عمار الثويني - الروائي روح المجتمع وصرخته الجريئة

أتفاجأ، شاعراً بالدهشة، حينما أطالع قراءة أو نقداً لرواية ما، أن يطرح صاحب الدراسة على طاولة النقاش أفكار الكاتب وآرائه وتوجهاته ونظرته إلى الحياة ويعرضها على إنها مآخذ أو أخلال بهذا العمل، لكأن الكاتب غير ملتفت لمثل هذه الأمور وكان عليه أخذها بالاعتبار قبل اصدار العمل. وهذا الرأي للأسف أقرأه في بعض المقالات النقدية والقراءات والردود والتعقيبات المتداولة في المدونات والمواقع والصفحات المختصة بالرواية، وهي الملاحظات التي ستكرر لنشاهدها بين أوان وآخر منشورة أو متشافهة تتردد على ألسنة الكثيرين أو ربما تدور في بالهم دون رغبة بطرحها وإثارتها. هي طروحات ينقصها الكثير من الفهم للرواية كفن أدبي جمالي من نسج خيال الكاتب مكاناً وشخوصاً وزماناً وأحداثاً حتى لو تشابهت وتقاطعت مع نظيراتها الواقعية أو اتخذت منها منطلقاً للعمل. وأود أن أشير هنا إلى جملة من الملاحظات التي يمكن أخذها في الاعتبار لما يتعلق بالرواية كعمل فني بحت:
• الروائي ابن المجتمع ولسان حاله وصوته الجريء والفنان القادر على "إعادة تدوير" أشخاص وأماكن وأحداث سواء كانت حقيقية أم تخيلية إلى نماذج خالدة تعيش في مملكة السرد والحكاية الطويلة والأحداث الشيقة. هو ذلك الشخص الذي يجعل من شرائح المجتمع وأفراده بكل من فيهم، الجيد والسيء والصالح والطالح والشيخ والعجوز والمرأة والشاب والطفل، أبطالاً وشخصيات مهمة تتحرك في فضاء زماني ومكاني مرسوم بدقة يوازي الواقع المعاش وحتى يتقاطع معه أحياناً. ليس من المطلوب من الكاتب أن يظهر القاتل دائماً بصورة بشعة ولا السارق بصورة الانسان المتسافل ولا رجل الأعمال الناجح أو الطبيب بصورة النبيل لأن هذه هي الصور المطبوعة في فكر الكثيرين وتصوراتهم.
• ليس ثمة رواية أو روائي يهدف إلى افساد المجتمع حتى لو صور مجتمعه بأنه بؤرة من الفساد والانحلال. لن نسمع برواية إنها أحدث ثورة اجتماعية أو فكرية أو قلبت مفاهيم وثوابت المجتمع بقدر ما حببت القراءة والمطالعة وتوسعة الخيال لدى شرائح المجتمع. بل على العكس، كان الروائيون، خاصة في مجتمعاتنا، ضحايا للنقد والتهديد والوعيد والتقريع. ما حصل للكتاب العالمي النوبلي نجيب محفوظ من محاولة طعن وقبلها للكاتب الهندي سليمان رشدي بالفتوى الشهيرة (التي أتوقع إنها لم تكن تصدر لو كان اسم الرواية "آيات شيطانية" غير هذا العنوان) خير دليل على إن الروائيين هم الضحايا وليس العكس.
• عليكم بالرواية لا الروائي، واتركوا توجهاته الفكرية والدينية والنفسية والاجتماعية لأنها أمور تخصه وحده ومملكته الذاتية التي لا يريد لأي أحد أن يتطفل عليها أو يسأل عنها. ليس ثمة أحب إلى الروائي من أن يجري التعامل مع روايته على إنها "نص أدبي" ونقدها فنياً فقط من باب نجاحه في البناء السردي ورسم الشخصيات وتطور الأحداث. هو يتقبل النقد برحابة صدر لو أظهر اخلالاً أو ترهلاً في السرد أو ربطاً غير متناسق في الأحداث. وفي المقبل، فليس ثمة أكره على الروائي أن يتنقد لكونه صاحب موقف سلبي تجاه فئة معينة من المجتمع من خلال الحوارات التي تخللها العمل وتسب وتعلن مثل هؤلاء.
• عندما يسرد الروائي عمله بصيغة الأنا وحتى لو استخدم اسمه هو في العمل الذي يبدو للقارئ أنه سيرة ذاتية، فإن هذا الأمر لا يعني بالضرورة سرد مطابق للواقع إلا اذا أشار الكاتب لذلك (والأحرى تصنيفها ضمن أدب السيرة الشخصية الروائية). حتى في أدب السيرة، ثمة هامش للخيال الذي يضفيه الكاتب على العمل.
• الرواية لا تخضع لمعايير المعقول وغير المعقول، الممكن والمستحيل، المقبول وغير المقبول، في أغلب الأحايين، فليست هذه المعايير المقياس لقبول الاحداث والتفاعل مع النص الروائي أو لنجاح الكاتب لأن ذلك يحجر العقل وينحر الخيال ويقتل الابداع ويجعل من الرواية كفن خيالي عديمة اللون والطعم والرائحة ومضيعة للوقت، وتتحول إلى تقرير صحافي ليس أكثر. روايات الخيال العلمي والواقعية السحرية لا تخضع لقوانين الحياة اليومية والجاذبية الأرضية وتطور الزمن وكل المفاهيم المسلم بها ولكنها قدمت نماذج مشرفة من الأعمال التي حازت بعضها على جائزة نوبل للآدب.
• ليس المطلوب من الكاتب أن يواكب و"يجامل" التوجه العام وأن يسرد ما يروق للشريحة الأكبر من مجتمعه الذي تنقصه الجرأة ويعيش حالة "نقاق" سرعان ما ينفي ما قاله بمجرد تدوين ذلك على الورق. هي آراؤه التي يعرضها في هذا العمل وليس شرطاً في الوقت ذاته أن يؤمن بها، فعندما يصور الروائي رجل دين لا يتورع عن ارتكاب أشياء يربأ منها العقل فليس هذا معناه إن له موقفاً تجاه المتدينين، وليس المطلوب أيضاً من الكاتب أن يبرر أو يوثق هذه الحالة من أرض الواقع. وعندما يصور كاتب ما المجتمع بأنه ملائكة وكاتب آخر بأنهم شياطين ليس هذا بالضرورة رؤية الكاتب الحقيقي في كلتا الحالتين وليس المطلوب نقد أو مدح أي واحد منها بقدر التعامل مع هذه الرؤية في إطار عمل روائي فني بحت انتهى مع مطالعة آخر صفحة فيه.
• الرواية ليست تقريراً لقناة فضائية أو وسائل الاعلام الأُخر معروفة الأهداف والغايات، والكوادر التي تعمل فيها تخضع لعملية "غسل دماغ" فكري وعقلي وانساني ومبادئي لتتحدث باللغة ذاتها والنفس عينه والتوجهات السياسية ذاتها كونهم موظفين مأجورين من جانب صاحب المؤسسة وإن أي "خروج عن النص" من المحرمات يلقى بصاحبه خارج هذه المؤسسات. هي عمل فردي شخصي كما أسلفت تجسد توجهات ورؤية وتصور الكاتب وفقاً للخيال الذي رسمه للعمل وشخوصه العديدين الذين يمثلون شرائح مختلفة من المجتمع على الصعيد النفسي والوظيفي والعمري والمكانة الاجتماعية. فالكاتب "رب" هذه الشخصيات (ربوبية العمل لا الربوبية المطلقة) وهو الذي يرسم لها المسارات كما يريد. فعلى الناقد أن يأخذ في الاعتبار هذا الجانب وألا يترك "العنب ويشتغل على السلال".
• الرواية كعمل ابداعي خيالي تخييلي ليست كتاب فقه يحدد الحلال والحرام والمستحب والمكروه والمباح ولا كتاب رياضيات أو تجربة مخبرية يجب أن تصل لنتيجة واحدة وأي حل/نتيجة مخالفة هي "خطأ" ولا كتاب قانون مكتوب بلغة خاصة لا تقبل التأويل والتفسير وتخضع لعشرات المرات من إعادة القراءة والتمحيص والتدقيق كي لا تفسر بأي شكل آخر حتى من بعيد جداً، وليست أيضاً كتاب عِبَر يجب أن ينتصر الخير فيه على الشر في خاتمة المطاف. عندما يعرض الكاتب على لسان شخصياته موقفاً من قضية ما حتى لو كانت قضية وطنية أو اجتماعية، ليس بالضرورة أن يكون هو صاحب هذا الرأي، بل هو الواقع المحكي في المقاهي والبيوت والشوارع والدوائر والمؤسسات التي تحتضن حوار الشخصيات. ما بين اللونين الأسود والأبيض مئات الألوان المتدرجة فلو وقفت شخصية في عمل روائي في أقصى اليمين أو أقصى اليسار أو في أي من التدرجات فإنها غير ملامة في ذلك ولا يصح نقدها والانتقاص من الكاتب. نعم القضايا الإنسانية وتلميع الطغاة وتحقير الآخر هي من المحرمات إذا ما أظهرت توجه الكاتب الحقيقي وميله لمثل هذه المواقف باعتبار الرواية عملاً "إنسانيا"، والإنسانية تسمو على كل معيار الآخر مثل الوطن والدين والعشيرة.
اقرأ المزيد على الرابط : الروائي روح المجتمع وصرخته الجريئة (iraqpalm.com)



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى