شيء ما ثابتٌ في الهواء الذي تتنفسه البنت، التي خرجت من بيتها لمحطة القطار،
شيءٌ ما ثابتٌ في البال والذكرى وحتى في الهواء قبيل مواعيدنا مع من نحب.
قالت البنتُ لنفسها: سوف يأتي محملًا بالهدايا.
ثم قالت: سأطير بأي شيء منه، ولو كانت وردة وحيدة.
الرائحة التي تتنفسها بينما تمشي كانت رائحة العشب، رائحة أكثر لقاءاتِهما احتشادًا بالحب، كانا يجلسان في حديقة عامة، لكنه لم يمانع جعلها تتوسد فخذه بينما يقرأ لها فصلًا من رواية تحبها، كانت تستمع ولا تستمع، تشغلها بحة صوته، وتنومها مثل كرسي هزاز، رائحة العشب كانت تغمر مسامها وتفيض، حتى ضحكت لفكرة أنها ستكتسب هذه الرائحة وتكتسب حتى.. لونَ العشب يصعدُ من قدميها الموضوعتين في العشب كما لو أنهما ملقاتان هنا أو نسيهما أحد، إلى قلبها، ضحكت للفكرة ومررتها له، فلم يغضبه كونها لا تصغي، بل وضع الكتاب ببطء وتأملا معًا في الخضرة حتى ذهبا إلى أبعد معانيها في المجاز، ثم ذهبا مشيًا إلى القطار، فغادر كلٌ إلى وجهته.
الذكرى في بالها ذهبت للقاء آخر، لقاء حمل شجارًا، ولكنها الآن تبتسم، فقد كانت تصنع شجارات مشابهة لتجعله يغمرها بالحب وهو يحاول استعادة رضاها، تتصنع الغضبَ بينما قلبها راضٍ تمامًا، وتخفي ابتساماتها من تذلـله تحت وجه غاضب تفشل في المحافظة عليه، ثم ترضى في النهاية، الآن تبتسم، حتى تنتبه لها سيدة في معطف شتوي قذر وهيأة رثة، فوق رأسها سحائبُ من النكد اليومي، ومكابدة الحياة، تنظر لها في لمحة وتكشر، يدور في بالها أن هذه الصبية الساذجة، لا بد وأنها ستبكي قريبًا.
قلبها يضطرم بالشوق، وقد اقترب موعد القطار، تخرج هاتفها ثم تعيده، تقول لنفسها لن أكثر عليه من السؤال، حين يأتي سيجد شوقي طازجًا، وسأسكبُه كلَّه في عناق.
ترفعه عينيها فإذ بالمرأة تنظر إليها، تميز البنت شيئًا يخــيفها في تلك النظرة، تشعر بشيء يهدد أمانها لكنها تنصرف عن ذلك بالتفكير في لقاء حبيبها، تتخيل لقاءهما المرتقب للمرة الألف، إنهما شهران من الغياب، ستون ليلًا تبدو لها سرمدية حتى تسقط في النوم، ستون نهارًا مليئًا بالإزعاج وبكل الناس، كلهم عداه، ربما حدثها لدقائق أو تحدثا بالرسائل، لكن ما الذي تغني عنه الرسائل، الاتصال اتصال العينين، حين أشعر من عينيه أنه مشتاق، وأنه ضعيف أمام هذا الشوق، ويسقط عنه تدريجيًا معطفه للصلابة والحزم، قناع الرجولة الذي يخبئ ولدًا عاطفيًا ربما بكى لذكرى مرت بباله، ثم حين يرحل يتناول معاطفه كلها ويبعثرها فوق جسده ويستعيد وجهه للعالم.
تبتسم ومقلتاها الآن حقيبتا دموع، تفكر أنها ستسمح لدموعها أن تجري حين تراه، لن تحجبها بيديها أو تدعي أنها لم تبكِ، ستسمح له بالشعور أن هذا الغياب أرهقها وأنها تبكي كطفلة ترغبُ غرضًا بشدة وتبكي لأجل هذا، ثم لم تنقطع عن البكاء حتى بعدما صار الغرض في يدها، وسيصير هو أبًا دفعةً واحدة، صعودًا من ولد عاطفي.
تنظر نحو ساعتها فإذ بالموعد قد حان، تنهض، تبتاع علكة وكوب شاي تخفف به هذا البرد الشديد الذي اجتاحها، مشردٌ ينظر إليها فقط، فتعطيه الكوب وتشتري واحدًا جديدًا، يطير هو من الفرح، السيدة ذات المعطف القذر تفترش أرضية المحطة، تضع ملاءة وترص عليها لعب أطفال وحلوى وجوارب نسائية وبضائع أخرى غير مترابطة، تنظر إليها البنتُ وتستغرب بضاعتها، لكنها بعد نفس عميق تشعر بالرضى، تقول أن هذه الحياة ما زالت باعثة على الأمل ما دامت هذه السيدة تسعى عنيدةً إلى رزقها، تتناول كوبها بهدوء بينما الهواء البارد الخارج من أنفها يتداخل مع بخار الشاي.
مضت ربع ساعة ولما يأتي القطار، تنظر البنت نحو الفضاء ثم إلى ساعتها، تلتقي عيناها بعيون مودعين ومستقبلين كانوا معها في المكان، وبعيني المرأة والمشرد من جديد، المرأة بذات النظرة المخيفة والمشرد بنظرة التسول تلك.
تبحث عن شيء تبدد به الوقت، تنهض وتشتري من المرأة عددًا كبيرا من الحلوى بمبلغ زهيد، وتوزعه للأطفال في المكان، أبٌ يشكرها عن فرحة أطفاله الستة، وعائلة تبتسم لها امتنانًا عن فرحة طفلها المعاق، وطفلة مع كلبها تضع الحلوى في جيبها وتهرول مسرعة نحو والدتها، تعود هي راضية إلى مقعدها، تتابعها المرأة بنظرها، تشعر بالضيق لكنها تختار أن تبتسم لها علَّ كل هذه التجاعيد التي في وجهها تلين، ولكنها لا تفعل.
تصرف عنها النظر وتذهب نحو مراقب القطار، لتستفسر عن الرحلة التي تأخرت، يخبرها بلطف أنها قادمة بعد قليل، لا يحدد كم هو القليل بوحدة الدقائق، لكنها تأخذ إجابته وترحل، وجوابًا عن القلق في وجهها يقول لها كما قال بالأمس ومنذ أيام كثيرةٍ خلت: أتمنى أن يعود أحبابك بالسلامة.
تشعر بالرضى مثل معطف دافئ حول قلبها، وتنصرف.
تحت نظر السيدة التي تشعر نحوها بالتهديد، تجلس البنتُ إلى مقعدها للانتظار.
تشعر بسكة القطار تهتز، وبصوته يقترب، تطير من فرحتها، تفكر سريعًا في المقهى الذي سوف يذهبان إليه، سيتناول قهوته سادة غير محلاة، وستتبع كأس الشاي الأول بآخر، ترتبك حتى مع عدم وجود سبب واضح للارتباك، تتبعثر وتسقط أشياءها، تخرج مرآة صغيرة، وتنظر لوجهها، هي هي، سوف يقول لها أنها على حالها، ويكون هذا في معنى أنها جميلة، وسيأخذها بالحضن، ويشم شعرها، وسيهرولان نحو المقهى ويتدفئان بالشاي والفطائر والحكايات.
تمسد شعرها آخر مرة، وتضع عطرها وحين تنتهي سيكون باب القطار قد انفتح في وجهها مباشرة، أمواجُ الناس ستدفعها وهي تنزل لا نهائية من قطار لا نهائي السعةِ يبدو كأنه!
تحاول الخروج من ازدحام المسافرين وأهلهم لتراه، تبحث في المعاطف السوداء والرجال طوال القامة عن شاب كثيف الشعر واسع العينين، ولكنه لا يأتي، تنظر خلال المساحات الصغيرة بين عبور شخص وآخرَ إلى المرأة وهي تبيع حاجياتها، وجهها لين وقد انبسطت ملامحها، حتى أن البنت لوهلة تنسى قلقها على حبيبها وتتملى جمال المرأة، التي بدا أنها ليست قذرة المعطف إلى هذا الحد!
لكن قلقها سرعان ما يستعيدها من اللحظة.
محطة القطار تفرغ تدريجيًا، تنظر البنت نحو هاتفها، وهي تنتظر مكالمة واردة عقب ست مكالمة صادرة لم يجب عنها، ربما هو آتٍ في الرحلة القادمة، تقول لنفسها عبثًا وتتملى في الأمل، لكنها تعلم أن لا رحلة قادمة في القريب سوف تحمله على متنها.
هو لم يجب منذ أشهر على رسائلها، صحيح أنه أخبرها أن الحياة تضعهما على مفترق طرق لكنها فسرَّت ذلك على أنه سيختار طريقًا معها، حتى إن هو لم يشر بذلك، هو لم يخبرها أنه سيعود، لكن ذلك القطار يزور المدينة مرتين في الأسبوع، فما ضر لو انتظرت؟ ماذا لو أتى ووجدها هناك؟!
تنظر للمرأة وهي توشك على البكاء، فتشير المرأة برأسها كحوقلة، لقد ملَّت هذا المشهد واحتقرت في داخلها هموم البنت وربما ظنت في سرها أن البنت مجنونة. تنظر للمشرد فينظر لها نظرتَه للتسول لكنه يفشل من جديد في استدرار عطفها، تنظر لمراقب القطار فيبتسم لها ابتسامة اعتذار.
تنهار باكية، تقول لنفسها لو لم يأت اليوم فلن يأتِ، يمر مسنٌ من جانب البنت التي تبكي كما لو فقدت عزيزًا، أو ربما هي البنتُ التي تبكي لفقدان عزيز، يضع يده على كتفها ويسأل برفق: ما بك يا بنتي؟ ما الذي حدث؟!
تنادي عليه المرأة التي اعتادت على مدى أسابيع هذا المشهد، وهي تستعجله: لا شيء يا سيدي، لا شيء طارئ أو مزعج، إنها الحياةُ فقط، تعال لتشتري من عندي أفخر أنواع السجائر، لدي أيضًا جوارب نسائية وكتب ولُعَب أطفال...!
شيءٌ ما ثابتٌ في البال والذكرى وحتى في الهواء قبيل مواعيدنا مع من نحب.
قالت البنتُ لنفسها: سوف يأتي محملًا بالهدايا.
ثم قالت: سأطير بأي شيء منه، ولو كانت وردة وحيدة.
الرائحة التي تتنفسها بينما تمشي كانت رائحة العشب، رائحة أكثر لقاءاتِهما احتشادًا بالحب، كانا يجلسان في حديقة عامة، لكنه لم يمانع جعلها تتوسد فخذه بينما يقرأ لها فصلًا من رواية تحبها، كانت تستمع ولا تستمع، تشغلها بحة صوته، وتنومها مثل كرسي هزاز، رائحة العشب كانت تغمر مسامها وتفيض، حتى ضحكت لفكرة أنها ستكتسب هذه الرائحة وتكتسب حتى.. لونَ العشب يصعدُ من قدميها الموضوعتين في العشب كما لو أنهما ملقاتان هنا أو نسيهما أحد، إلى قلبها، ضحكت للفكرة ومررتها له، فلم يغضبه كونها لا تصغي، بل وضع الكتاب ببطء وتأملا معًا في الخضرة حتى ذهبا إلى أبعد معانيها في المجاز، ثم ذهبا مشيًا إلى القطار، فغادر كلٌ إلى وجهته.
الذكرى في بالها ذهبت للقاء آخر، لقاء حمل شجارًا، ولكنها الآن تبتسم، فقد كانت تصنع شجارات مشابهة لتجعله يغمرها بالحب وهو يحاول استعادة رضاها، تتصنع الغضبَ بينما قلبها راضٍ تمامًا، وتخفي ابتساماتها من تذلـله تحت وجه غاضب تفشل في المحافظة عليه، ثم ترضى في النهاية، الآن تبتسم، حتى تنتبه لها سيدة في معطف شتوي قذر وهيأة رثة، فوق رأسها سحائبُ من النكد اليومي، ومكابدة الحياة، تنظر لها في لمحة وتكشر، يدور في بالها أن هذه الصبية الساذجة، لا بد وأنها ستبكي قريبًا.
قلبها يضطرم بالشوق، وقد اقترب موعد القطار، تخرج هاتفها ثم تعيده، تقول لنفسها لن أكثر عليه من السؤال، حين يأتي سيجد شوقي طازجًا، وسأسكبُه كلَّه في عناق.
ترفعه عينيها فإذ بالمرأة تنظر إليها، تميز البنت شيئًا يخــيفها في تلك النظرة، تشعر بشيء يهدد أمانها لكنها تنصرف عن ذلك بالتفكير في لقاء حبيبها، تتخيل لقاءهما المرتقب للمرة الألف، إنهما شهران من الغياب، ستون ليلًا تبدو لها سرمدية حتى تسقط في النوم، ستون نهارًا مليئًا بالإزعاج وبكل الناس، كلهم عداه، ربما حدثها لدقائق أو تحدثا بالرسائل، لكن ما الذي تغني عنه الرسائل، الاتصال اتصال العينين، حين أشعر من عينيه أنه مشتاق، وأنه ضعيف أمام هذا الشوق، ويسقط عنه تدريجيًا معطفه للصلابة والحزم، قناع الرجولة الذي يخبئ ولدًا عاطفيًا ربما بكى لذكرى مرت بباله، ثم حين يرحل يتناول معاطفه كلها ويبعثرها فوق جسده ويستعيد وجهه للعالم.
تبتسم ومقلتاها الآن حقيبتا دموع، تفكر أنها ستسمح لدموعها أن تجري حين تراه، لن تحجبها بيديها أو تدعي أنها لم تبكِ، ستسمح له بالشعور أن هذا الغياب أرهقها وأنها تبكي كطفلة ترغبُ غرضًا بشدة وتبكي لأجل هذا، ثم لم تنقطع عن البكاء حتى بعدما صار الغرض في يدها، وسيصير هو أبًا دفعةً واحدة، صعودًا من ولد عاطفي.
تنظر نحو ساعتها فإذ بالموعد قد حان، تنهض، تبتاع علكة وكوب شاي تخفف به هذا البرد الشديد الذي اجتاحها، مشردٌ ينظر إليها فقط، فتعطيه الكوب وتشتري واحدًا جديدًا، يطير هو من الفرح، السيدة ذات المعطف القذر تفترش أرضية المحطة، تضع ملاءة وترص عليها لعب أطفال وحلوى وجوارب نسائية وبضائع أخرى غير مترابطة، تنظر إليها البنتُ وتستغرب بضاعتها، لكنها بعد نفس عميق تشعر بالرضى، تقول أن هذه الحياة ما زالت باعثة على الأمل ما دامت هذه السيدة تسعى عنيدةً إلى رزقها، تتناول كوبها بهدوء بينما الهواء البارد الخارج من أنفها يتداخل مع بخار الشاي.
مضت ربع ساعة ولما يأتي القطار، تنظر البنت نحو الفضاء ثم إلى ساعتها، تلتقي عيناها بعيون مودعين ومستقبلين كانوا معها في المكان، وبعيني المرأة والمشرد من جديد، المرأة بذات النظرة المخيفة والمشرد بنظرة التسول تلك.
تبحث عن شيء تبدد به الوقت، تنهض وتشتري من المرأة عددًا كبيرا من الحلوى بمبلغ زهيد، وتوزعه للأطفال في المكان، أبٌ يشكرها عن فرحة أطفاله الستة، وعائلة تبتسم لها امتنانًا عن فرحة طفلها المعاق، وطفلة مع كلبها تضع الحلوى في جيبها وتهرول مسرعة نحو والدتها، تعود هي راضية إلى مقعدها، تتابعها المرأة بنظرها، تشعر بالضيق لكنها تختار أن تبتسم لها علَّ كل هذه التجاعيد التي في وجهها تلين، ولكنها لا تفعل.
تصرف عنها النظر وتذهب نحو مراقب القطار، لتستفسر عن الرحلة التي تأخرت، يخبرها بلطف أنها قادمة بعد قليل، لا يحدد كم هو القليل بوحدة الدقائق، لكنها تأخذ إجابته وترحل، وجوابًا عن القلق في وجهها يقول لها كما قال بالأمس ومنذ أيام كثيرةٍ خلت: أتمنى أن يعود أحبابك بالسلامة.
تشعر بالرضى مثل معطف دافئ حول قلبها، وتنصرف.
تحت نظر السيدة التي تشعر نحوها بالتهديد، تجلس البنتُ إلى مقعدها للانتظار.
تشعر بسكة القطار تهتز، وبصوته يقترب، تطير من فرحتها، تفكر سريعًا في المقهى الذي سوف يذهبان إليه، سيتناول قهوته سادة غير محلاة، وستتبع كأس الشاي الأول بآخر، ترتبك حتى مع عدم وجود سبب واضح للارتباك، تتبعثر وتسقط أشياءها، تخرج مرآة صغيرة، وتنظر لوجهها، هي هي، سوف يقول لها أنها على حالها، ويكون هذا في معنى أنها جميلة، وسيأخذها بالحضن، ويشم شعرها، وسيهرولان نحو المقهى ويتدفئان بالشاي والفطائر والحكايات.
تمسد شعرها آخر مرة، وتضع عطرها وحين تنتهي سيكون باب القطار قد انفتح في وجهها مباشرة، أمواجُ الناس ستدفعها وهي تنزل لا نهائية من قطار لا نهائي السعةِ يبدو كأنه!
تحاول الخروج من ازدحام المسافرين وأهلهم لتراه، تبحث في المعاطف السوداء والرجال طوال القامة عن شاب كثيف الشعر واسع العينين، ولكنه لا يأتي، تنظر خلال المساحات الصغيرة بين عبور شخص وآخرَ إلى المرأة وهي تبيع حاجياتها، وجهها لين وقد انبسطت ملامحها، حتى أن البنت لوهلة تنسى قلقها على حبيبها وتتملى جمال المرأة، التي بدا أنها ليست قذرة المعطف إلى هذا الحد!
لكن قلقها سرعان ما يستعيدها من اللحظة.
محطة القطار تفرغ تدريجيًا، تنظر البنت نحو هاتفها، وهي تنتظر مكالمة واردة عقب ست مكالمة صادرة لم يجب عنها، ربما هو آتٍ في الرحلة القادمة، تقول لنفسها عبثًا وتتملى في الأمل، لكنها تعلم أن لا رحلة قادمة في القريب سوف تحمله على متنها.
هو لم يجب منذ أشهر على رسائلها، صحيح أنه أخبرها أن الحياة تضعهما على مفترق طرق لكنها فسرَّت ذلك على أنه سيختار طريقًا معها، حتى إن هو لم يشر بذلك، هو لم يخبرها أنه سيعود، لكن ذلك القطار يزور المدينة مرتين في الأسبوع، فما ضر لو انتظرت؟ ماذا لو أتى ووجدها هناك؟!
تنظر للمرأة وهي توشك على البكاء، فتشير المرأة برأسها كحوقلة، لقد ملَّت هذا المشهد واحتقرت في داخلها هموم البنت وربما ظنت في سرها أن البنت مجنونة. تنظر للمشرد فينظر لها نظرتَه للتسول لكنه يفشل من جديد في استدرار عطفها، تنظر لمراقب القطار فيبتسم لها ابتسامة اعتذار.
تنهار باكية، تقول لنفسها لو لم يأت اليوم فلن يأتِ، يمر مسنٌ من جانب البنت التي تبكي كما لو فقدت عزيزًا، أو ربما هي البنتُ التي تبكي لفقدان عزيز، يضع يده على كتفها ويسأل برفق: ما بك يا بنتي؟ ما الذي حدث؟!
تنادي عليه المرأة التي اعتادت على مدى أسابيع هذا المشهد، وهي تستعجله: لا شيء يا سيدي، لا شيء طارئ أو مزعج، إنها الحياةُ فقط، تعال لتشتري من عندي أفخر أنواع السجائر، لدي أيضًا جوارب نسائية وكتب ولُعَب أطفال...!
حياة فقط!
| قصة قصيرة شيء ما ثابتٌ في الهواء الذي تتنفسه البنت، التي خرجت من بيتها لمحطة القطار، شيءٌ ما ثابتٌ في البال والذكرى وحتى في الهواء قبيل ...
misskotchi.blogspot.com