د. عادل الأسطة - ولدتُ هنا.. ولدتُ هناك

على صفحات أيام الثقافة قرأت جزءاً من كتاب مريد البرغوثي: ولدتُ هنا.. ولدتُ هناك (أيار 2009) الصادر عن دار رياض الريس، كنت أنجزت مقالة نقدية عن قصيدة ابن الشاعر، تميم، المعروفة وذائعة الصيت، والتبس الامر علي فوقعت في خطأ أزاله ما كتبه مريد عن قبة الصخرة مثمنة الاضلاع. لقد اكتشفت أنني لا أعرف القدس جيداً، إذ تساءلت: ما الذي يقصده تميم بقوله: مثمنة الأضلاع، وذهب تفكيري الى أبواب القدس السبعة.
سأفيد مما قرأته على صفحات أيام الثقافة وسأعجب وأسحر بنثر مريد، وسأنتظر الكتاب لأقرأه كاملاً، وحين أزور مكتبة الشروق في رام الله في ايلول سأسأل عنه وسأعرف انه محجوز على الجسر لفترة، وحين ينتهي الحجز ستحضره لي احدى طالباتي، وما إن امتلكته حتى قرأته كاملاً، هل أقول إنه راق لي اكثر مما راقت لي اشعار الشاعر الاخيرة، علماً بأن أشعاره الاولى كانت تروق لي بخاصة ديوانه "قصائد الرصيف" (1980) ومطولته "طال الشتات" (1982).
سأقرأ مراجعة سريعة عابرة للكتاب أنجزها، إن لم تخني الذاكرة، الكاتب اسكندر حبش ناقش فيها توجه مريد الى النثر، هو الذي اصدر غير ديوان، عبر ثلاثين سنة، قبل ان يكتب "رأيت رام الله" (1998) وسيقول اسكندر ان النثر حقق لمريد شهرة وانتشاراً، فقد ترجم "رأيت رام الله" الى لغات عديدة، وطبع طبعات عديدة لم يحظ بمثلها اي ديوان من دواوين الشاعر، وحاز صاحبه بسببه على جائزة نجيب محفوظ ايضاً.
هل "رأيت رام الله"، و "ولدتُ هنا.. ولدتُ هناك" سيرة ذاتية لمريد ولهذا جاءت كتابتهما متأخرة؟ هل تأثر مريد بما أخذ يشيع مؤخراً من أن زمننا هو زمن النثر لا زمن الشعر؟ هل قرأ كتاب د. جابر عصفور: زمن الرواية؟ هو الذي قال ان قصيدة ابنه تميم: "في القدس" حققت له من الشهرة الكثير؟ هل اخذ الشعر يضيق عن استيعاب تجارب الشاعر، فأفرغها في كتابين نثريين؟ أسئلة يثيرها من يقرأ نصوص مريد الشعرية والنثرية.
وأنا أقرأ "ولدتُ هنا.. ولدتُ هناك" لم التفت الى العنوان جيداً، وهكذا لم ألاحظ الضمة على ضمير الرفع المتحرك المتصل بالفعل المبني للمجهول وُلِدَ.. ولم اعد الى العنوان لأقرأه من جديد إلا بعد قراءة أكثر صفحات الكتاب؟ لماذا عدت الى العنوان بعد قراءة اكثر صفحات الكتاب؟
يروي مريد في كتابه الجديد، كما روى في كتابه "رأيت رام الله" قصة حياته في قريته دير غسانة وفي مدينته الاولى رام الله وفي المدن التي عاش فيها لاحقاً: القاهرة وغيرها من عواصم الدول الاشتراكية. ويأتي في اثناء هذا كله على دراسته وزواجه وولادة ابنه تميم، وسيفيض في الكتابة عن ابنه افاضة كبيرة، حتى ليتساءل المرء: هل الكتاب سيرة لمريد أم سيرة لتميم؟ وهل التاء في الجملة ولدت هي ضمير الرفع ام ضمير المخاطب؟ هل يكتب مريد عن نفسه ام انه يخاطب ابنه؟ وربما تذكر المرء المثل العربي القديم: كل فتاة بأبيها معجبة، ليحور فيه: كل أب بابنه معجب، ومريد معجب بتميم، ولنغبطه على حبه لابنه، ونأمل أن يكون الابن يحب أباه بالمثل.
"ولدتُ هنا.. ولدتُ هناك" سيرة حياة مثقف فلسطيني وجد نفسه شريداً طريداً منذ العام 1948صحيح ان قريته دير غسانة لم تحتل في العام 1948ولكن مريد الطفل كان مع امه وأبيه في ذلك العام في مدن فلسطين التي احتلت، مثل كثيرين من ابناء نابلس ورام الله الذين اقاموا في يافا وحيفا، وهكذا تشرد هؤلاء وغدوا لاجئين او عاشوا رحلة اللجوء. وستأتي حرب العام 1967لتبعده عن وطنه او ما تبقى منه في العام 1948فقد كان ابان حزيران في القاهرة طالبا في جامعتها، ولن يعود الى دير غسانة الا بعد اتفاق (أوسلو) (1994). وربما تذكر المرء وهو يقرأ: "ولدتُ هنا.. ولدتُ هناك" قصيدة مريد: "طال الشتات" التي منها:
طال الشتات وعانت خطونا المدن وأنت تمعن بعداً أيها الوطن
كأن عشقك ركض نحو تهلكة ونحن نركض لا نبطي ولا نهن
يقول من لم يجرب ما نكابده كأن أجملهم بالموت قد فتنوا
ولو حكى الموت بالفصحى لصاح بنا كفى ازدحاماً على كفيّ واتزنوا.
و "ولدتُ هنا.. ولدتُ هناك" مهم أيضاً لمن يريد ان يكتب عن تجربة مريد الشعرية الاخيرة، ففيه صفحات عن ولادة قصائده التي نشرها في مجموعاته الثلاث الاخيرة التي لم تصلنا، وهي قصائد، كما يتضح من ايراد مقاطع منها في الكتاب، تختلف عن أشعاره الاولى اختلافاً بيناً واضحاً. سوف تتراجع غنائية مريد التي تميز بها، ليتقدم الحكيم فيها على الشاعر، الحكيم والمتأمل.
وسأسأل نفسي بعد قراءة هذا الكتاب الممتع: ماذا ترك مريد لابنه تميم اذا ما قرر الاخير كتابة سيرته ذات يوم؟ وسأقول أيضاً: كان كنفاني يرى فلسطين بداية العالم ونهايته، ولعل مريد يرى في دير غسانة - قريته - بداية العالم ونهايته، فقد نشأ فيها وظل يعود اليها، ولم يستطع ان ينساها.

بعيداً عن السياق:
عمال النظافة
الخميس مساء، الاول من تشرين، أجلس ليلاً على شرفة تطل على دوار المدينة أتأمل في المكان والناس، الشرفة لمقهى كان قبل سنوات، ولسنوات طويلة، معرض خياطة لأحد الرفاق - احد الرفاق لأنه رفيق في حزب يساري، وقد تعرفت اليه منذ العام 1967تقريباً، حين كان نشيطاً يوزع منشورات الحزب ويدافع عنه في الحافلة وفي الشارع، وحين كان يشارك في العمل التطوعي، ولعله ما زال على افكاره كما كان، وأنا لا افشي سراً حين اكتب هذا، فهو يجاهر به ولا يخجل من ماضيه، ولعله ما زال يحن الى شبابه وشباب الاتحاد السوفياتي.
الخميس مساء أتأمل دوار المدينة وحركة الناس فيه وأنظر الى المباني المضاءة، الجو جميل ولطيف، ولا اجمل، وربما كان في اعتداله من اجمل ايام العام، في المقهى ثمة اصوات ترتفع يطلقها لاعبو اوراق الشدة، ويبددون، مثلي، جزءاً من وقت الليل الذي اخذ يطول هذه الايام، فيشبه عمرنا الذي بدا منذ العام 1948ليلاً طويلاً. ليل فلسطين الطويل. ليل الضفة الطويل، ليل العرب الطويل، ليل العراق الطويل، ليل الفقر الطويل، حصار غزة الطويل.
الخميس مساء، في السابعة المدينة هادئة من صخب النهار، المدينة فارغة شوارعها الا من بعض عشرات، اين هي من ليلة العيد، وليالي رمضان العشر الاخيرة؟ لا مجال للمقارنة، كأنما أنفق الناس راتب أيلول وعليهم أن يقبعوا في بيوتهم توفيراً للنفقات حتى ينتهي تشرين، مرة قال لي موظف في الجريدة ان التجار ايضاً لا يحبون شهر ما بعد العيد، تموت الحركة التجارية شهراً شهراً ونصف الشهر.
الخميس مساء أتذكر قصيدة محمود درويش: "إن مشيت على شارع" التي تتلوها قصيدة "مقهى، وأنت مع الجريدة" وقد وردتا في ديوان "كزهر اللوز أو أبعد" (2005)، سأرى، وأنا في المقهى، بلا جريدة، عمال النظافة وسيارتهم التابعة لبلدية نابلس ينظفون شوارع المدينة، مما امتلأت به منذ الصباح. وسأقول: كيف ستغدو حياتنا بلا هؤلاء، اليس المجد لهم أيضاً؟ وحين أعود الى منزلي أتناول ديوان درويش لأقرأ فيه:
إن مشيت على شارع لا يؤدي الى حاوية
قل لمن يجمعون القمامة: شكراً!
ومن بعيد سأقول لمن يجمعون القمامة: شكراً.



عادل الأسطة

2009-10-04

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى