د. رسول محمد رسول - هل كان ليبنتز سيميائياً أم فيلسوفاً يحتفي بالعلامات؟

هل كان ليبنتز سيميائياً؟
عندما توفي الفيلسوف الألماني جوتفريد فلهلم ليبنتز في الرابع عشر من شهر تشرين الثاني عام 1716، لم يشيعه أحد إلى مثواه الأخير سوى "كاتبه" الذي أشرف على دفنه في مشهد جنائزي نافر الأسى. وليبنتز الذي ولد في الأول من شهر تموز/ يوليو عام 1646 بمدينة (لايبزج) الألمانية، كان قد ملأ حياته بالنشاط الميداني والذهني أو لنقل تأرجح بين العمل السياسي والدبلوماسي والفكري والفلسفي، فقد كان، ومنذ طفولته، شغوف القراءة بما تحتويه مكتبة والده من كتب؛ والده أستاذ الفلسفة والقانون في (جامعة لايبزج)، الذي اعتنى بولده جوتفريد صغيراً حتى قوَّمه مثقفاً موسوعي الاهتمام، ومن ثم متخصِّصاً بدراسة القانون، والعلوم الخفية أو الخيميائية (Alchemy)، فالرياضيات والفلسفة، وهو الذي تعلَّم اللاتينية صغيراً.
كان اقتراب ليبنتز من السلطة السياسية في فرنسا حينها مثار فائدة ميدانية أتت عليه بثمار ناضجة من حيث السفر والترحال، فغادر شطر بريطانيا لمرتين؛ كانت الأولى في عام 1673، والثانية في عام 1676، وبينهما كان قد سافر إلى باريس وأمستردام التي التقى فيها باروخ سبينوزا (1632 – 1677) وفلاسفة آخرين.
عندما كان في بريطانيا تعرَّف مباشرة على كتابات جون لوك (1632 - 1704) الفلسفية، بل كان على صلة به حتى تراسل معه، خصوصاً بعد صدور كتاب لوك (مبحث في الفهم البشري) عام 1690 ما دعاه إلى إتمام كتابه الحجاجي (أبحاث جديدة في الفهم الإنساني)، الذي شرع في كتابته عام 1701 يوم كان لوك حياً يُرزق، وأنهاه عام 1703 من دون أن ينشره بسبب وفاة جون لوك عام 1704، فظلَّ الكتاب لأكثر من نصف قرن قابعاً بأدراج موروثه الفلسفي حتى نُشر بلغته الفرنسية عام 1765؛ إذ توفرت لليبنتز الكتابة بالفرنسية واللاتينية، لأن اللغة الألمانية لم تكن مشهورة بعد في أوروبا القديمة (1).
لقد رحل هذا الفيلسوف تاركاً للأجيال من بعده مجموعة من المؤلَّفات والرسائل؛ فقد كتب أول ما كتب (في فن التركيب أو رسالة في التأليف)، (1666)، وكذلك وضع (دليلاً سياسياً مبرهناً لانتخاب ملك البولينيين)، (1666)، وكتب أيضاً عن (طبيعة الاعتراف رداً على الملحدين)، (1667)، وألف (في الدفاع عن اللاهوت بمنطق مخترع جديد)، (1669)، وناقش (نظرية الحركة المجرَّدة)، (1670)، وكذلك (نظرية الحركة العينية)، (1670)، ومن ثم انخرط أكثر في العمل السياسي والدبلوماسي، وراح بين الأعوام 1677 - 1680 يبلور أفكاره الفلسفية عندما كان مقيماً في باريس، فكتب (في التناسب الحق بين الدائرة والمربع)، (1682)، وكذلك في (المنهج الجديد لتعيين النهايات الكبرى والصغرى)، (1684)، ومن ثم كتب (تأمُّلات في المعرفة.. الحقيقة والأفكار)، (1684)، ووضع (مقال في الميتافيزيقا)، (1686)، ومن ثم (مذهب جديد في الطبيعة واتصال الجواهر)، (1694)، وكتب رسالة (في إصلاح الفلسفة الأولى)، (1694)، وكذلك (في الطبيعة بحدِّ ذاتها)، (1698)، وتالياً كتب (الثيوذيقا أو محاولات في العدالة الإلهية)، (1710)، و(المونادولوجيا)، (1714)، ناهيك عن رسائل متبادلة له مع عدد من المفكِّرين والعلماء والفلاسفة في زمانه والذي كان يراسلهم في مسائل معرفية وعلمية وفلسفية.
لعل الأجمل في حياة ليبنتز الفكرية أنه تاحت له الأقدار فرصة مكانية وزمانية لأن يتحاور مباشرة مع فلاسفة عصره، ويتواصل ويتداخل معهم فكرياً وعلمياً وفلسفياً؛ ففي باريس قرأ أعمال رينيه ديكارت (1596 - 1650)، وفي أمستردام قرأ أعمال صديقه باروخ سبينوزا، وفي لندن قرأ أعمال جون لوك، وغيرهم من الفلاسفة.
كانت لدى ليبنتز بعض الأفكار الشيطانية كما يصفه بعض أصدقائه؛ فقد حاول إقناع لويس الرابع عشر بغزو مصر عندما دسّ له تقريراً سرياً بذلك – صدرت ترجمته العربية مؤخراً (2) - وذلك لإبعاد غزو لويس الرابع عشر عن ألمانيا؛ البلد الذي ينتمي إليه ليبنتز. ليس هذا فحسب، بل يعتقد بعض المؤرخين بأن ليبنتز يفتقر إلى الشمائل الصادقة؛ فقد كانت في "أخلاقه دناءة وضعة، إذ كان شرهاً مقتراً مرائياً مخادعاً، لا يبحث عن الحقيقة من أجل الحقيقة نفسها، ولا يدافع عن رأي أو ينقد رأياً إلا لمصالح شخصية؛ ومن أمثلة ذلك ما يُروى عنه أنه كان أصدق الأصدقاء لباروخ سبينوزا في حياته، فلما مات هذا الأخير انقلب له عدواً لدوداً يهدم آراءه ويهجوه، وقد بلغ به الحقد أنه أثار حملة دينية على نظرية اسحق نيوتن (1642 - 1727) في الجاذبية لا لشيء سوى أنه أراد أن يهدم من إرادة الرجل" (3). وكانت محاكاته للآخرين فيما ينجزون من طبعه الغالب على أخلاقه، وهو ما فعله مع جون لوك الذي تألَّم أشد الألم عندما عرض عليه أحد الناشرين رسائل ليبنتز التي ينقد فيها رؤى لوك المنشورة في كتابه (مبحث في الفهم البشري) (4).
الموناد
في أغلب مؤلَّفاته التي صدرت قبل عام 1700، لم يتطرَّق ليبنتز إلى العلامة (The Sign) إلا لماماً، ففي مراسلاته مع "Antoine Arnauld" في عام 1686، أكَّد ليبنتز على أن الجواهر الفردة (Monads) علامات (5). وفي معرض رسالته إلى الشَّخص ذاته قال ليبنتز: "إننا لا يمكن أن نعد الشيء واضحاً أو تكون لدينا معرفة واضحة به ما لم نمتلك علامة عنه". وتحدَّث أيضاً عمّا اسماه بالعلامات الدالة على وجود فكرة حقيقية (6). وفي رسالة أخرى للشخص ذاته راح ليبنتز يؤكِّد على أن العلامات يمكن أن تفهم كدلالات على الماضي كما الحاضر والمستقبل (7). وفي معرض الآراء المتبادلة بينه وبيير بايل (Pierre Bayle)، نلاحظ على الأول استخدامه العلامات التي يتعامل بها المخيال البشري أو تأكيده على وجود العلامات المتخيَّلة، وهنا انتقال من علامات الظواهر إلى علامات الخيال أو المخيٍّلة. وكذلك يشير إلى العلامات العُرفية مثل جرص أو منبه الساعة (8).
والواقع أن هذه الأفكار حول العلامة كان ليبنتز قد لفت الأنظار إليها سريعاً وبمعالجة واحدة في كتابه (تأمُّلات في المعرفة.. الحقيقة والأفكار)، (1684)، وإلى دور العلامات في العمليات الذهنية، ودور الأفكار الرمزية بوصفها علامات في التفكير، وقدرتنا على استبدال الأفكار بالعلامات (9). وفي مؤلَّفه (في الطبيعة بحدِّ ذاتها)، (1698) (10) نراه يستخدم مفردة "العلامة" مرّة واحد خلال حديثه عن مستويات العلامات من حيث القوة والحضور أو المرتبة. أما في كتابه (المونادولوجيا) (11)، الذي نشره عام 1714، فقد ورد ذكر العلامة في الفص 64 من فصوصه كدلالة أو مؤشِّر على شيء لا غير.
ربما نعوِّل على كتاب ليبنتز (أبحاث جديدة في الفهم الإنساني)، (1703) لاستكشاف رؤية ما في فلسفته للعلامة، إلا أن لكتابه هذا حكاية تفوح منها رائحة المحاكاة أيضاً؛ فقد كتب فصوله وأمام منضدته كتاب جون لوك (مبحث في الفهم البشري) فأضاف، على صعيد العنوان، مفردة واحدة هي النعت "جديدة" لمنح عمله شيء من المغايرة، ومضى في محاكاته حد عنونة الفصول كما عنونها جون لوك قبله سوى القليل المختلف، ولعل الجدول المقارن يكشف عمّا جرى بشأن ذلك:
الأبواب مبحث في الفهم البشري/ لوك أبحاث جديدة في الفهم البشري/ ليبنتز
الباب الأول الأفكار الفطرية الأفكار الفطرية
الباب الثاني الأفكار الأفكار
الباب الثالث الكلمات الكلمات
الباب الرابع المعرفة والرأي المعرفة
جدول رقم (1) مقارنة بين الكتابين
وواضح وجه التشابه في تسمية أبواب الكتابين باستثناء الرابع منها حيث عنونه لوك بـ (Knowledge and Opinion)، بينما عنونه ليبنتز بـ (Knowledge) فقط. أما عنوانات الفصول والمباحث في كل باب (Book) من أبواب الكتابين - كتاب لوك وكتاب ليبنتز - فهي متشابه سوى القليل منها. وكل ذلك يعدُّ مؤشراً جلياً على محاكاة ليبنتز لكتاب لوك فيما يتعلَّق بجسديَّة أو إنشائية النَّص، وكان بإمكانه أن يتجاوز هذه المحاكاة نحو عمل أكثر أصالة من حيث البنية التأليفية، لكنه، وهذا هو شأنه دائماً، آثر البقاء في منطقة التقليد والمحاكاة لغرض تحقيق محاجَّة ندية صورية لأفكار لوك وبالصورة التي يعتقد أنها ناجعة.
تقسيم العلوم
ومثلما فعل جون لوك في الباب الرابع (Book IV) من كتابه آنف الذكر عندما قسَّم العلوم إلى ثلاثة، كذلك فعل ليبنتز في تقسيمه للعلوم في الباب الرابع من مؤلَّفه (Book IV) إلى ثلاثة. كان لوك قد صنَّف العلوم إلى: علم الفلسفة الطبيعية، وعلم الأخلاق العملية، وعلم أو مذهب العلامات أو السِّيمياء (Semiotike)، وهو علم يعين وعلى نحو ملائم، وبما فيه الكفاية، المنطق. كما أنه استخدم مصطلح "المنطق" بدلالته اليونانية التي تشير إلى رنين مفهوم (Logos) الذي يعني "الكلمة" (12). بينما أورد ليبنتز تصنيف لوك نفسه لغرض الرَّد عليه تالياً، أما تصنيف لوك للعلوم فكان، وبحسب قراءة ليبنتز، على النحو الآتي:
أولاً: علم الطبيعة والفلسفة الطبيعية، ويضمّان ليس فقط الأجسام وما يتعلَّق بها كالعدد والشكل، وإنما أيضاً الأرواح، والله، والملائكة.
ثانياً: الفلسفة العملية أو الأخلاق الذي يعلم وسيلة الحصول على الأشياء الخيرة والمفيدة، ويقترح ليس فقط معرفة الحقيقة، وإنما أيضاً ممارسة ما هو صواب.
ثالثاً: المنطق أو معرفة العلامات، لأن مصطلح (Logos) تعني "الكلمة"، كما أننا بحاجة إلى علامات (Signs) لأفكارنا حتى نستطيع تبادلها مع الغير أو تسجيلها لاستخدامنا الخاص، وربما إذا اعتبرنا، بكل العناية الممكنة هذا النوع الأخير من العلم وجدنا أنه يتناول الأفكار والكلمات، وحصلنا على منطق ونقد مختلفين عن ذلك الذي نراه حتى الآن، وهذه الأنواع الثلاثة؛ علم الطبيعة، والأخلاق، والمنطق، تعتبر بمثابة ثلاثة ولايات في عالم الذهن منفصلة عن بعضها البعض، ومتميزة عن بعضها تماماً (13).
مفردة "العلامة"
كان لوك قد استخدم مفردة "العلامة" في كتابه المذكور نحو خمس عشرة مرّة ضمن سياقات تحليلية وتركيبة متعدِّدة الوجود حتى ختم استخدامه لها في الفصل الخاص بتقسيم العلوم، وهو الفصل الأخير من الباب الرابع في كتابه آنف الذكر.
أما ليبنتز فقد استخدم المفردة ذاتها أكثر من ثلاثين مرّة في كتابه المذكور كان أغلبه في الباب الثاني الخاص بـ "الكلمات". وقد يكون عدد استخدام هذه المفردة في نص كل منهما دال واضح على التكرار المنتج لكنه يصطدم بطبيعة الخطاب الفلسفي لكل منهما؛ فليبنتز كفيلسوف ينظر إلى العالم بوصفه جوهراً أو جواهر روحية أو جواهر فردة أو مونادات (Monads) أو ذرات روحية، والجوهر هو "كائن قادر على الفعل، وهو وسيط بسيط أو مركَّب؛ والجوهر البسيط هو الذي لا أجزاء له، بينما الجوهر المركَّب هو المجموع المؤلَّف من جواهر بسيطة أو مونادات" (14)، وكل جوهر فرد أو ذرة روحية مختلفة عن الأخرى (15)، وكل التغيرات الحاصلة في الذرة الروحية مصدرها داخلي (16) وليس خارجياً. ويميز ليبنتز في الذرات الروحية بين الإدراك (Perception) والشعور (Consciousness) أو الوعي (Awareness)، ويرى أن النزوع (Appetition) هو الذي يدفع الإدراك من مرحلة إلى أخرى أو من مستوى إلى آخر (17).
أما لوك فهو فيلسوف تجريبي يؤمن بالتجربة المنظورة، ولا ينفي وجود الجواهر، لكن دلالات هذه الأخيرة تختلف لديه عمّا هي لدى ليبنتز، فهذا الأخير يتصوَّر العالم والوجود عبارة عن جواهر فردة، أما لوك فيعتقد بوجود ثلاثة جواهر، ويقول في هذا الصدد: "لدينا ثلاثة أفكار فقط عن ثلاثة أنواع من الجواهر؛ الله، والعقول المتناهية، والأجسام:
(1) الله، لا بداية له، خالد، لا يطال التغيُّر ذاته، وهو موجود في كل مكان؛ ولذلك، فإنه لا مجال للشك في هويته.
(2) كل روح [عقل] متناهي يكون لوجودها بداية في مكان وزمان محدَّدين؛ ولذلك، فإن علاقتها بذلك الزمان وذلك المكان ستحدِّد هويتها طالما ظلَّت موجودة.
(3) ينطبق هذا على كل جزيء من أجزاء المادّة، فهو يستمر في الوجود بوصفه هو نفسه طالما لم يُضَفْ إليه شيء من المادّة أو يُنْقَصُ منه" (18). إن الفصل بين هذه الجواهر الثلاثة يكشف بوضوح عن الفرق بين الرؤيتين؛ رؤية ليبنتز ورؤية لوك في النَّظر إلى العالم والوجود، وكل ذلك ينعكس على طبيعة تحصيل المعرفة لديهما، وبالضرورة ينعكس على طبيعة طريقة تمثيل العلامة في خطاب كل منهما.
كان لوك يرى أن "المعرفة مكتسبة، وأن العقل لوحة بيضاء ينقش عليها كل شيء من التجربة، وأن الحواس تنقل إلينا العالم الخارجي، بينما الاستبطان ينقل إلينا عالمنا الداخلي - الباطني من تفكير وشعور وإرادة وشك، ولما كان الاستبطان عنده حسياً فينتج من ذلك أن المعرفة عنده حسية وحسب. أما ليبنتز فيعتقد أن أفكارنا موجودة فعلاً في الذهن وجوداً بالقوة، وتخرج إلى حيز الوجود الفعلي أو تتحقَّق بالفعل عن طريق ما تثيره الحواس والتجربة. وعلى هذا النحو كانت المعرفة عنده فطرية من وجهة، ومكتسبة من وجهة أخرى؛ لا مكتسبة وحسب كما ارتأى ذلك لوك" (19).
ومن دون سبب يُذكر تجنَّب، بل وغيَّب، ليبنتز استخدام مصطلح (Semiotike) الذي استخدمه لوك في كتابه المذكور، لكن ليبنتز أبقى على مصطلح (مذهب العلامات = Doctrine of Signs) كما استخدمه معاصره جون لوك في متن كتابه إياه. ومثلما جاء لوك في ذلك الكتاب على ملفوظات مصطلحية ذات صلة بالعلامة كالعلامات الطبيعية، والعلامات العامّة، كذلك استخدمها ليبنتز في سياقات متعدِّدة بكتابه المذكور، وأستخدم غيرها مثل العلامة الإيمائية، والعلامة الدالة على الشيء. وتطرَّق إلى حاجة الذهن إلى العلامات كأدوات أو وسائل توصيل فكرة ما. وكل ذلك يشير إلى أن ليبنتز حاذى لوك حذو النعل بالنعل رغبة منه في المحاكاة أو التواصل الفكري والفلسفي رغم الاختلاف الرؤيوي بينهما. إلا أننا نلاحظ على لوك أنه اشتغل على العلامة في مجال علم المنطق، وهو ما نجده تالياً لدى تشارلز بيرس (1839 - 1914)، وإدموند هوسرل (1859 - 1938)، وبعض مناطقة (مدرسة فينا) في القرن العشرين، والفرق بينهما هو أن لوك، وهو يصنِّف العلوم إلى ثلاثة، كان يعي معارفياً (Epistemology) أهمية تأسيس علم وليد ينشأ في رحم المنطق هو علم العلامات (Semiotike)، أما ليبنتز فلم يكن يفكِّر بالطريقة ذاتها التي كان يفكِّر بها لوك، فليبنتز يعتقد أن المنطق أو "علم التفكير، والحكم، والاختراع، يبدو مختلفاً تماماً عن علم اشتقاق الكلمات Etymologies، كما أن استخدام اللغات هو شيء غير محدِّد وتعسفي، بل إن تفسير الكلمات يضطرنا إلى العمل في العلوم بالطريقة نفسها التي نتبعها في المعاجم" (20). وكل ذلك يعني أن ليبنتز لا يميل إلى إدخال علم العلامات أو الـ (Semiotike) في المنطق لأن ذلك من تخصُّص علم المعاجم أو علم اللغة، وكأني به يقول للوك إن مذهب العلامات هو أقرب إلى علم اشتقاق الكلمات والمصطلحات أو إلى علم اللغة. لكنه سيضع تصنيفاً أو صنافة خاصّة به للعلوم تقوم على ثلاثة نظم، هي: "نظام تركيبي يرتب الحقائق حسب نظام الأدلة كما يفعل الرياضيون، ونظام تحليلي عملي يبدأ بالخبرات، ونظام فهرسي للحدود" (21).
الخلاصة
ومع ذلك، وكما أشرنا سابقاً، نلاحظ أن ليبنتز توافر على استخدامات عدَّة لمفردة العلامة بوصفها قيمة أدواتية من دون أن يستبطن أية درجة من الوعي بأهمية ما هو سيميائي أو علاماتي كمشروع وعي بعلم مستقل يمكن أن يولَد أو مجرَّد اقتراح لعلم ممكن كما فعل جون لوك، وهذا عكس ما ذهب إليه الدكتور أحمد يوسف الذي قال: "لوك وليبنتز خصَّصا الجزء الأخير من مؤلفيهما لتصنيفات العلوم فأقرّا السِّيميائيات أو علم العلامات ضمن أصناف العلوم" (22). ففي الحقيقة أن لوك وحده هو الذي أقرَّ ذلك، أما ليبنتز فنأى بنفسه عن السِّيميائيات أو مذهب العلامات من حيث التأسيس المعرفي أو التنظير الفلسفي والخطابي الواضح رغم جلاء استخدامه لمفهوم العلامات في سياقات عدَّة مما كتب، وعلى نحو خاص في "الباب الثالث" من مؤلَّفه (أبحاث جديدة في الفهم البشري)، حيث نجد لديه علامات دالة على عالم الذهن كعلامات الأفكار العامّة " Signs of General Ideas" (23)، وعلامات دالة على معان مجرَّدة كفكرة التوازي "A Sign of Parallelism" (24)، وعلامات دالة على الكلمات، والرموز، والأرقام الجبرية "Words, numerals and algebraic symbols might be as they are Signs" (25)، وعلامات أخرى دالة على الأشياء الخارجية أو أشياء الخارج "The Outer Signs" + "Outward Signs" (26)، وكذلك علامات دالة على ما هو جسدي أو جسمي "Sign of Bodily" (27). فضلاً عن استعماله المتكرِّر لمصطلح الدلالة (Signification)، وهو مصطلح مركزي في عالم السِّيميائيات الذي تطوَّر بعده صوب أبعاد أخرى متشابكة تدور رحاها في عالم اللغويات.
إن هذه المنظومة من المفاهيم الإجرائية كانت بحاجة إلى تأسيس نظري أعمق، ولو حصل ذلك لكان ليبنتز قد سبق بقرون إدموند هوسرل، وتشارلز بيرس، وفردينان دي سوسير (1857 - 1913)، وغير ذلك من اللسانيين والفلاسفة الذين نظَّروا للسيمياء الجمالية رؤاها، خصوصاً وأن معاصره جون لوك كان قد فتح له الأفق عندما استخدم مصطلح (Semiotike) في نهاية كتابه آنف الذكر.
إن مشكلة ليبنتز، وكما يقول روبير بلانشي، هي أنه "لا يقدِّم نفسه كثوري؛ لا في المنطق، ولا في سواه؛ فطريقته هي استعادة ما قام به الآخرون، وقبوله لتعميقه" (28). لكنه للأسف لم يعمِّق ما دعا إليه جون لوك بشأن مذهب العلامات؛ ولذلك يبقى جوتفريد فلهلم ليبنتز مجرَّد فيلسوف احتفى بالعلامات من دون نظرية علاماتية أو سيميائية يُعتد بها.




الهوامش
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) عن حياة وأعمال ليبنتز انظر: (يوسف كرم: تاريخ الفلسفة الحديثة، ص 123 وما بعدها، دار المعارف، القاهرة، ط 5، د ت). وانظر أيضاً: (د. جورج طرابيشي: معجم الفلاسفة، ص 581 وما بعدها، دار الطليعة، بيروت، ط 3، 2006). وكان (أندريه روبينيه) قد نشر أعمال ليبنتز تحقيقاً وإصداراً عام 1954.
(2) انظر: (د. أحمد يوسف: الولع الفرنسي بمصر.. من الحلم إلى المشروع، ترجمة: أمل الصبان، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2003).
(3) د. زكي نجيب محمود: قصة الفلسفة الحديثة، ص 179، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1936.
(4) ج. ف. ليبنتز: أبحاث جديدة في الفهم الإنساني، (المقدِّمة)، ترجمة: د. أحمد فؤاد كامل، ص 57، دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة، 1983.
(5) Leibniz’s Notes on Arnauld’s Letter about Article, vi.1686 .In (Leibniz (G. w); The Correspondence between Leibniz and Arnauld, Jonathan Bennettp, 2009), P. 18.
يقول الأستاذ عبد الغفار مكاوي: "إن ليبنتز لم يستخدم مصطلح (المونادة) إلا منذ سنة 1697". انظر: مقدمته لترجمة كتاب ليبنتز (المونودولوجيا)، ص 26، دار الثقافة للطباعة والنشر، القاهرة، 1978.
(6) Leibniz to Arnauld, 14.vii.1686. (Ibid: p. 37).
(7) Leibniz to Arnauld, 30.Iv.1687 and 1.viii.1687. (Ibid: p. 61).
(8) Bayle’s Note and Leibniz’s Comments. In (Leibniz’s Exchange of Views with Bayle, Jonathan Bennett, 2010), (Ibid: p. 18).
(9) Leibniz (G. w); Meditations on Knowledge, Truth and Ideas, Jonathan Bennett, 2004, P. 2 - 3.
(10) Leibniz (G. w); Nature Itself, Jonathan Bennett, 2004, P. 9.
(11) Leibniz (G. w); The Principles of Philosophy known as Monadology, Jonathan Bennett, 2004, P. 9.
(12) Locke (John); An Essay Concerning Human Understanding, Jonathan Bennett, 2004, P. 265.
(13) Leibniz (G. w); New Essays on Human Understanding, (Book IV: Knowledge), Jonathan Bennett, 2005, P. 258.
وانظر أيضاً تصنيف جون لوك في نصه وبلغته الأصل:
- Locke (John); Ibid, P. 265.
(14) Leibniz (G. w); The Principles of Philosophy known as Monadology, Jonathan Bennett, 2004, P. 1.
يتناول هذا الكتاب فلسفته في الجواهر، حيث تتألف من قسمين؛ يشرح في أولها طبيعة الجواهر عامَّة، ما خلق منها وما لم يخلق، التي يتكوَّن منها العالم في مجموعه. ويفسِّر ثانيهما طبيعة العلاقات المتبادلة بينها على سبيل التأثير والتأثر، بحيث تكون عالماً واحداً بمفرده هو في رأيه أصلح وأفضل عالم ممكن. انظر: عبد الغفار مكاوي: المصدر السابق نفسه، ص 91. واقتبسنا نص ترجمته أيضاً الخاص بتعريف "المونادة" أو "الجوهر" كما ورد في كتاب (Monadology)، أنظر: ص 101.
(15) Leibniz (G. w); Ibid, 2004, P. 2.
(16) Leibniz (G. w); Ibid, 2004, P. 2.
(17) Leibniz (G. w); Ibid, 2004, P. 3.
(18) Locke (John); Ibid; Chapter xxvii: Identity and Diversity, P. 103.
وتجدر الإشارة إلى أن الدكتور أحمد أغبال ترجم إلى العربية "الفصل السابع والعشرين" من كتاب جون لوك (مبحث في الفهم البشري) بعنوان (الهويَّة والتنوُّع)، واعتمدنا على ترجمته في النَّص المقتبس فوق. (مقال إلكتروني) منشور في موقع:
(www.sophia - aghbal.com).
(19) د. علي عبد المعطي محمَّد: ليبنتز فيلسوف الذرة الروحية، ص 227 – 228، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 1985.
(20) Leibniz (G. w); New Essays on Human Understanding, (Book IV: Knowledge), P. 258.
(21) Leibniz (G. w); Ibid, P. 258 – 260.
وانظر: د. أحمد فؤاد كامل: المصدر السابق نفسه، (المقدِّمة)، ص 127.
(22) د. أحمد يوسف: السِّيميائيات الواصفة، ص 46 – 47، الدار العربية للعلوم ومنشورات الاختلاف، بيروت، 2005. وفي الصفحة 45 – 46 حَسِبَ الدكتور يوسف أن النَّص المقتبس هو لليبنتز، بينما في الحقيقة هو لجون لوك؛ فمن عادة ليبنتز في مؤلفاته الحوارية، وربما غير الحوارية أيضاً، انه يلجأ إلى أسماء يعرض بها لآراء محاوريه، بينما هو يختار اسم آخر ليعبِّر عن أفكاره. وفي كتابه (أبحاث جديدة في الفهم البشري) لجأ إلى اسم (Philalethes) للتعبير عن أفكار لوك، أما هو فقد اختار (Theophilus) للتعبير عن أفكاره. والنَّص الذي اقتبسه الدكتور يوسف من النَّص اللايبنتزي إنما يعود إلى (Philalethes)، أي إلى جون لوك.
(23) Leibniz (G. w); New Essays on Human Understanding, (Book III - Words), P. 138.
(24)Leibniz (G. w); Ibid, P. 142.
(25) Leibniz (G. w); Ibid, P. 156 - 157.
(26) Leibniz (G. w); Ibid, P. 152.
(27) Leibniz (G. w); Ibid, P. 153.
(28) روبير بلانشي: المنطق وتاريخه.. من أرسطو إلى رسل، ترجمة: د. خليل أحمد خليل، ص 262، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط 2، بيروت، 2002.






تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى