الدكتورة نعيمة عبدالجواد - المعجزات الآسيوية تستمر؟

يقال أن زمن المعجزات قد انتهى، لكن شرق آسيا – موطئ الغرائب والعجائب- يطالع العالم بين كل فنية وآخرى بتقليد جديد يقلب العالم رأسًا على عقب؛ لانتشاره كالنار في الهشيم؛ لما يحظى به من ثقة عالمية تجعل شعوب العالم توَّاقة أن تسير على دربه. ومثال على ذلك انتشار اليوجا وفنون القتال المختلفة والمطبخ الأسيوي والمنتجات الورقية الرخيصة الثمن ذات الأشكال الرائعة، إلى غير ذلك. لكن عند التطرق للمعجزات الأسيوية لا يمكن أن نغفل كيف استطاعت اليابان أن تجعل من نفسها معجزة أسيوية وعالمية؛ حيث نهضت من دمار شامل في جميع مناحي الحياة العامة والخاصة والمرافق والبينية التحتية، بعد أن أجهزت عليها الحرب العالمية الثانية، وبالأخص بعد تدميرها مرتين بقنبلتين ذريتين، الأولى على مدينة هيروشيما في أغسطس 14 عام 1945، والتي قتلت في التو 80 مليون فرد، أعقبها إلقاء القنبلة الثانية على مدينة نجازاكي بعد ثلاثة أيام فقط، والتي قتلت أيضًا في التو نحو 40 ألف شخص، مما أجبر إمبراطور اليابان هيروهيتو Hirohito أن يعلن في خطبة تم بثها على الراديو في 15 أغسطس 1945 – أكبر وسيلة إعلامية وأكثرها وأسرعها انتشارًا في ذاك الوقت - استسلام اليابان في الحرب العالمية الثانية (دون أي قيد أو شرط)، والسبب كما صرح (تلك القنبلة الجديدة شديدة القسوة).

ولكن كما تفعل العنقاء، نهضت اليابان من الكبوة التي فُرِضَت عليها، وإذا كانت التكنولوجيا هي من تسببت في دمارها، كانت معجزة اليابان أن تجعل من التكنولوجيا عنوانًا لنهضة اقتصادية وقومية أذهلت العالم؛ حيث صارت اليابان مصنع العالم الذي يمده بمنتجات ذات جودة عالية، وقدرة تكنولوجية فائقة، وحجم متناهي في الصغر مقارنة بما هو متواجد في دول الغرب المتقدم، أما الميزة الإضافية والأكثر أهمية التي قدمتها اليابان للعالم أن كل هذه المنتجات كانت بأسعار في متناول المستهلك العادي، مما جعل شعوب العالم يقبلون على شراء المنتجات اليابانية، ويتسابق المستثمرون على شراء حصص في المشروعات اليابانية، وخاصة التكنولوجية منها. وعلى هذا فتح العالم أبوابه للشعب الياباني، سواء أكان مستثمر أو سائح، وصار اليابانيون محل ترحاب وتقدير من جميع شعوب العالم. ولقد تصدرت اليابان اقتصاد العالم في سبعينات وثمانينات القرن الماضي، أي بعد نحو ربع قرن من الزمان من خروجها مدمرة ومهلهلة من الحرب العالمية الثانية، لكنها استفادت من المساعدات الاقتصادية الأمريكية المقدمة لها، واستخدمتها بحرفية بالغة لدرجة أن اقتصادها والقيمة السوقية لأسهمها تفوقت على نظريتها في الولايات المتحدة. وفي عام 1989 صارت اليابان القوة المالية الأولى في العالم والمتحكمة في الاقتصاد العالمي، في حين تراجعت الولايات المتحدة للمركز الثاني. وبناء على ذلك تم وسم اليابان بمعجزة القرن العشرين. وهرول إليها كبارالمستثمرين من كل حدب وصوب، وعلى رأسهم المستثمرون الأمريكيون. وصار الشعب الياباني من أغنى شعوب العالم؛ وانتشر السائحون اليابانيون في جميع أنحاء الأرض يجوبون العالم، وصاروا محل ترحيب؛ بسبب ثرائهم الفاحش. وبلغت درجة الترف باليابانيين أنهم كانوا يشترون المنازل والممتلكات الفارهة في جميع أنحاء العالم، وخاصة في الولايات المتحدة، التي كانت تعاني حينئذٍ من تراجع اقتصادي مخيف؛ بسبب عدم الإقبال على منتجاتها. ومن ثمّص ازداد الشعب الأمريكي فقرًا ومعاناة.

ومن الطريف أن في عام 1987 كان الرئيس الأمريكي السابق (دونالد ترامب) -- قبل أن يصير بالطبع رئيسًا للولايات المتحدة -- يتحدث عن أهمية مواجهة الخطر الأسيوي القادم من اليابان، وعن وجوب فرض ضرائب رادعة عليها. وكانت القشة التي قصمت ظهر البعير أن في عام 1988 خسر ترامب مزادًا قائمًا على البيانو الأصلي الذي تم استخدامه في فيلم (كازابلانكا) Casablanca لصالح مشترٍ ياباني الجنسية، بالرغم من أن ترامب قد زايد بمبلغ باهظ، لكن المشتري الياباني كان لديه من العناد والمقدرة المالية التي مكنته من انتزاع البيانو من ترامب، وتحطيم أحلامه في امتلاك تلك القطعة الفنية الفريدة. وبناء على تلك الواقعة جن جنون ترامب، مما دفعه لعمل إعلان تليفزيوني مدفوع الأجر يتحدث فيه عن ضرورة فرض ضرائب على الدول التي (تخدع الولايات المتحدة) وتصدر لها منتجاتها، وتحرم السوق المحلي والمصنعين الأمريكيين من المكاسب. وأنهى ترامب إعلانه قائلًا: (ومن ثمَّ فإنه من الأحرى فرض الضرائب على هؤلاء وليس على الشعب الأمريكي، الذي بسببهم يزداد بؤسًا).

وبالفعل صارت الحالة الاقتصادية في الولايات المتحدة مذرية للغاية، ويذكر أنه في 22 سبتمبر من عام 1985 اجتمع رؤساء وزراء الخمس دول الصناعية الكبرى في ذاك الوقت، والتي كانت تسمى ب(مجموعة الخمسة) أو G5، وكانت تضم اليابان والولايات المتحدة وألمانيا وانجلترا وفرنسا، وكان مكان الاجتماع( فندق بلازا ) Plaza Hotel في الولايات المتحدة، وكان محور الاجتماع هو الاتفاق على تخفيض قيمة الدولار الأمريكي أمام الين الياباني والمارك الألماني حتى يتسنى للولايات تصدير منتجاتها لدول لعالم المختلفة؛ حتى تنقذ حالتها الاقتصادية المتدهورة. وسميهذا الاتفاق ب(اتفاق بلازا) Plaza Accord.

وبالفعل وافقت اليابان، وصار الين الياباني ذو قيمة عالية في مقابل الدولار، وأخذ اليابانيون ينعمون بجميع مظاهر الترف؛ لأن عملتَهم تمكِّنهم من ذلك. بيد أن في المقابل صارت المنتجات التكنولوجية اليابانية عالية الجودة ليست في متناول الجميع كما كان الحال من قبل، وأخذت المنتجات تتراكم في الأسواق اليابانية ولا تجد من يقبل عليها، مما دفع المصنعين إلى تخفيض معدلات الانتاج. أضف إلى ذلك أخذت الأسهم الاستثمارية في اليابان في التراجع، ثمَّ الانهيار بعد أن تدافع المستثمرون الأمريكيون على بيع أسهمهم لاستبدالها بالأسهم الوطنية والاستفادة من سعر الين الياباني ذو القيمة العالية في مقابل الدولار الأمريكي. ونجم عن ذلك سقطة اقتصادية كبرى في اليابان سميت ب (الفقاعة الاقتصادية)، والتي بدأت منذ عام 1990 واستمرت حتى منتصف 1991، وطالت آثارها جميع أطياف الشعب الياباني الذي صار غير قادرًا على رد الأموال التي اقترضها من البنوك لعدم وجود عائد ثابت، ووجد اليابانيون أنفسهم مجبرين على التخلي عن حياة الترف التي نعموا بها، وعلى بيع العقارات التي امتلكوها في الولايات المتحدة، وعلى بيع الأسهم التي استثمروا فيها أموالهم، وكل ذلك من أجل تسديد ما اقترضوه من البنوك. وخرج الاقتصاد الياباني والشعب الياباني من (الفقاعة الاقتصادية) خاسرًا. وبذلك انتهت المعجزة اليابانية نهاية مأساوية، ولم يسمع العالم منذ ذاك الحين عن عودة اليابان؛ فكلما حاولت النهوض من كبوة، تلاحقها أخرى تقضي على محاولاتها الدؤوبة للرجوع لمكانتها الاقتصادية مرة أخرى.

ومن الغريب أن الصين تسير تمامًا على نفس خطى اليابان؛ فلقد قدمت نفسها للسوق الاقتصادي العالمي كَمُصَنِّع لمنتجات رخيصة وفي متناول يد المستهلك العادي، وأغرقت منتجاتها الأسواق العالمية، وبسببها أيضًا قد تأذَّى الاقتصاد الأمريكي، لدرجة أنه تراجع للمرتبة الثانية بعد الصين. ومن الطريف حقًا، أن دونالد ترامب في عهد الازدهار الاقتصادي الصيني كان رئيسًا للولايات المتحدة – وليس مجرد رجل أعمال مرموق كما كان عند ازدهار اليابان. وعلى هذا صار لديه السلطة التشريعية والتنفيذية لفرض عقوبات اقتصادية على الصين، وهو نفس المشروع الذي ألح على تشريعه في ثمانينات القرن الماضي، ولم يستمع له المسئولون. وكما كان الحال بالنسبة للشعب الياباني في ثمانينات القرن العشرين، يرفل الآن الشعب الصيني في حياة من الترف. لقد صارت الصين بكل المقاييس المعجزة الاقتصادية للقرن الواحد والعشرين، وبالتأكيد ليس من المنتظر أن تكرر نفس غلطة اليابان بالموافقة على (اتفاقية بلازا)أخرى؛ لأنها تعي الدرس تمامًا. لكن هل من المقدر أن تستمر الصين ومعجزتها الاقتصادية أم ستلاقي نفس مصير اليابان، ومن بعدها ما حدث للنمور الأسيوية؟



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى