ما إن تعلو شواشي عِيدان الذّرة ، فتتراقص شعرات كيزانها الشُّهب ، حتى تغوص القرية في لُججٍ من حَكايا أبناء المنّصر، وطُرف من مغامراتِ ثعالب الليل الذين لا يُعرف لهم ملة.
أيام وتتراجع الشّمس بوجهها الأصفر الحزين ، أمام كتائب الظّلام المخيفة، حينها يغمر المكان سكونٌ قاتل ، فلا تبدو معه بارقة أمل ، تخمد الحركة فوقَ الجسورِ التي تزاحمت مع المغيبِ ، بأسرابِ الفلاحين ، تتسابق في حميةٍ عائدة من فجِاجِ الأرضِ بعد جَهدِ يوم طويل ، تُلهب ظهور الدّواب قبل أن تلملمَ ابنة النّهار خيوطها الهاملة، لتستقر حيث كانت ، حتى إذا زلفت الشّمس عن كبدِ السّماء ، تُغِرق ضفائرها ثوبَ المساء المُتربص بالحقولِ ، ساعتئذٍ تخشع الأصواتُ ، فلا تسمع إلا رِكزا.
ينقطع حبل الرّجاء عن الموجوداتِ ، تنحصر حركة الأهالي بين جدرانهم الكئيبة ، تنبعث أضواء المصابيح على استحياءٍ، تتراقص ذبالتها خجلا فوقَ الحيطانِ المرتجفة، التي تخشى على نفسها ما يخشاه أهلوها، الذين علاهم الوجوم فأضحوا كطرائدِ الليل ، التي تفزع من صيادها.
يظلّ التوجس يكتنف القلوب التي تعلّقت بذاك المجهول الممدد فوق حقول الذرة ، يلوك في ظلمتهِ، وفحيح الشرّ يصمّ الآذان ، يفيض الفراغ الصّامت المتشح بالخوفِ بلا هوادةٍ ، يظل الناس _هكذا_ على حالتهم ، إلى أن تمشي جذوة النّهار في فحمةِ الليل ، وينحدر برقعه فيكشف عن وجهِ الصّباح الشاحب .
يلتف الناس يتسمّعوا أحاديثَ المساء بشغفٍ وفزع، تشاهد دخان نفوسهم وهي تحترق ببطئ، تكتمل الصورة فظاعةً مع تتابعِ أصواتِ الأعيرة النارية مجهولة المصدر ، التي تملأ الأفق في فوضاها قادمة من مكانٍ سحيق ، تتيّبس الحناجر ، وتزيغ الأبصار ، لحظتئذٍ ينزع كُلّ خاطرٍ من مكمنهِ ، وفوق المصاطب تغذي جلسات السّمر تلك المخاوف في جلالٍ ورهبة ، تتحرك الألسن في تحفزٍ ، فتنزح من آبارِ الرهبة، ما يغرق القلوب في شلالٍ يزعزع أركانها ، فتزيدها هما إلى همٍّ ، وكمدا فوق كمد.
همسا يتهالك النساء في أحاديثهن الباهتة في غبشِ الأعتاب ، يظل الناس يتخبطون تيها ، في غياهبِ الليلِ المترامية ، وقد سرى فيهم كسل الرضا بالمقسومِ ، وانتظار الفرج الذي لن يكون بغيرِ انقضاء موسم الذرة ، وانتزاع آخر عيدانه من الحقولِ.
حتى الدّواب والدواجن أصابها ما أصابَ أصحابها من خرسٍ ، فهي أحرص على الامتثالِ للطاعةِ، تفرغ الحظائر من صخبها المعهود ، وكأنّها تخاف ما يخاف البشر ، فعلى مرمى حجرٍ يكمن أبناء المنّصر ، وأشقياء الليل ، الذين زحفوا كالهوام عند المساءِ ، التصقوا بعيدانِ الذرة الملتفة بالبيوتِ، ينتظروا بفارغِ الصّبرِ الفرصة ، فتعمل معاولهم نقبا في الجدرانِ الطينية ، التي ارهقها الانتظار ، منذ أن امتدت رؤوس الذرة عالية ، وكأنّها اسكنت _خصيصا_ بين أحضانها كُلّ لصٍّ وطريد ، استقدمته ليسرق الراحة من عيونِ أبناء الطّين ، ويترك مكانها الحسرة والالتياع .
تمضي الأيام في كآبتها، يلعن الناس الذرة وأيامه ، وفي كُلّ لحظةٍ ينتظر النّاس ما يفجعهم ، أكثر من انتظارهم ما يفرحهم ، تسبح الدور في رهابها ، لا يفيق أهلها من أهوالهم بياض النهار ، حتى يعادوا إليهِ مساء.
تنضج كيزان الذرة ، وتبيضّ أثوابها ، وتبهت خضرتها آذنة بالرَّحيلِ ، ليبهت معها الخوف في صدورِ النَّاس ، يسدل السِّتار عن موسمها المُرهِق ، وها هي الأرض وقد خلت، تنتفض ثانية ؛ تتبختر في ثيابها السّود ، وكأنّ شيئا من ذكراها لم يكن، تتفلّت أشباح القوم من جديدٍ تملأ الحقول ، وبقايا من أحاديثِ الدّراوه عالقة تُوشِك أن تنزاح.
محمد فيض خالد
أيام وتتراجع الشّمس بوجهها الأصفر الحزين ، أمام كتائب الظّلام المخيفة، حينها يغمر المكان سكونٌ قاتل ، فلا تبدو معه بارقة أمل ، تخمد الحركة فوقَ الجسورِ التي تزاحمت مع المغيبِ ، بأسرابِ الفلاحين ، تتسابق في حميةٍ عائدة من فجِاجِ الأرضِ بعد جَهدِ يوم طويل ، تُلهب ظهور الدّواب قبل أن تلملمَ ابنة النّهار خيوطها الهاملة، لتستقر حيث كانت ، حتى إذا زلفت الشّمس عن كبدِ السّماء ، تُغِرق ضفائرها ثوبَ المساء المُتربص بالحقولِ ، ساعتئذٍ تخشع الأصواتُ ، فلا تسمع إلا رِكزا.
ينقطع حبل الرّجاء عن الموجوداتِ ، تنحصر حركة الأهالي بين جدرانهم الكئيبة ، تنبعث أضواء المصابيح على استحياءٍ، تتراقص ذبالتها خجلا فوقَ الحيطانِ المرتجفة، التي تخشى على نفسها ما يخشاه أهلوها، الذين علاهم الوجوم فأضحوا كطرائدِ الليل ، التي تفزع من صيادها.
يظلّ التوجس يكتنف القلوب التي تعلّقت بذاك المجهول الممدد فوق حقول الذرة ، يلوك في ظلمتهِ، وفحيح الشرّ يصمّ الآذان ، يفيض الفراغ الصّامت المتشح بالخوفِ بلا هوادةٍ ، يظل الناس _هكذا_ على حالتهم ، إلى أن تمشي جذوة النّهار في فحمةِ الليل ، وينحدر برقعه فيكشف عن وجهِ الصّباح الشاحب .
يلتف الناس يتسمّعوا أحاديثَ المساء بشغفٍ وفزع، تشاهد دخان نفوسهم وهي تحترق ببطئ، تكتمل الصورة فظاعةً مع تتابعِ أصواتِ الأعيرة النارية مجهولة المصدر ، التي تملأ الأفق في فوضاها قادمة من مكانٍ سحيق ، تتيّبس الحناجر ، وتزيغ الأبصار ، لحظتئذٍ ينزع كُلّ خاطرٍ من مكمنهِ ، وفوق المصاطب تغذي جلسات السّمر تلك المخاوف في جلالٍ ورهبة ، تتحرك الألسن في تحفزٍ ، فتنزح من آبارِ الرهبة، ما يغرق القلوب في شلالٍ يزعزع أركانها ، فتزيدها هما إلى همٍّ ، وكمدا فوق كمد.
همسا يتهالك النساء في أحاديثهن الباهتة في غبشِ الأعتاب ، يظل الناس يتخبطون تيها ، في غياهبِ الليلِ المترامية ، وقد سرى فيهم كسل الرضا بالمقسومِ ، وانتظار الفرج الذي لن يكون بغيرِ انقضاء موسم الذرة ، وانتزاع آخر عيدانه من الحقولِ.
حتى الدّواب والدواجن أصابها ما أصابَ أصحابها من خرسٍ ، فهي أحرص على الامتثالِ للطاعةِ، تفرغ الحظائر من صخبها المعهود ، وكأنّها تخاف ما يخاف البشر ، فعلى مرمى حجرٍ يكمن أبناء المنّصر ، وأشقياء الليل ، الذين زحفوا كالهوام عند المساءِ ، التصقوا بعيدانِ الذرة الملتفة بالبيوتِ، ينتظروا بفارغِ الصّبرِ الفرصة ، فتعمل معاولهم نقبا في الجدرانِ الطينية ، التي ارهقها الانتظار ، منذ أن امتدت رؤوس الذرة عالية ، وكأنّها اسكنت _خصيصا_ بين أحضانها كُلّ لصٍّ وطريد ، استقدمته ليسرق الراحة من عيونِ أبناء الطّين ، ويترك مكانها الحسرة والالتياع .
تمضي الأيام في كآبتها، يلعن الناس الذرة وأيامه ، وفي كُلّ لحظةٍ ينتظر النّاس ما يفجعهم ، أكثر من انتظارهم ما يفرحهم ، تسبح الدور في رهابها ، لا يفيق أهلها من أهوالهم بياض النهار ، حتى يعادوا إليهِ مساء.
تنضج كيزان الذرة ، وتبيضّ أثوابها ، وتبهت خضرتها آذنة بالرَّحيلِ ، ليبهت معها الخوف في صدورِ النَّاس ، يسدل السِّتار عن موسمها المُرهِق ، وها هي الأرض وقد خلت، تنتفض ثانية ؛ تتبختر في ثيابها السّود ، وكأنّ شيئا من ذكراها لم يكن، تتفلّت أشباح القوم من جديدٍ تملأ الحقول ، وبقايا من أحاديثِ الدّراوه عالقة تُوشِك أن تنزاح.
محمد فيض خالد