دة. كوثر محمد مروان - الخطاب الأيديولوجي في رواية "أنا خير منه" للروائي بهاء المري.

كلنا يَعلم أن الخِطاب هو الطريقة التي تُقدَم بها المادة الحكائيّة في "الرواية" و"المتكلم في الرواية" كما يَرى باختين، هو دائمًا صاحب أيديولوجيا.
تناوَل عدد كبير من الدارسين موضوع الأدب والأيديولوجيا، ومنهم الباحث سعيد يقطين في كتابه الذي بعنوان "النقد الروائي والأيديولوجيا" ومن النقاد من وَجد أنَّ الفن جُزء من الأيديولوجيا، وذلك جَعلهم يَتهمون الأدباء الذين يتبعون هذا المَنهج بالدعاية والمباشرة، واتخاذهم الفن وسيلة لنشر الأيديولوجيا، وهي أمور تنأى بهم عن ميدان الفن، ويرى الباحث شكري عزيز الماضي، أنه "وعلى الرغم من ذلك، فإن للفن استقلالية نسبية" ويُضيف "أنَّ الانطلاق من أيديولوجية مُحددة للحياة والإنسان، ومفهوم الفن، تجعل رؤية الفنان أكثر عُمقًا وشُمولية وتماسكًا، لأن مثل هذه الأيديولوجيا يمكن أن تكون سلاحًا بيده، يُساعده على تشريح الظاهرة التي يعالجها".
ومن الطبيعي في العَمل الروائي أو الإبداعي التأكيد على أهمية الوسائل المُستخدمة في البناء المِعماري للرواية، وضرورة عدم التضحية بالفن في سبيل الأيديولوجيا، وذلك للابتعاد عن المُباشرة والتقليدية والدعاية، وفي روايتنا "أنا خير منه" للكاتب بهاء المري، نجد الكاتب بوعي تام استطاع أن يعرض لنا فكره الأيدلوجي، وأن يُوظف الوسائل الفنية التي تتيح له عرض الأحداث وتصوير الشخصيات بمنأى عن المباشرة والدعائية، وهنا سأقوم بالبرهان على هاتين الفكرتين.
- قامت الرواية على تجسيد فكرين:
- الأولى: كانت من أتباع الحق: وتَمثلت في زَينب وأخيها حمزة، وخطيبة حمزة فيروز ووالدها، والفكر الآخر، كان من أتباع الضلال وانتهاك الإنسانية باسم الدين، هو فكر متأسلم شيطاني تسوقه عصابات إرهابية، تمثلت في مصعب وخالد وجاسر وغيرهما من الشباب الذين وقعوا ضحية هذا الفكر، والروائي بهاء المري طرَحَ من خلال هذه الفئة أسئلة الذات ومُساءلة الآخر الذي اعتنق أفكارًا لا تنتمي الى يقين أيديولوجي يحمي ظهره إلا برفع تعصبه وحدَّته في التعامل مع الآخر، ومن هنا جاءت أغلب المشاهد التي تولت الرواية التقاطها تَحمل توازنًا بين الفكرين، وسَعَي الخطاب في الرواية إلى البَرهنة على صحة مُعتقد الفكر الذي آمن به الروائي من خلال الاستشهاد بالأدلة الدينية، وهي كثيرة في المَتن الروائي، ليُثبت بُطلان فكر هذه الجماعات، من أجل شعاراتهم المزيفة باسم الاسلام والدين؛ التي جاؤوا بها ساعين من خلالها الى خَراب فكر الشباب والبلد والأمن العام، وأمثلتنا في الرواية كثيرة على ذلك.
لقد اتخذت هذه الفئة التعصب والحدَّة والفظاظة في نهج حياتها بدءًا من التعامل مع عائلتها، كما رأينا عندما التقط لنا المَتن مشهدًا من هذه المشاهد الحادة بين الأم وابنها، حينما تذكر مصعب يومَ أن كان واقفًا في غرفة شرفته يستمع الى إحدى الأغاني ضربته أمه على ظهره، وأمرته أن يحفظ القرآن لأن والده يفعل ذلك، دون أن تقوم بشرح الفائدة من حفظ القرآن أو أن تُحبِّبهُ فيه، وإنما لأنها عادة لديهم، وبمثل هذا الأسلوب التربوي الفاشل، وبعصبية غير مقبولة بعيدة عن الرحمة والعطف من قلب الأم الذي خصَّه الله بالرقة والرحمة والحب، وبأسلوب أيضا بعيد كل البعد عما نادى به ديننا الحنيف عندما طالبنا باليُسر في تعاملاتنا الحياتية، إذ أمرت الأم ابنها أن يذهب للمسجد لصلاة الفجر وحرارته مرتفعة؛ فعاد يومها من صلاة الفجر وأسنانه تَصطَك، وازداد عليه المرض.
- أما الفئة الثانية: فقد قامت في تعاملاتها على الفَهم المُعتدل للدين، وغايتها زرع الخِصال الطيبة في أبنائها بعيدًا عن التشدد والمُعاملة القاسية، ورأينا مثل هذا في تعامل زينب مع أخيها حمزة، كانت لينة الطبع، رقيقة التعامل، عَلَّمتهُ أن الشِعر لا حُرمة فيه، مادام لا يحمل قُبحًا أو يَحض على رذيلة، وأنه فن يَرقى بالأذواق ويُنعِشَ الرُّوح، ويُثير التأمل والاحساس بالجمال وتَدبر الحكمة. (ص 43).
أما الفكر المُتشدد، فقد كان رأيه بالشِعر مُخالفا للفكر المُعتدل، وقد رأينا عندما رجع مصعب إلى البيت وحَكى لأمِّه الحوار الذي دار بينه وبين حمزة، زمجرت وتغيَّر لون وجهها، وقالت وهي تُحملق في عينيه: لا تسمع لأولئك وأعرض عن الجاهلين لأنهم لا يعرفون حقيقة الإسلام.
ومن المفارقات التي عرضها المَتن، أنَّ هذه الفئة المعتدلة دينيًا من أهل بيئة الصعيد، والد حمزة صعيدي مُتفهم وليس متعصبًا، وإنْ كانت مازالت هناك بعض العادات المذمومة كعادة الأخذ بالثأر، أو المفاضلة بين الذكر والأنثى، كما رأينا في أبناء عمومة الأب، وحثَّ أبو حمزة على الزواج بأخرى من أجل إنجاب الولد، بالمقابل أكد المَتن على ضرورة اجتثاث تلك العادات واستبدالها بأفعال تَحث على الشَهامة والإنسانية، ولا فرق بين ذكر وأنثى، إلا بمَدى تَجسيده للخِصال الجيدة.
واستشهد المَتن بفعل زَينب عندما داهمَ حريق مَتجر المدرسة، وقف الجميع في حالة ذُعر يَطلبون إبلاغ النجدة، أما زَينب، طلبت سكينًا قطعت خرطوم الأنبوبة عندما تَسرب الغاز وأغلقت المحبس. (ص 56).
ومن وَسَط دخان أفكار الجماعات المتشددة، المتمثلة بالإخوان المسلمين والسلفيين، تُتابع الرواية مشاهدها لتَعرض علينا مَشاهد مُتشددة لا تنتمي الى الدين بصلة، لتُرينا سطحية أفكار هذه الجماعات التي لا تخدم دينًا ولا عِلمًا، سوى السَير وراء جماعات لها أهداف ماسونية تُخطط لهم بما يَخدم مصالحها لزرع التفرقة بين الطوائف، ونزع الأمان من الصفوف، كما فعلوا في تفجيرات طابا، وقتلوا الأبرياء في فندق هيلتون بغير ذنب سوى أنهم سياح ويَحل قتلهم لأنهم صهاينة. (ص 161).
بهذا المنطق غير الإنساني كانوا يُبررون فِعلهم الشنيع، قائلين إنهم مجاهدون يقاتلون في سبيل الله، وهي تبريرات لا دينية، ولا منطقية، ولا عقلية (ص161).
وهم على استعداد لقتل من لا يُوافق فكرهم، مثل محاولتهم قتل الدكتور محمد سعد، بعد أن استضافته قناة إعلامية وشرع بالحديث عن أفعالهم ومواجهة ما يدَّعون أنَّ ما يَفعلونه ليس صَحوة إسلامية، وإنما كبوة إسلامية تستخف بعُقول البُسطاء، وفي الأسبوع التالي لهذا اللقاء، حاول رجل مُلثم اغتياله، أطلق عليه عدة طلقات أصابته في كتفه وفخذه وتركته مُقعدًا على كرسي مُتحرك.
وقد أظهر المَتن أنَّ وراء سَيل الخُطَب وطول اللِّحَى، وأصوات الوعظ والارشاد والوصايا الأبوية، فكر إجرامي مُتستر باسم الدين والعاطفة المُزيفة، وظيفته العمل على انحراف فكر الشباب، حيث يتم إعداد هؤلاء الشباب إعدادًا بدنيًا بحُجة مُلاقاة أعداء الله والجهاد في سبيله، ويكون إغراءهم بالجنة التي تنتظرهم والحور العين وأنهار من خمر لذة للشاربين (ص 191).
ووسط هذه المَتاهة تُجيب الرواية عن الأسئلة المُستعصية، وتَطرح حُلولًا تستنطق المنطق والعقل، بأنَّ الحل يكمن في الاعتدال، هذا ما دفع زينب إلى تشكيل وعي حمزة وعقله تشكيلًا معتدلًا منذ نُعومة أظفاره، إذ نَمَّت عقله بالقراءات المُختلفة حتى أصبح مثقفاً واسع المعرفة والادراك، معتدل التوجهات والفكر (ص 162).
ومن الحلول التي طرحتها الرواية إخضاع ما يعترض الشباب من مشكلات إلى العقل والمنطق ليحكموا على أمورهم بأنفسهم، لا أن ينساقوا وراء من يجدون حلولًا لمشاكلهم، وإنما عليهم اتباع قول الرسول صلى الله عليه وسلم استفت قلبك. (ص 119).
كما طالب المَتن أيضًا، بالاعتدال في الحجاب، وعدم الإجبار على ارتدائه إلا بقناعة تامة، إذ إن الدكتور محمد سعد طلب من ابنته فيروز أن تكون ملابسها واسعة لا تكشف شيئاً ولا تَشف، ولا تُبين تفاصيل جسمها (ص 122).
إذًا كما رأينا، اعتنقت الرواية حلولًا تتناسب مع الوظيفة التربوية الأخلاقية للأسرة والمجتمع، وطرحت حلولا جسَّدت فيها المُثل العليا من خلال الايديولوجيا المعتدلة التي اتبعتها وحمَلها النص، لتفكيك اللبنات الاجتماعية المغلوطة في التربية والتمظهرات الاجتماعية والسياسية التي اعتنقها أصحاب الفكر المُتشدد، والذي رفض السيرورة واحتمى بميثيولوجيا الثبات والتقعر الفكري، وراح يهدم اللبنات الاجتماعية بتفريقه بين الأديان من مسيحيين ومسلمين وإثارة الكراهية بين الأديان عندما راحوا يفتون بهدم الكنائس وتحريم بدء السلام لغير المسلمين وتحريم مشاركة المسلمين للمسيحيين في أعيادهم. (ص 13).
ومع أن الرواية تنتمي إلى الواقعية، إلا أن الكاتب عَمَد إلى تجديد الواقعية وتطعيمها بعناصر مُستمدة من أشكال ووسائل تعبيرية أخرى، فلاحظنا المُزاوَجة بين التراث الديني والتراث التاريخي، والموروث الثقافي، أو المَحكيات المَوروثة التي عرَضها في المَتن، مثل الآيات القرآنية التي وردت، والأحاديث الشريفة، والأمثال الشعبية، مثل بَرَكَة يا جامِع، اللي معاه جَده مَحدش قده (ص 124). ومثل الآية الكريمة في سورة الذاريات: "وما خَلقتُ الجنَّ والانسَ إلا ليَعبدون" (ص 132). ومن القَصص التاريخي، قصة سيدنا عمرو بن العاص عندما فتح مصر. (ص 51).
وكل القِصَص التي وردت، سواء من التراث أو من الحاضر، لم تأتِ إلا لتخدم النص الروائي والأفكار التي طرَحها، وكان الهدف من قصة عمرو بن العاص وفتحه لمصر، وأمر عُمر بن الخطاب بناء الكنائس التي هُدمت، ليُبين أنَّ إسلامنا غير مُتعصب لديانة، وأنَّ الله شرَع حرية العقل والتفكير فلا اكراه في الدين.
كما وظَّفَ كثيرًا من القِصص الهادفة التي تَخدم إيدلوجية الرواية، ليُبرهن من خلال القِصص والقَفشات التي وردت في المَتن، أفعال الفكر المُتطرف بشكل غير مباشر، وبهذا ينفي الروائي عن عمله المباشرة والتقليدية، ويتجه بكل فنية إلى تشريح أفعال الإخوان المسلمين وأتباعهم من السلفيين، ومن تلك القصص ما أتى به المَتن عن مصعب وجاسر، وهروب الأول من الصلاة خلفه، لأنه قبَّل فتاة، واعتبره الأخير فاسقًا وخارجًا عن الدين (ص 157).
كذلك مَزج الكاتب في بعض الأحيان العامية العَصرية بالفُصحى، كما قام باستدعاء الطُرَف ومُتعة الحَكي والتشويق، وتوليد القصص بأسلوب سَلس، وغير مُقعَّر، وبلُغة وَصفية في بعض الأحيان، جذابة مُشوقة، كما وظَّف بعض الحوارات في إنتاج معرفة جديدة قائمة على صَوغ أسئلة ثقافة فكرية لتغيير مفاهيم مُقعرة لا تُناسب العصر التكنولوجي العلمي الذي نعيش فيه، كما في الحوارات التي دارت بين حمزة وزينب، وبين حمزة والدكتور محمد سعد، أو الحوارات التي دارت بين حمزة ومصعب، أو أحد رفقائهم، كلها كانت تَسعى إلى النقاشات الهادفة، التي تَخضع للعقل والمنطق والعلوم.
وبذلك استطاع الكاتب الروائي القدير المستشار بهاء المري، أن يُجدِّد في الواقعية التي انتمت إليها الرواية، وبخفة وسِحر ريشة فنان مبدع، استطاع أن يتخلص من المباشرة التي انطوت عليها الرواية، وهي ثيمة الخطاب الأيديولوجي السياسي.
أخيراً أقول، إنني تَمتعتُ برواية هادفة ذات رؤية، وتحمل مَضامين تستحق المتابعة وما بين مثالية زينب وقوة شخصيتها واعتدال تفكيرها، وبين مصعب وزملائه، وتطرف تفكيرهم كان سير الكاتب رغم وُعورة الطريق بمهارة تُحسب له.
شكرا سيادة المستشار، وكل التمنيات الطيبة راجيةً لك مزيدًا من الإبداع والتألق، ومسيرة حافلة بالنجاح والتوفيق دوماً إن شاء الله.


دكتورة/ كوثر محمد مروان
- الإسكندرية في 23/2/2021



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى