سفيان صلاح هلال - الملحد الثقافي

بدا متميزًا في السوق، هو الوحيد الذي لا يلبس كمامة رغم التشديد على الإجراءات الاحترازية مقاومة لداء كورنا المستجد، منظره غريب الأطوار تشعر أنه أحول، ورغم دقة أنفه فشكل فمه يشبه فاه زنجيٍّ يحتاج تقويم فم وأسنان. قابلني أثناء التسوق يرتدي بيجامة وشبشب، وكأنه يتمشى بين الصالة وغرفة النوم، انخرط مُسَلِّما عليّ وهو يتساءل مستنكرًا
- حضرتك، ما تعرفنيش؟
- لا، والله،
قدَّمَ نفسه لي باسمه مسبوقا بلقب أنا الكاتب، رحبت به رغم عدم معرفتي به، أو السماع باسمه من قبل، لكنه أبدى حزنه مني قائلا
- على فكرة أنا زعلان منك؟
- ليه لا سمح الله؟
- حضرتك عمرك ما جبت سيرتي
- وهاجيب سرتك ليه بعد الشر؟
- كيف لا تذكرني في دراسة أو مقالة أو تستشهد بإبداعي؟ هذا تقصير منك يحسب ضدك
- حضرتك بتيجي الثقافة؟
- أنا لا أؤمن بالثقافة ولا بمن يذهبون إليها من أصحاب الشلل والإدعياء
- حضرتك بتطلع في وسائل الإعلام المسموعة والمرئية؟
- أنا لا أؤمن بهذه الوسائل الموجهة التي ضيعت وقت الناس
- حضرتك طبعت كتاب أو تنشر في الجرائد والمجلات؟
- أنا لا أؤمن بهذه الأوساط التي صارت مضللة تنشر بالكوسة
- طب سيادك هنعرفك إزاي وبتكتب لمين؟ إذا كنت تكفر بكل وسائل التواصل وكلها عيوب.
- مهمتك كناقد ومثقف هي البحث
- يعني ندور نفتش في أدراج الناس في البيوت؟
- طيب حضرتك كراجل مثقف المفروض تلبس كمامة
- أنا لا أؤمن بكورونا واللي بيموتوا دا أجلهم
هدأ قليلا وطلب مني أن نفتح صفحة جديدة بعدما أقنعته أن صاحب الرسالة لا بد أن يدعو لرسالته بكل الوسائل. وافترقنا على وعد منه أن يحضر ندوة قصر الثقافة، ويعرض على الناس إنتاجه ويسمع آراءهم. مرت فترة ليست قليلة وفي لحظة لم يخطر على بالي أنه سيزورني،
ضرب جرس الباب، حين فتحته فوجئت به يبادرني بالسلام والعناق ويحكي لي عن قصة بحثه وتقصيه حتى يصل إليّ، أدخلته "المندرة" وطلبت شايا، وما إن جلسنا أخرج دفترا وبدأ يقرأ، لا أعرف لماذ تخيلت رأسه وقتها على أنها قادوس طاحونة يخر كلاما لا يتلقاه في وعاء معين! استثمرت وصول الشاي وأوقفته ليتناوله، ثم بدأت أسأله
- حضرتك، بتكتب إيه بالظبط؟
- أنا لا أؤمن بالأشكال؟
- طب حضرتك قريت إيه لمين
- أنا لا أؤمن إلا بي
حقيقة لم أستطع أن أعلق على ضيفي المؤمن بنفسه في بيتنا! ولم أستطع أن أمدحه فأنا لم أفهم شيئا! فقلت له: بعد كورنا ستعود فاعليات نادي الأدب، وهناك سيكون الحوار أعمق وأعم وأشمل، وتماشيت معه حتى مضى.
مرت فترة ليست قليلة وكنت نسيت الرجل وما دار بيننا.
ومضت زوبعة كورنا الكبرى وتخلى الناس عن الكمامات، وفي يوم قابلت رجلا يرتدي زيًّا كاملا وكمامة! ويبدو على عينيه أنهما حولتان ، قابلني في السوق، يكلم نفسه ويرسم بيديه في الهواء، وينش بمنشة من الليف أشياء لاترى، ما إن رآني انخرط مسلما عليّ وعرفني بنفسه فتذكرته. سألته عن مصير إنتاجه الأدبي، ولماذا لم يأتنا في قصر الثقافة؟ أو نرى له ولو صفحة على الفيس بوك. سألني
- مستنكرا وهل يسمع أحد أحدا في هذه البلاد؟
- ولم لا؟
- ما كنت تغرمت بأربعة آلاف لأني نسيت الكمامة، ولم تشفع لي شكاوايا المكتوبة وبراهيني الممهورة أني لا أملك، فظللت مسجونا حتى استدنت وسددت.
- هذا لايمنع أن تكتب
صمت كثيرا قبل أن يقول بحسرة أنا لا أؤمن بالقراءة والكتابة.



1613496330784.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى