ممدوح فرّاج النّابي - حالة شجن لأحمد رجب شلتوب: رواية البحث عن الوطن

عرفت الكاتب أحمد رجب شلتوت قارئًا نهمًّا للكتب، يُقدِّمُ مقاربات وقراءات نقدية، غاية في الجدية والتفاني، كما أنها قراءات واعية، سواء باختياراته أو بأسلوبه البديع، الذي يوجز في عبارة سلسلة محكمة الصياغة بعيدة عن الغموض والمصطلحات، ما يحتاج إلى عبارات مُسهبة لشرحه. أصدر هذه المقاربات في كتابين هما: "فن البحث عن الإنسان: قراءات في الرواية العربية"، و"ربيع البنفسج: قراءات في الرواية". وفي مُجْمل قراءاته يبحث عن المعنى والقيمة في الرواية، فالرواية كما يقول في أحد كتبه، وإن كانت "تمنح الإنسان التسليّة والمتعة، فإنها في الوقت ذاته وسيلة لتدبّر العالم والتفكّر في ماهيته" ويزيد بأن "الرواية هي فن البحث عن الإنسان".

البحث عن الإنسان

هذا الوعى بمفهوم الرواية وعوالمها نراه واضحًا في روايته القصيرة "حالة شجن"، وهي العمل الفائز بجائزة إحسان عبد القدوس، وقد صدرت مؤخرًا عن الدار الثقافية للنشر والتوزيع - تونس. تنشغل الرواية بالإنسان وهموم الإنسان؛ إنسان مِلح الأرض، الذي يُعافر في الحياة من أجل أن يحيا فقط، ولكن تأبى عليه الحياة إلا أن تنغصه وتكدر صفوه ، ومع هذا يقاومها بكل ما أوتي من قوة كي يحياها. في مستهل كتابه "الرواية فن البحث عن الإنسان" يضع شلتوت مقتطفًا للروائية كوليت تقول فيه: "أضع في رواياتي كل الحب الذي لم أستشعره والذي أتوق إليه". في الحقيقة لم يختلف أحمد رجب شلتوت عن كوليت، فحمّل روايته حبّ وطنه، وتمسُّكه به حتى مع قسوته على أبطال روايته. فالوطن ليس مجرد كلمة تردد بمناسبة أو غير مناسبة، أو حدودًا أو مكانًا، وإنما هو حالة عشق.

تطرح الرواية إشكالية مهمّة من حيث بنائها، فعدد صفحاتها لا يتجاوز 97 صفحة من القطع الصغير، وهو ما يضعها في مواجهة مع "الرواية البدينة" بتعبير سعيد يقطين، فالرواية هنا تتناسب مع إيقاع العصر اللاهث. الرواية محكمة، خالية من الرطانة، فمعظم الحوارات موجزة، والأفكار التي تطرحها محددة، منذ عنوانها الرئيسي الذي يتناص مع أغنية شهيرة، جاءت في نهاية فيلم "أمريكا شيكابيكا" لخيري بشارة، الذي أُنتج في عام 1993، ذروة الحلم الأمريكي، الأغنية تتساءل: يعني إيه كلمة وطن؟ بعدما ضاق الحال بمجموعة من الشباب، تتعثر أحلامهم بعتبة الواقع، فيقررون السفر من أجل الثراء السريع، لكن وَقَعَ حظهم التعس مع نصّاب، سرق أموالهم وأحلامهم وتركهم في إحدى غابات رومانيا.

الرواية تتقاطع بعنوانها مع الفيلم وأيضًا مع موضوعه، فالوطن هو الهم الأكبر هنا، وهذا ظاهر منذ الإهداء الشارح: "إلى فجر أثق في طلوعه رغم سطوة العتمة"، وأيضًا بالتصدير الذي اقتبسه المؤلف من قصيدة للشاعر أحمد عبد المعطي حجازي، التي يتعجّب فيها من حاله، فهو لا يراه إلا "بلدًا غريبًا / لم أشاهد مثله منفى / ولا وطنًا" وإن كان حجازي لا يعلم "كيف اتخذته أمّة سكنًا" فالحال يقول إن شخصيات الرواية ارتضته وطنًا، وتآلفت معه حتى مع قسوة السُّلْطة تارة، وضيق العيش تارة ثانية، صار هو الملاذ؛ ومع هذا صار موضع تساؤلات مؤلمة، بعدما بدت وجوه الناس فيه "كُلها مهمومة يعلوها الصدأ".

النوفيلا تدور حول شخصية غريب الجامعي، المثقف الذي أنهى دراسته ولم يوفّق في العثور على فرصة عمل تليق بما درسه، فاُضَطر إلى السّفر إلى دول الخليج، لكن نفسه الحُرّة الأبيّة أبتْ عليه أن يذعنَ لنظام الكفيل، فيُقرّر العودة، ومع العودة لم يجدِ الدنيا تفتح لها ذراعيها، فَقَبِلَ العمل كبائع متجوّل، يطوف ببضاعته البسيطة الأسواق المختلفة، وهو ما كان يُعرِّضه لمضايقات رجال الشرطة والبلدية. يصيبه سَهْمُ الحبّ، بعدما رأى فتاة في إحدى الأسواق، لكن كانت ظروف الفقر حائلاً في اتمام الزواج. ومع هذه الظروف المُحْبِطة إلّا أنّ البطل لم ييأس، فهو إشكالي مُتسلِّح بثقافة واسعة، كانت له عضدًا في أزماته جميعًا، فلم تفتر همته، أو تخمد عزيمته، بل ظل يقاوم ويعمل في كافة الظروف.

قهر السُّلطة

تكشف الرواية الوجه الآخر من استبدادية السلطة، وقهرها لكل من لا ذراع له. فعوامل القهر لا تتوقف عند الظروف الاجتماعية القاهِرة التي تجعل من طالب جامعي يجوب الأسواق ببضاعة بسيطة، ويقف في طابور عريض من العاطلين، وهو ما يكشف عن موطن خلل بين مُخرجات التعليم وحاجة سوق العمل لهذه المخرجات، وكأنهم فائض بلا قيمة. وهو ما دفع بالكثيرين إلى رحلة اغتراب حقيقي عن الوطن بالهجرة؛ بحثًا عن مورد رزق في بلاد الخليج، أو حسب ما صوّر الفيلم إلى بلاد الأحلام، وهو ما أوقع الكثيرين في عمليات نصب، وقهر فاقمت من القهر المعنوي أو الاغتراب الذي يعانونه داخل وطنهم، الذي لم يكن يومًا ذلك الوطن الحسن، الذي تتشدق به الأغاني والأناشيد في الاحتفالات الوطنية.

الرواية القصيرة تشير إلى تحالف المال والسلطة، وهو ما كان بمثابة القشة التي قسمت ظهر السلطة أمام موجات الربيع العربي في 25 يناير 2011، فعضو البرلمان الذي لا يعرف أحد كيف صار من الوجهاء وعُلية القوم في مدّة لم تتجاوز العشر سنوات، وصار يتمتع بالحصانة البرلمانية، والنفوذ بهذه السهولة، فما أن يلجأ إليه أهل غريب، بعدما دلّهم صول (رتبة في النظام الأمنى – الشرطي والعسكري - المصري) أخذ رشوة عن وجود ابنهم داخل الحجز، وأنّ أقصر طريق للضابط الذي رفض خروجه معهم بضمانهم هو المعلّم عاشور عضو مجلس الشعب "فالضابط لا يرد له كلمة، وهو الوحيد القادر على إخراج غريب من الحجز"، وبالفعل يأتي الرجل وإن كان يعاتبهم في الطريق على عدم منحه أصواتهم في انتخابات الدورة الماضية، وبالفعل يدخل ويستقبل استقبالاً يكشف هذا التواطؤ بين رجال السلطة والمال، وتكون النتيجة أنه يخرج معهم. فالرشوة والوساطة هما السبيل للحصول على الحق.

يكشف غريب بعد خروجه معهم عن حالات مِن القهر التي مارستها أجهزة السُّلطة الإيديولوجيّة – بتعبير ألتوسير - على شريحة من المجتمع هي في الأصل مقهورة، فالرجل الذي قُبض عليه كان يحمل كيسًا أسود، ومع اكتشاف أن بداخل الكيس مجرد قمر الدين وليس شيئًا آخر، إلا أنهم استمروا في قهره، بأخذ ما معه، وهو ما جعله يدخل في أزمة مَرضية، عندئذ اضطر ضابط الشرطة إلى إطلاق سراحه؛ خشية أن يموت. كما أن سبب القبض عليهم جميعًا، في حدّ ذاته دال على نوع من الممارسات العشوائية والرغبة في القهر وإذلال المواطن، علاوة على ما يُعانيه. وهي الأسباب التي اجتمعت معًا وكانت شرارة الثورة في يناير.

تعكس الرواية هيمنة الفكر الخرافي السّائد في هذه البيئات، في دلالة قوية على غياب جهود الدولة التنموية من أجل التوعية. فالعائلة تؤمن بالغيبيات، وتُولي للفكر التحتي أهميةً كبيرة، على نحو ما حدث في تسمية واختيار الأبناء، بداية من اختيار اسم محمد، ثم اختيار محمد لابنه الجديد. وأيضًا في مظاهر التبُّرك بالأولياء، وإسناد الأمر لهم بعد أن أعيتهم الحيلة عن الحل. كما تشير الرواية بطرف خفي إلى فساد المحليات، عبر شخصية فؤاد الذي يعمل في الإدارة الهندسيّة مسؤولاً عن استخراج تراخيص المباني، وكأن الرواية تقول إن الفساد سلسلة مترابطة ممتدة، وإن كانت الرواية أرجعت انتشاره إلى الظروف الاقتصادية المتدنيّة، والحيل التي يلجأ إليها البعض، حتى ولو كانت غير مشروعة، لمقاومة أزماتها.

يأخذ تبويب النوفيلا شكلاً جديدًا غير مألوف في الرواية العربية، فالفصول غير معنونة، أو مرتبة بأرقام، وإنما مرتبة بالحروف الهجائية تصاعديًّا بدءًا من حرف الألف وصولا ً إلى حرف الياء. وتتميّز الوحدات السّرديّة بالقصر الشديد، حتى في بعضها لا يتجاوز الصفحة الواحدة أو حوار مقتضب كما في الوحدتين (م، و). السرد يسير تصاعديا حيث لا وجود للزمن الماضي إلّا في حدود ضيقة، ومن ثمّ فقارئ النص يلهث لمتابعة الوحدات، التي تتميّز بالاختزال الشديد، والتكثيف، عبر لغة واضحة سهلة، مجردة من أيّة زيادات، أو حشو لا معنى له. كما أنّ الأحداث نفسها متلاحقة، إضافة إلى عدم وجود تفريعات تُشتت القارئ، بل ثمة حكاية واحدة، وبؤرة السرد مركزة عليه.

جوانب كثيرة من الشخصية الرئيسيّة تتكشّف مع تنامي السّرد، فعلاقته بوسيمة زوجة صديقه فؤاد تظهر مع حالة الحزن التي أبدتها وسيمة عندما علمت بغيابه، ومن ثم يفرد الراوي وحدة سردية ليكشف عن هذه العلاقة وبداياتها إلى تطوراتها بنزوة عابرة حدثت بعد إصابة زوجها في إحدى المباريات، مما اضطره للبقاء في المستشفى، ومع إصرارها على البقاء بجواره إلا أنه يرفض ويطلب من صديقه أن يوصلها إلى بيتها في طريقه. هذه الحكاية على الرغم من أن حذفها لن يصيب بناء الحكاية بشيء، إلا أن أهميتها الحقيقية في الرسالة التي حملتها، التي تتمثل في دق ناقوس الخطر، على مخاطر العلاقات الاجتماعيّة المفتوحة، وهو باب تنسرب منه الكثير من العلاقات غير المشروعة. وبذلك يكون هذا الجزء في السرد أشبه بما يسميه رولان بارت "مفعول الواقع"، فهذا حدث فرعي إلا أنه يستحوذ على الاهتمام، وفي نفس الوقت يكشف عن خلل في العلاقات الاجتماعية.

الرواية بصغر حجمها، وحدثها المُحدّد وشخصياتها القليلة، وحواراتها الثرية، تطرقتْ لموضوعات اجتماعيّة، وسياسيّة واقتصادية مهمة، وكأنها أشبه بتشخيص حالة وطن انتهى أفراده إلى الشعور بالشجن والتأسي لحاله.
// منشورة بمجلة تراث الإماراتية عدد مارس 2021 //

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى