رحل عن عالمنا منذ فترة قصيرة القاص السكندري المجدد محمد حافظ رجب، واشتهر الكاتب الراحل بعد بداياته الواقعية بتوجهه إلى التجريب في عالم القصة القصيرة حيث بدأ ذلك الاتجاه في منتصف الستينات، ولا يمكن أن نغفل عدم الاستقرار والتشتت الذي تميزت به المحاولات الأولى لمحمد حافظ رجب وتأثره بالحالة العامة التي كان يعيشها المجتمع المصري عقب ثورة 23 يوليو 1952، حيث كان يبحث كغيره من الكتاب الشباب عن شخصيته الخاصة به في الكتابة متأثرا بقراءاته وتجاربه الشخصية في الحياة، لكن قصصه الأولى وقصص كثير من الشباب المعاصرين له في تلك الفترة اتخذت اتجاها واقعيا طبيعيا لم يفرضه أحد عليهم تأثرا بالانقلابات السريعة والمتلاحقة التي أشعلتها ثورة يوليو وانعكاساتها على المجتمع المصري وتركيبته الطبقية، لكن الكاتب بعد سنوات قليلة وبعد انتقاله من الاسكندرية إلى القاهرة وما صاحب ذلك من صدمات تدريجية في علاقته بمجتمع القاهرة المغلق أبوابه أمام أمثاله من الشباب النازح من كافة أرجاء مصر، فإما أن تسير في الركب وتهادن الرؤوس الكبيرة التي وجدت طريقا ما للتعايش مع سلطة يوليو والرموز الثقافية الصاعدة معها، وإما أن تنبذ أو تصبح مثارا للسخرية، الكثير من أبناء جيله تعرضوا لمثل ما تعرض له، فمنهم من هادن بالفعل وسار في الركب، ومنهم من تمسك بالحد الأدني أو الأقصى من الكرامة والخصوصية الإبداعية مع التكيف مع الأوضاع القائمة، ومنهم من واجه بعناد واصطدم بالواقع وحارب طواحين الهواء، وقد كان محمد حافظ رجب من تلك الفئة الأخيرة، فقد انتقل تدريجيا ولكن في سنوات قليلة من الكتابة الواقعية ومحاولة الاندماج في مجتمع القاهرة الثقافي والتعايش مع رموز تلك الفترة إلى التجريب في كتابة القصة القصيرة والتمرد على الرؤوس الكبيرة والمناخ الثقافي السائد، هذا الاصطدام أخذ كثيرا من روحه وأنهكه مع مرور السنوات دون أن يلقى التقدير الذي رأى أنه يستحقه، نلاحظ هذا التطور السريع في مجموعتي "غرباء" و"الكرة ورأس الرجل" رغم أنهما نشرا تقريبا في عام واحد مع الإقرار باختلاف التاريخ الدقيق لكتابة كل قصة على حدة، استمر محمد حافظ رجب يجاهد باستماتة للدفاع عن الاتجاه الذي اعتقد اعتقادا راسخا أنه صاحب الفضل في صياغة وبلورة معالمه رغم أن هناك من أبناء جيله من بدأ معه طريق التمرد والاختلاف، لكن لسبب أو لآخر كان محمد حافظ رجب دائما في واجهة المشهد، سواء بسبب تصديه للدفاع والترويج لهذا الاتجاه الجديد، أو بسبب تعرضه أكثر من غيره للهجوم حينا والتجاهل حينا والسخرية أحيانا كثيرة، ويبدو أن معركته التي أنهكته كثيرا دفعته لاتخاذ قرار العودة إلى الاسكندرية، والانسحاب التدريجي من واجهة المشهد الأدبي والثقافي، لكنه استمر في الإبداع "مخلوقات براد الشاي المغلي" ثم لاحقا بعد سنوات من التوقف النسبي "اشتعال رأس الميت" وغيرها، لكنه آثر في النهاية الانعزال والصمت حتى أعادته الوفاة إلى واجهة المشهد لمرة أخرى وأرجو ألا تكون أخيرة.
في دراسة عن مجموعة "رحلة س" لمصطفى الأسمر للكاتب شوقي بدر يوسف نشرت بمجلة الثقافة الجديدة وجريدة العرب الأسبوعي يقول: "المشهد الرابع هو مشهد لعبة الكرة، وهي تذكرنا بالقصة الشهيرة لمحمد حافظ رجب ”الكرة ورأس الرجل“، مضمون القصتين يكاد يكون واحدا فالسائد حتى الآن هو طغيان لعب الكرة وهو المتصاعد دائما في حلبة الحياة على طغيان الفكر والثقافة، ويقول أيضا: "ومصطفى الأسمر يعزف في إبداعه القصصي دائما على وتر التخييل والفانتازيا في معظم أعماله القصصية، نجد ذلك في مجموعاته السابقة ”الصعود إلي القصر“ و“غوص مدينة“ و“انفلات“، حتى مجموعة ”حيوانات“ التي تمثل عنده بعدا خاصا في كتابته القصصية كانت هي الأخرى من قبيل العزف على نفس الوتر ونفس اللحن التخييلي المتماهي مع واقع الحياة وظلالها، وقد شكلت هذه الأعمال في عالمه الإبداعي بعدا غير مألوف في واقعنا القصصي"، وفي موضع آخر: "لقد شكلّت مجموعة "رحلة س" في إبداع مصطفى الأسمر واقعا حكائيا رامزا لوقائع الحياة التي خبرها وشاهد أحوالها، وقد استخدم الكاتب الواقع مع الخيال استخداما حذقا شكل من خلالهما مجموعة من السرديات المتفاعلة مع واقع القصة القصيرة التجريبية وحدد من خلالها جانبا من جوانب النص السردي المحمل بفرضية سيميائية تشير إلى دالات تمنح نفسها عن طريق استقراء نصوص المجموعة ومحاولة تفسير وتحليل وقائعها وخطوطها".
فما هي درجة الاختلاف والاتفاق بين تجربتي محمد حافظ رجب ومصطفى الأسمر سواء على المستوى الشخصي أو الإبداعي؟ أعرض ما أظنه نقاط اختلاف واتفاق بينهما:
البداية الواقعية لكليهما ولغالبية الكتاب الذين بدأوا الكتابة في أواخر الخمسينات وأوائل الستينات وقد ذكرت أسباب ذلك وربطته بما أحدثته ثورة يوليو من تغييرات.
ارتبط محمد حافظ رجب في بداية تجربته باهتمام وتشجيع كاتب ومثقف كبير أكثر وعيا واحتفاء بالكتاب الشباب واتجاههم التجديدي هو يحيى حقي غير أن ذلك لم يدم طويلا، فيما ارتبط مصطفى الأسمر بمفكر تنويري مرموق آخر لكنه عاش ـ بدرجة ما ـ على هامش مجتمع القاهرة الثقافي هو الشيخ أمين الخولي، وظل مصطفى الأسمر مرتبطا به وبزوجته الدكتورة عائشة عبد الرحمن "بنت الشاطئ" بعد وفاته.
وإذا كان محمد حافظ رجب قد هجر المرحلة الواقعية سريعا ربما بسبب انتقاله من الاسكندرية إلى القاهرة وصدمة المواجهة مع واقعها الاجتماعي والثقافي المغلق ورموزها ورؤوسها الكبيرة، فقد تمسك مصطفى الأسمر بمدينته دمياط وكان زائرا عابرا للقاهرة اصطدم أيضا ببعض رؤوسها الكبيرة ولكن بدرجة أقل حدة باعتباره ضيفا زائرا يأتي من هامش بعيد ليقول كلمته ويرحل في هدوء، وقد منح ذلك الابتعاد النسبي لمصطفى الأسمر عن عالم القاهرة الحرية والهدوء ليواصل تطوير تجربته الخاصة في الكتابة الواقعية مع إعطائها الوقت الكافي للنضج والتطور المتصاعد.
وإذا كان محمد حافظ رجب قد عاد بعد سنوات إلى الاسكندرية مصابا بجروح نفسية لم تمنعه تماما عن الإبداع لكنها ابطأت مسيرته ودفعته إلى العزلة والانطواء وتجنب الأضواء، فقد توقف مصطفى الأسمر عن الكتابة تماما في نفس تلك الفترة تقريبا ـ السبعينات ـ عقب اصطدامه وزملائه في دمياط بالسلطة بعد حل جمعية رواد الأدبية الأهلية ودمجها في جمعية رواد بيوت وقصور الثقافة الرسمية، إلا أنه ظل قارئا ومتابعا للحركة الأدبية والثقافية بدرجة ما، ثم عاد إلى الكتابة مع بداية الثمانينات وانطلق يجرب بجرأة أكثر منتقلا من مرحلة إلى أخرى ليس في القصة القصيرة فقط بل أيضا في الرواية والمسرح، وقد أقر في شهادات كثيرة له عن تجربته مع الكتابة أنها عصمته من أي أضرار نفسية كان يمكن أن يمر بها.
وإذا أقررت بصحة فرضية أن محمد حافظ رجب كان رائدا حقيقيا لاتجاه التجديد والتجريب في كتابة القصة القصيرة، إلا أنه يمكنني أن أطرح فرضية أخرى ـ قابلة للنقاش والدراسة ـ أن مصطفى الأسمر كان واحدا من القلة الذين طوروا المسار الذي بدأه محمد حافظ رجب وقطع فيه شوطا مهما، لكنه فعل ذلك في صمت ودون ضجيج إعلامي رغم ما نالته أعماله حسب اعترافه هو شخصيا باهتمام الكثير من الكتاب والنقاد.
تجربة مصطفى الأسمر في النضج والتطور على مهل والمحافظة على الاستمرارية ـ باستثناء سنوات الانقطاع ـ ربما كانت الطريق الموازي لتجربة محمد حافظ رجب في نفس اتجاه التجديد والتجريب مع الاحتفاظ بالخصوصية الإبداعية لكليهما.
في النهاية أظن أن ما يجمع بين تجربة محمد حافظ رجب وتجربة مصطفى الأسمر هو الرغبة الحقيقية في سلوك طرقا إبداعية مختلفة، وعدم التحرج من التجديد والتجريب، كما يجمع بينهما أيضا ـ بدرجة أو بأخرى ـ الابتعاد عن الأضواء والاكتفاء بالتقدير الداخلي الذاتي، والخارجي غير المتناسب مع قيمة إبداع كليهما.
في دراسة عن مجموعة "رحلة س" لمصطفى الأسمر للكاتب شوقي بدر يوسف نشرت بمجلة الثقافة الجديدة وجريدة العرب الأسبوعي يقول: "المشهد الرابع هو مشهد لعبة الكرة، وهي تذكرنا بالقصة الشهيرة لمحمد حافظ رجب ”الكرة ورأس الرجل“، مضمون القصتين يكاد يكون واحدا فالسائد حتى الآن هو طغيان لعب الكرة وهو المتصاعد دائما في حلبة الحياة على طغيان الفكر والثقافة، ويقول أيضا: "ومصطفى الأسمر يعزف في إبداعه القصصي دائما على وتر التخييل والفانتازيا في معظم أعماله القصصية، نجد ذلك في مجموعاته السابقة ”الصعود إلي القصر“ و“غوص مدينة“ و“انفلات“، حتى مجموعة ”حيوانات“ التي تمثل عنده بعدا خاصا في كتابته القصصية كانت هي الأخرى من قبيل العزف على نفس الوتر ونفس اللحن التخييلي المتماهي مع واقع الحياة وظلالها، وقد شكلت هذه الأعمال في عالمه الإبداعي بعدا غير مألوف في واقعنا القصصي"، وفي موضع آخر: "لقد شكلّت مجموعة "رحلة س" في إبداع مصطفى الأسمر واقعا حكائيا رامزا لوقائع الحياة التي خبرها وشاهد أحوالها، وقد استخدم الكاتب الواقع مع الخيال استخداما حذقا شكل من خلالهما مجموعة من السرديات المتفاعلة مع واقع القصة القصيرة التجريبية وحدد من خلالها جانبا من جوانب النص السردي المحمل بفرضية سيميائية تشير إلى دالات تمنح نفسها عن طريق استقراء نصوص المجموعة ومحاولة تفسير وتحليل وقائعها وخطوطها".
فما هي درجة الاختلاف والاتفاق بين تجربتي محمد حافظ رجب ومصطفى الأسمر سواء على المستوى الشخصي أو الإبداعي؟ أعرض ما أظنه نقاط اختلاف واتفاق بينهما:
البداية الواقعية لكليهما ولغالبية الكتاب الذين بدأوا الكتابة في أواخر الخمسينات وأوائل الستينات وقد ذكرت أسباب ذلك وربطته بما أحدثته ثورة يوليو من تغييرات.
ارتبط محمد حافظ رجب في بداية تجربته باهتمام وتشجيع كاتب ومثقف كبير أكثر وعيا واحتفاء بالكتاب الشباب واتجاههم التجديدي هو يحيى حقي غير أن ذلك لم يدم طويلا، فيما ارتبط مصطفى الأسمر بمفكر تنويري مرموق آخر لكنه عاش ـ بدرجة ما ـ على هامش مجتمع القاهرة الثقافي هو الشيخ أمين الخولي، وظل مصطفى الأسمر مرتبطا به وبزوجته الدكتورة عائشة عبد الرحمن "بنت الشاطئ" بعد وفاته.
وإذا كان محمد حافظ رجب قد هجر المرحلة الواقعية سريعا ربما بسبب انتقاله من الاسكندرية إلى القاهرة وصدمة المواجهة مع واقعها الاجتماعي والثقافي المغلق ورموزها ورؤوسها الكبيرة، فقد تمسك مصطفى الأسمر بمدينته دمياط وكان زائرا عابرا للقاهرة اصطدم أيضا ببعض رؤوسها الكبيرة ولكن بدرجة أقل حدة باعتباره ضيفا زائرا يأتي من هامش بعيد ليقول كلمته ويرحل في هدوء، وقد منح ذلك الابتعاد النسبي لمصطفى الأسمر عن عالم القاهرة الحرية والهدوء ليواصل تطوير تجربته الخاصة في الكتابة الواقعية مع إعطائها الوقت الكافي للنضج والتطور المتصاعد.
وإذا كان محمد حافظ رجب قد عاد بعد سنوات إلى الاسكندرية مصابا بجروح نفسية لم تمنعه تماما عن الإبداع لكنها ابطأت مسيرته ودفعته إلى العزلة والانطواء وتجنب الأضواء، فقد توقف مصطفى الأسمر عن الكتابة تماما في نفس تلك الفترة تقريبا ـ السبعينات ـ عقب اصطدامه وزملائه في دمياط بالسلطة بعد حل جمعية رواد الأدبية الأهلية ودمجها في جمعية رواد بيوت وقصور الثقافة الرسمية، إلا أنه ظل قارئا ومتابعا للحركة الأدبية والثقافية بدرجة ما، ثم عاد إلى الكتابة مع بداية الثمانينات وانطلق يجرب بجرأة أكثر منتقلا من مرحلة إلى أخرى ليس في القصة القصيرة فقط بل أيضا في الرواية والمسرح، وقد أقر في شهادات كثيرة له عن تجربته مع الكتابة أنها عصمته من أي أضرار نفسية كان يمكن أن يمر بها.
وإذا أقررت بصحة فرضية أن محمد حافظ رجب كان رائدا حقيقيا لاتجاه التجديد والتجريب في كتابة القصة القصيرة، إلا أنه يمكنني أن أطرح فرضية أخرى ـ قابلة للنقاش والدراسة ـ أن مصطفى الأسمر كان واحدا من القلة الذين طوروا المسار الذي بدأه محمد حافظ رجب وقطع فيه شوطا مهما، لكنه فعل ذلك في صمت ودون ضجيج إعلامي رغم ما نالته أعماله حسب اعترافه هو شخصيا باهتمام الكثير من الكتاب والنقاد.
تجربة مصطفى الأسمر في النضج والتطور على مهل والمحافظة على الاستمرارية ـ باستثناء سنوات الانقطاع ـ ربما كانت الطريق الموازي لتجربة محمد حافظ رجب في نفس اتجاه التجديد والتجريب مع الاحتفاظ بالخصوصية الإبداعية لكليهما.
في النهاية أظن أن ما يجمع بين تجربة محمد حافظ رجب وتجربة مصطفى الأسمر هو الرغبة الحقيقية في سلوك طرقا إبداعية مختلفة، وعدم التحرج من التجديد والتجريب، كما يجمع بينهما أيضا ـ بدرجة أو بأخرى ـ الابتعاد عن الأضواء والاكتفاء بالتقدير الداخلي الذاتي، والخارجي غير المتناسب مع قيمة إبداع كليهما.
أيمن مصطفى الأسمر
فبراير 2021
فبراير 2021