خير جليس د. عبدالجبار العلمي - حديث عن القراءة وطقوسها..

طلب مني شقيقي د.عبدالواحد التهامي العلمي الإجابة عن الأسئلة التالية :
1 ـ لما تقرأ ؟ / 2 ـ ماذا تقرأ ؟ / 3 ـ كيف تقرأ ؟ / 4 ـ متى تقرأ ؟ / 5 ـ أين تقرأ ؟
فكانت الإجابات كما يلي :

1 ـ لماذا أقرأ ؟
أقرأ لعدة أهداف أهمها :
ـ إغناء رصيدي المعرفي والثقافي ، سواء في المجال الثقافي العام، أوفي مجال تخصصي واهتماماتي الأدبية .
ـ التعرف على تجارب وحيوات الكتاب ، لإيماني بأن قراءة أي كتاب تضيف إلى المرء تجارب جديدة ، وتجعلك تعيش في عوالم متعددة ، بل قد يكون لبعضها أثر في تحول حياتك إلى نواحي إيجابية ، وتغيير نظرتك إلى الحياة والعالم.
ـ تهذيب الذوق وإرهاف الإحساس والرفع من مستوى الإنسان إلى الأرقى والأسمى .
ـ الاستمتاع والاستئناس بقراءة الكتاب، ففي قراءته يجد المرء لذة ومتعة وأنساً ورفقة طيبة مثمرة ، قد لا يجدها لدى بعض الخلان والأصدقاء والجلساء. وهذا مصداق لقول المتنبي الوارد في بيته المشهور :
أَعَزُّ مَكَانٍ في الدُّنَى سرْجُ سَابِحٍ وَخَيْرُ جَليسٍ في الزمانِ كِتَابُ
والحقيقة أن القارئ يجد في الكتاب خيرَ مخاطَب ، فهو ينسجم مع أفكاره وقناعاته ومزاجه أكثر من بعض المخاطبين من الناس الذين لا يجد بينه وبينهم انسجاماً أو قواسم مشتركة. ومن الجدير بالملاحظة ، أن الإذاعات المسموعة أو القنوات التلفزية المختلفة وغيرها من وسائل التثقيف ، لا تقدم المعرفة الدقيقة المفيدة والإمتاع والمؤانسة التي يقدمها الكتاب ، فأغلبها تقدم إنتاجاً هزيلاً، وموادَ سخيفة ، لا تهدف إلى التثقيف والتهذيب والتربية والتوعية .
ـ تزجية أوقات الفراغ بالقراءة، والاستئناس بالكتاب في وقت الوحدة في مختلف الأمكنة .


2 ـ ما ذا أقرأ ؟
قراءتي تتوزع بين السرد ، رواية وقصة قصيرة ودراسات نقدية حولهما ، وبين الشعر قديمه وحديثه. في بعض الأحيان أعود لقراءة بعض أمهات كتب التراث الأدبي العربي الزاخر بالمعارف المختلفة. و من الجدير بالذكر أنني أجد فيها آراء ونظرات عميقة إلى الحياة والكون أكثر تقدما وحداثة وفهما للنفس البشرية يسبر أغوارها وأسرارها ورؤياها إلى العالم من بعض الكتاب العرب المعاصرين.
وكثيرا ما أحن إلى كتب قرأتها في الماضي ، فأعود إلى قراءتها مثل بعض روايات نجيب محفوظ، لأعيش مع شخصياتها العصية على النسيان ، فأدلف إلى بنسيون "ميرامار" بالإسكندرية لألتقي بعامر وجدي وسرحان البحيري وحسني علام ومنصور باهي وزهرة وماريانا. وأتتبع مسير سعيد مهران منذ خروجه من السجن في محاولاته المتكررة الانتقام من أصدقائه الأعداء ورفاقه الخونة ، وضمنهم زوجته نبوية ، وأحزن لفشله المتكرر للنيل منهم ، كما أعجَبُ بشخصية " نور " ضحية المجتمع الظالم التي كانت الملاذ الوحيد ونقطة الضوء الوحيدة في حياة سعيد مهران ، كما أنني أدخل إلى حارات القاهرة المُعِزِّية سواء في الثلاثية أو زقاق المدق أو ملحمة الحرافيش.. كم كتابٍ أعدت قراءته من كتب قراءات الطفولة والصبا لطه حسين وتوفيق الحكيم ويحيى حقي والمازني لا يتسع المجال هنا لذكر عناوينها. إنني بهذه العودة أبحث عن المتعة التي كنت أجدها فيها، ولم أعد أصادف مثلَها في بعض الأعمال السردية الصادرة حديثاً إلا في النادر.
أذكر أن الكاتب المغربي عبدالفتاح كيليطو في أحد حواراته في كتابه " مسار "، قال إنه كان يقرأ المنفلوطي في مرحلة صباه ، وقد أُولِعَ بقراءة العربية من خلال كتاباتِه. ورغم أن حصة اللغة الفرنسة كانت خمس ساعات وحصة اللغة العربية كانت ساعتين فقط، فقد تمكن بفضل العشق الذي بثته فيه مطالعاته بالعربية أن يملك ناصيتها، ويكتب بها كتباً عديدة إلى جانب كتابته وتدريسه باللغة الفرنسية. والحقيقة أن جيلنا نشأ على كتابات المنفلوطي وجبران وغيرهما ممن ذكرت آنفاً ، بالإضافة إلى ألف ليلة وليلة وسلاسل كتب الأطفال لمحمد عطية الأبراشي وكامل كيلاني ( المكتبة الخضراء ) وغيرهما . ولا ينبغي أن ننسى الكتاب المدرسي الذي وجهنا إلى قراءة القصص والشعر ومترجمات بعض الكتاب العالميين وغيرها ألا وهو كتاب " إقرأ " لصاحبه أحمد بوكماخ رحمه الله.

3 ـ كيف أقرأ ؟
الحقيقة أنني أقع في حيرة من أمري بالنظر إلى تنوع اهتماماتي ، فهل أقرأ بعض الأعمال السردية التي تنتظر القراءة ما بين المغربية والعربية ، بعضها قديم الصدور ، وبعضها حديث ، أم أقرأ الشعر وما أكثر الدواوين الشعرية التي يشتاق المرء أن يقرأها من الدفة إلى الدفة ، ولم يكن يجد لها الوقت خلال سنوات العمل في مجال التدريس الذي يستنزف وقتنا وجهدنا، ومنها دواوين الشعر القديمة و المختارات الشعرية ، أذكر منها هنا دواوين المتنبي والمعري والبحتري وابن زيدون وابن خفاجة والمعلقات والأصمعيات والمفضليات والحماسة وغيرها ، وهي كلها أمامك وبين يديك . ومن الشعر المعاصر بماذا أبدأ هل بالشعر الرومانسي الذي أحبه مثل دواوين ناجي وعلي محمود طه وبشارة الخوري ؟ .. أم بالشعر الحديث لرواد القصيدة الحديثة مثل دواوين نزار وحجازي وصلاح عبدالصبور محمود درويش وأمل دنقل والمجاطي وراجع وعنيبة الحمري وإدريس الملياني ومحمد الشيخي وكلهم قريبون إلى القلب والوجدان والذوق؟ هذا فضلاً عن الرغبة في الاطلاع على الآداب الأجنبية مترجمة أو بلغتها الأصلية التي لي إلمام بها . وأما هذه الحيرة والرغبة العارمة في الاطلاع على ما لم أتمكن من الاطلاع عليه وقراءته . فحين يكون الجهد والوقت والمزاج الرائق أتناول كتاباً واحداً رواية أو دراسة ولا أتركه إلا بعد إتمامه ، ولاسيما الرواية إذا كانت من الروايات التي تأخذ بتلابيب القارىء، وإذا انتابتني حالة الضجر خاصة في هذه الأيام، وقبلَها في مدة الحجر الصحي ، أتنقل من كتاب في التراث الأدبي القديم ، فأقرأ صفحات من جزء من أجزاء الأغاني ، وأتصفح كتاب الموشح للمرزباني ، وصفحات من بعض أجزاء الخزانة للبغدادي ، وأعرج على كتاب الحيوان للجاحظ ، فأقرأ صفحات من هذا الجزء أو ذاك . وفي الليل أعود إلى بعض الأعمال السردية التي أجد فيها تسلية ومتعة ودلالات عميقة مثل بعض كتب توفيق الحكيم القصصية أذكر منها "مدرسة المغفلين" أو "مدرسة الشيطان " و" أشعب أمير الطفيليين" ، وكتب نقدية أجد في نقد أصحابها فائدة وتسلية وأفيد من لغتها الجميلة التي تدخل في إطار السهل الممتنع ومن بينها "الغربال" لميخائيل نعيمة أو "في الميزان الجديد" لمحمد مندور . هذا هو إيقاع قراءتي في الغالب إلا إذا كنت بصدد إعداد دراسة أو مقال ، فينصب الاهتمام على المتن المدروس وما يفيد من مراجع ومصادر تساعد على دراسته وتغني هذه الدراسة.

4 ـ متى أقرأ ؟
في الماضي كنت أقرأ في أوقات الفراغ من العمل وخاصة في العطل المدرسية. وكم نشتاق إليها لنتمكن من قراءة ما نهوى من كتب ومجلات. وكنتُ في الغالب في أيام العمل أسرقُ بعض الساعات أخصصها للقراءة الشخصية في أنصاف النهار الفارغة وخاصة في الفترة المسائية، و كنت لا أنام إلا إذا قرأت بعض صفحات كتاب كنت قد شرعت في قراءته. أما الآن ، فليس ثمة نظام معين للقراءة ، فقد أقرأ في الصباح إذا لم تكن ثمة مشاغل تتصل بالحياة اليومية والمعيشية ، أو في المساء إلى أن يحين وقت العشاء ، وقد تتخلل القراءة في المساء الدخول إلى مواقع التواصل في الانترنيت لقراءة ما يكتب وينشر بها من غث وسمين ، وما أكثر الغث وما أقل المفيد المجدي. أما في الليل لم أعد متعوداً على القراءة قبل النوم في الفراش. إلا إذا أصابني الأرق في بعض الليالي فألجأ إلى الكتاب أستدعي بقراءته النوم الهارب من عيوننا.

5 ـ أين أقرأ :
كان أحب مكان لي للقراءة، بعد البيت هو المقهى ، وما يزال إلى الآن حين أكون وحيداً . هي مكتبي الثاني الذي أقرأ فيه وأنا بين الناس ، لكن بعد لحظات أنسى من في المقهى ، وأنغمر في القراءة، فلا أعود أسمع أي ضجيج أو حديث يدور قريباً مني . وقد كنت أقصد مقهى شعبياً قريباً من البيت في الصباح ابتداءً من الثامنة صباحاً إلى ما بعد الثانية عشرة ، أستغلها كلها في القراءة والكتابة . هذا إذا كان حصص عملي في المساء ، أما إذا كانت في الصباح ، فكان الفترة المسائية التي تبدأ في الغالب بعد الثانية بعد الزوال إلى غاية ما بعد السادسة ، حين يبدأ بعض الأصدقاء وزملاء العمل يفدون إلى المقهى ، فأخرج للجلوس إليهم للاستراحة وتجاذب أطراف الحديث المختلفة . ولا أخفي على قارئ هذه الكلمات أنني هيأت جل رسالتي لنيل شهادة الدكتوراه في هذه المقهي، وبعض الكتابات الأخرى التي أنجزتها حول الرواية أو الشعر والتي كنت أنشر بعضها في جرائد ومجلات مغربية وعربية . وقد كتبت في ذلك المقهى البسيط الشعبي عرضاً بعنوان " البنية الإيقاعية عند المجاطي ( المعداوي ) بين التنظير والإنجاز " في ظرف أسبوع ، شاركتُ به في ندوة نظمت بكلية الآداب بعين الشق بالبيضاء صحبة الإخوة الأساتذة : إدريس الناقوري و إدريس الملياني وأحمد بوزفور . وقد تم نشر الدراسة في مجلة "الجسرة " بعد ذلك . كان المقهى وما يزال فضاء كتبت فيه العديد من كتاباتي. ولا يخفى أن المقهى كان دائما فضاء للكتابة والقراءة واللقاء بين مشاهير الأدباء سواء في المشرق أو المغرب.

عبدالجبار العلمي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى