د. سيد شعبان - الصفحة الحادية عشرة.. أكل عيش!

يظن البعض أن الكتابة ترف يفضي به الكاتب ووقت يضيعه، أو مشاغبة تحلو له من خلال مفردات يدونها هنا وهناك محاولة للتفرد واثبات القدرة على أن يتواجد في مجتمع الكتبة والمدونين.
غير بعض تعلات هي أوهن من خيط العنكبوت مما يتلمسه القاريء من أوراق السيرة الذاتية أو مدونات الصحف الالكترونية.
يمسك الكاتب بقلمه ليعايش عالمه ويقدم ما اختزنه من تجارب يطالعها الآخرون؛ علهم يجدون فيها ما ينفع. لذلك أدون بعض ما قصه علي وما عشته معه.
كان أبي رجلا ذا عيال؛ رزقه الله بخمس بنات وثلاثة ذكور وكانوا أشبه بفراخ الطير يفتحون أفواههم كل آواتة طالبين الطعام وليته وحده بل الكساء والدواء وتبعات هؤلاء لرجل خرج من بيت أبيه بأربعة من الأبناء والخامس في بطن أمه- وكنته- حمولة ولا دابة؛ وفقر وقلة يد؛ على أية حال كان فيما سلف من سيرته شرح لمواجهته قسوة أيامه.
أراد أن يبتني حجرة من طوب تقف حاجزا لصغاره من غوائل الزمن؛ تمنع الكلاب الضالة وتحمي من برودة قارسة وشتاء يتنزل من السماء سيلا لا يدع شيئا حتى يغرقه.
بضعة جدر مما تركه الإنجليز من ثكنات مهجورة في أرض المالحة تكاد تقترب من قرية سنهور المدينة؛ مدار قيل كان مخزن حبوب أو مبيت جنود يبلغ عرض جداره المتر؛ فيكون النقب فيه بالغ الصعوبة؛ رغم أن هؤلاء قوم محتلون إلا أنهم يخلصون في أعمالهم ولا يتركون آثار أيديهم إلا علامة على دقتهم وجودة عملهم شاهدة فيما تركوا من مبان وكباري السكك الحديدية سيما كوبري دسوق الذي يعد آية في الهندسة والتشييد ؛ كان أصحاب الأرض يريدون هدمها ليتنفعوا بزراعتها فسمحوا لمن أراد أن يأتي ويأخذ منها هدما، حمل ابن جادو معوله وآلة نقبه، يظل اليوم يكد وينقب حتى يستخلص عشرات منها؛ يحملها على عربته الخشبية يجرها الحمار الأبيض ذلك الرفيق الذي تشخص صورته في مخيلة السارد كأنه عون الله قد كفله به.
ثم يعود بها فرحا وقد أوشكت الحجرة أن تكتمل إلا قليلا؛ وما تزال تلك القوالب باقية في البيت الكبير؛ احتفظ بها حين أفاء الله عليه ببيت ذي طوابق ثلاثة يقف شاهدا على رقي ما ابتناه من عمارة حديثة.
كثيرا ما كنت أسمعه يذكر الطنبور تلك الآلة المخروطية يدور داخلها لولب حديدي يخرج الماء من خلال لف محورها بيد حديدية تعتمد الجهد العضلي؛ لتروي قطعة أرض شراقي والعهد به رجلا قست عليه الحياة فيناغم بمواله الحزين: أنا الشاب الأمين وفي يدي المسامير!
أو يظل يرفع الماء بالشادوف تلك الآلة المتعبة التى تنحني لها ظهور الرجال لتروي حياض الأرض مما يزرعه من خضر يبتاعها على حماره حتى يصل بها إلى العزب والكفور النائية في البراري وكان يذكر أمام الفتى البرية فيخالها غابة موحشة تزأر بها الأسود وتتخلل الأفاعي والتماسيح ويظل خياله الغض يظن أباه أحد هؤلاء الممسكين ببنادقهم ويضعون قبعات رعاة البقر في الأفلام الأجنبية مما زينته مشاهد السينما؛ وما أبوه إلا رجل طيب القلب يسعى ويكد ليعول صغاره ويحميهم من عوادي الدهر وتقلباته.
حاول مرتين أو ثلاث أن يخرج من الكفر طلبا لبساطة العيش؛ مرة إلى عزبة بطاح حيث جاءها أولاد عمه عبد الغفار يستصلحون أرض العمدة بطاح ويزرعون شراكة عنده أو إلى الزوامل البحرية مما ذهب إليها أولاد عمه عامر الخابية الزيكيلي وإخوته؛ أو يكتب طالبا قطعة من أراضي إصلاح شالما بسيدي سالم جهة البراري والملاحة؛ باءت هذه المحاولات بالفشل أمام رفض أبيه جادو إذ كان يخاف عليه ويراه سندا له رغم أنه عزله بصغاره؛ فالحياة رغم شظفها مليئة بالترابط العائلي والتحاب بين الأهل.
إذ ذاك كان قد سافر إلى الحجاز كما سلف من حديث؛ وقد اشترى الاثتين وعشرين قيراطا- في خفية من الأمر رجل من آل أبوزور- وأرض كفر مجر ونواحيها تقارب الألف فدان ثمة أقاويل عن وقف خيري بها وقد جرت عليه يد البيع والشراء أو جاءت قوانين الإصلاح الزراعي فوزعت على صغار الفلاحين دورة أو دورتين والدورة تقارب النصف فدان.
بنوع من المكر؛ فأرسل إلى ابن عمه الحاج عبد العزيز الخابية يجيد التفكير ويتمتع بسيرة حسنة؛ إذ كان وقورا مهيبا قليل الكلام؛ عرفه الفتى فأحبه ووجد فيه الحنو ورجاحة العقل مما قل في أنداده؛ يهابه الناس ويوسعون له صدر مجالسهم؛ ويضعون أمانتهم عنده؛ حتى صار عضوا في الاتحاد الاشتراكي ومن بعده عضوا في الحزب الوطني، أرسل خطاب غضب وتوعد؛ فما كان من ذلك الرجل الذي اشترى إلا أن فرض ثمنا وفي يومه يظن به أن يعجز ابن جادو لكن شاءت إرادة الله أن تلك الأموال وكانت ستة آلاف جنيه ونصف كانت حاضرة مدبرة؛ يومها كان عيد إذ تبدأ ملامح الغنى تلوح في الأفق؛ ويمسك الفتى ببطاقة الجمعية الزراعية وتتحول صفة أبيه من مؤجر إلى مالك- والأرض لله يورثها من يشاء- ثم تدور الأيام دورتها وتكون هذه الأرض مقدمة لشراء مزرعة البحيرة يزرعها ابن جادو في الصحراء الغربية؛ سيأتي الحديث عنها في موضعها
Aa

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى