن التأخير إلا هذا الإحساس بضخامة العمل وقلة الجهد وقصر الهمة. وها أنا ذا أبدأ في هذا المشروع وأسأل الله التوفيق والسداد. والحج من الموضوعات الموسمية والتي لا يتناولها كثير من الخطباء ولا الوعاظ في خطب الجمعة ولا دروس العصر ولا برامج التلفزيون إلا في موسم الحج، فهو موضوع يفتقر إليه كثير من الناس والمعلومات فيه قليلة لدى الكثير، أما هذه الوقفة مع الحج فهي وقفة خاصة لا تتناول مناسك الحج ولا شيئا من واجباته أو نواقضه ولا ما ينبغي عليه الحاج ولا مثالب الحجيج في هذا المشهد ولا شيئا من هذا، وإنما رؤية خاصة لصاحب الرسالة، أشبه ما تكون نسخة أخري أو قراءة جديدة لكتاب "الطريق إلي الله" للدكتور مصطفي محمود (الطبعة الأولي – دار العودة – بيروت – 1971)، والحقيقة لم يقرأ المؤلف الكتاب بل لم يكن يعرفه من قبل إلا حين أخبرته به، والرسالة في مضمونها ومعانيها كبيرة غير أنها خرجت في بضع صفحات من القطع الكبير، وإذا زاد صاحب الرسالة قليلا في الاستفاضة في الموضوع ، لخرج لنا كتابا قيما في الحج - لكنه لم يكن يعنيه التأليف بقدر عنايته بأن يترك المجال فسيحا لي لكي أشاركه في الرسالة -، أشبه بكتاب "حقيقة الحج" للعلامة وحيد الدين خان ترجمة ابنه "ظفر الإسلام خان" (الطبعة الأولي – دار الصحوة للنشر – 1987) لكنه كعادته – كما أوضحت سلفا - آثر أن يكتب القليل ليدع للآخرين فرصة أن يشاركوه أفكاره. وهذه الرسالة أشبه ما تكون برؤيا لصوفي يري ما لا نراه ويسمع ما لا نسمعه، بل لديه أجهزة ترصد في وسط الزحام الشديد هدوء وسكينة وإجلال للمكان فقد تغير المكان مرات ومرات غير أنه ما يزال يري آثار إبراهيم عند بنائه الكعبة وأم إسماعيل في مساعيها عند الصفا والمروة سعيا وطلبا للماء، بل إنه ليري بعين البصيرة جبرائيل وهو يضرب بجناحية موضع قدم إسماعيل فيفجر زمزم وتخرج من مكة فيطوف بنا في شعابها ويقف عند صخرها وكهوفها بل وكأنه يري رسول الله صلي الله عليه وسلم في محرابه - غاره - معتزل قريشا ووثنيتها يتعبد ويتأمل، وها هنا أحد، وهنا الخندق، وهنا البقيع، وهنا وهنا..الخ. وكأنه يسير بين السائرين وعقله وقلبه في ملكوت أخر يتلمس عبق التاريخ وأنوار النبوة وهدي الأوائل الأكرمين. وها هنا مدينة رسول الله صلي الله عليه وسلم، فيسير حافيا لعله يتلمس بقدميه آثار قدمي النبي فتحل البركة فيه، وها هنا النبي في مسجده وكيف ندخل عليه ولا نقدم بين يديه صدقة وكأنه بين ظهرانينا حيا وقائما ؟، فالله يقول "يا أيها الذين ءامنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة" (المجادلة:آية 12)، وها هو يسعي إليه وكأنه يراه، ويقف وقفات إجلال في حضرته ولم لا وهو النبي الأعظم، لا نتجسس عليه في قبره فهو الحي، وهو الحياء في حضرته. إنها إشراقات روح صفت وسمت إلي درجات عليا، بل هي هبات نور المناسبة – الحج – ونور النبوة ولما لا وهو في مسجده وفي حضرته فالنفس ما هي إلا انعكاس لهذا النور فإذا صفت وسمت، ارتقت وسلكت دروب العاشقين، وها هنا وقد تخلصنا من الذنوب وعدنا إلي نقاء الطفولة، فالنفس في أعلي صور الشوق وأجهزة الاستقبال مستعدة لتلقي ما يرسل إليها في هذه الرحاب. وأردت حين أكتب أن يكون تعليقي في الحاشية، بينما تتصدر هذه الرؤى، الموضوع الرئيسي وخاصة أن كثير من الناس لا يلتفت كثيرا إلي الحواشي، فإذا ما أغفلنا هذه الحواشي، قرأنا وارتقينا والفرق بين هذا الكتاب (الرسالة) وبين غيرها من الكتب التي عنيت بالحج أو بمكة جد مهم، فكثير منها عني بالجانب التاريخي لبناء الكعبة ومراحل بنائها وما تعرضت له علي مر العصور وما أضاف إليها كل خليفة أو طمس من معالمها أو كل ما يتعلق بالكعبة من نذور وبناء وزمزم وغيرها (انظر مثلا تاريخ الكعبة – على حسنى الخربوطلي). وهناك من عني بالكعبة آدابها وأحكامها مثل محمد بن دردير المسعودي، فقد تناول مفهوم الكعبة والألفاظ ذات الصلة ونبذة عن الكعبة وبناءها وتحويل الكعبة واستقبال القبلة وأحكام استقبالها لمن حضر ومن غاب. وهناك من الكتب ما عني بحقيقة الحج فقد تناول وحيد الدين خان مثلا روح الحج وكونه صانع التاريخ وأهمية الحج والدعوة والجانب العاطفي في الحج كما تناول مفهوم الوحدة المتمثل في الحج ودروس التقوى والعفة وحج رسول الله صلي الله عليه وسلم في حجة الوداع ومسائل الحج، وهي أمور لاشك ضرورية وذات أهمية لكل حاج، وكتاب "الطريق إلي الله" لمصطفي محمود ويعد في نظري من أهم الكتب وأقربها إلي"الرسالة" الحالية حيث أنه يعنى في الأصل بمثل هذا الجانب التأملي "للرسالة" التي نحن بصددها بشيء من الاستفاضة، وإذا اختصر مصطفي محمود في كتابه لكن في نفس حجم الرسالة الحالية – وإذا زاد مؤلفنا لكانت رسالته في حجم هذا الكتاب - ويقف عند الحج وقفة المتأمل غير المعني بفقه الحج ولا طريقته ولكنه يقف مع الجماعة حين يلبوا بلسان واحد رغم اختلاف لغاتهم وأجناسهم وألوانهم وَحَدًّهُم نداء واحد ورب واحد وحين يلتفت إلي هذا الشكل فهو يتفق مع وحيد الدين خان في وحدة الحج ورسالته الجامعة وحين يمر مصطفي محمود ببدر أو أًحد فهو يتذكر المشهد وحديث الرسول هنا وهناك، إنهما وكأنما خرجا من مشكاة واحدة وكأنهما من فكر واحد ومؤلف واحد ولكن فرقا آخر أحسبه يضاف لمؤلفنا الشاب الذي احتفل بعيد ميلاده الرابع والثلاثين يوم عيد الأضحى أثناء الحج وكيف له أن يشعر بتلك الأنوار وهو في مثل سنه هذا، فمصطفى محمود ووحيد الدين خان لم يقل عمرهما عندما ألفا كتابيهما عن ضعف عمر مؤلفنا الشاب آنذاك.
يقول ظفر الدين خان في مقدمته للكتاب "إن أهمية هذا الكتاب لا تأخذ مكانتها وتميزها علي أساس أنها دراسة ملمة بالجوانب الفقهية بطريقة عميقة وشمولية ولا علي أساس أنها دراسة عنيت بالجانب التاريخي للكعبة من مراحل بناء وتطور، وإنما ترجع أهمية هذا الكتاب إلي التناول الجديد للحج علي أنه صانع التاريخ وأنه مؤسسة دعوية ووسيلة للوحدة ورحلة غير عادية قادر علي تجديد الإيمان وتنظيم الحج تنظيما جديدا لتحقيق الوحدة الفكرية وتسخير الحج كمركز للتخطيط العالمي للدعوة الإسلامية (حقيقة الحج – ص 6-7 بتصرف). ويشترك هذا الكتاب مع هذه الرسالة – نؤكد مرة ومرات على أن مؤلفنا الشاب لم يكن اطلع ولا حتى كتابة هذه السطور على هذا الكتاب - في البحث عن الرمز فحين يؤدي الحجيج مناسك الحج فهم يعيدون التاريخ الإبراهيمي كما فعله نبي الله إبراهيم فيتركون أوطانهم كم فعل ويمرون بكل ما مر به إبراهيم وولده إسماعيل فهم يقولون رمزيا بأننا إذا عاد بنا التاريخ وأمرنا أيضا أن نذبح أولادنا ما تأخرنا (نفسه) . ويقف صاحب الرسالة مثل موقف وحيد الدين خان فبحث عن الرمز في الحج موقف المتأمل الفقيه لا موقف العابد الذي يؤدي مناسكه دون وعي أو إدراك لما يفعل. وفي الختام لا أملك إلا أن أتقدم بالشكر والعرفان لصاحب هذه الرسالة لأنه ترك لي الفرصة لقراءة هذا السطور وأن أرسم بخطي بعضا من أفكاري وملاحظاتي حول الرسالة، والتي أسأل الله أن يوفقني إلي تناولها بشكل يليق بها، وأن أكون سببا في إبرازها بالشكل الذي يناسبها بعدما كنت السبب في كتابتها حين ألححت عليه أن يكتبها... والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل..


إبراهيم شافعي
شاعر ومترجم وتربوي مصري



1612639778058.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى